الأحد 08 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يتاجرون فى أى وكل شىء.. أبناء الإله «خرتى» فى الثقافة المصرية

حرف

- تجتذب مهنة «الخرتية» كل يوم وجوهًا جديدة من شباب الجامعات والغلابة والعاطلين عن العمل

لن نتعرض كثيرًا للتعريفات التى أطلقها المفكرون على المثقف، لأنها فى كل الأحوال كانت نتاج مراحلهم التاريخية ودرجة التطور العلمى- التقنى، ومستوى التطور الثقافى والمعرفى. وفى نهاية المطاف اعتمدت غالبية التعريفات على تراث نظرى- فلسفى. بالتالى، فالتعريفات كثيرة، من بينها «المثقف العضوى» و«المثقف النقدى» و«المثقف الثورى» و«المثقف التقليدى» و«المثقف البيروقراطى» و«المثقف النخبوى» و«المثقف المهنى» و«المثقف المحترف» و«المثقف الانتقالى» الذى تحدثت عنه الدكتورة شيرين أبوالنجا فى كتاب بنفس العنوان.

فى السنوات العشرين الأخيرة ظهر مثقف من نوع جديد نسبيًا، وهو «المثقف الخِرْتِى». ومن الصعب أن نحدد بالضبط، هل هو نتاج «ثقافة خرتية»، أم أنه هو الذى كان السبب فى إنتاج «الثقافة الخرتية». لا أحد يدرى من الأسبق، بالضبط مثل «البيضة والفرخة». لكننا الآن أمام أمر واقع نرى فيه الخرتى والثقافة الخرتية. ولا شك أن الأخيرة لون من «الإبداع» فى ذاتها، لأنها تنوعت بين أشخاص كرسوا أعمالهم لخدمة أغراض لا علاقة لها بالثقافة والفكر، وأشخاص تاجروا بالثقافة بهدف صناعة ثقوب سوداء ومناطق فراغ فى الثقافة المصرية لتحل محلها ظواهر ثقافية مزيفة لخدمة جماعات ودول أخرى. وفى ظل السيولة الثقافية والمعلوماتية، والخفة الفكرية، والإبداع السريع «التيكتوكى» و«الترينداتى»، وآليات الترويج وتوسيع مساحات الشهرة التى لا تتعلق بالقيمة، ولا حتى بالمعنى، وإنما ترتبط بالصخب والإلحاج واللزوجة، أصبح «الخرتيزم» لونًا ثقافيًا، أو خليطًا من التطلع النفعى واليأس والاستسهال والعمى الروحى والضرر المجانى، سواءً كان الخرتى واعيًا لذلك أو غير واعٍ. 

الإله خِرْتِى

«خرتى»- إله مصرى قديم. على الرغم من أن الأدلة الأثرية تؤكد وجوده منذ بداية الأسرة الثانية، إلا أن دوره الأسطورى الأصلى خلال هذه الحقبة غير واضح. كان «خرتى» إلهًا مصريًا فى العالم السفلى. لم تظهر أول الأوصاف الأسطورية لدور «خرتى» حتى الأسرة السادسة فى متون الأهرام.

وظهرت أولى الصور الممثلة لـ«خرتى» فى أوائل الأسرة الثانية، فى عهد الملكين «حتب سخموى» و«رع نب». ويتم تصويره عادة ككبش مستلقٍ ومحنط. وفى حالات نادرة، تم تصويره على شكل ثور بقرون. وترتبط صورته دائمًا بعلامات الرموز الهيروغليفية التى تشمل شكل حجر الذبح ورغيف الخبز، ما يعطى قراءة باسم «خرتى».

كان خرتى يُعبد منذ أوائل الأسرة الثانية، وظهر اسمه لأول مرة على أوعية حجرية للملك «سنفر كا». وذكرت نقوش الأوعية الحجرية من عهد الملك «بر إيب سن» لأول مرة لقب «خادم الإله خرتى» (بالمصرية: حم نتر خرتى). كان المركز الرئيسى لعبادة خرتى يقع فى ليتوبوليس «أوسيم حاليًا»، وتم تأسيس مركز عبادة ثانٍ لاحقًا فى «نيسات» (الموقع الدقيق لها غير معروف).

كان خرتى شخصية متناقضة، تكشف متون الأهرام أنه كان يُعبد باعتباره الدليل، أو المراكبى، الذى جلب الملك المتوفى إلى «الموقع البعيد». وكان الناس يخشون «خرتى» باعتباره يجسد الموت، وأنه إله يعتاش على التهام قلوب الناس، ما يجعلها تتوقف عن النبض. وتكشف متون الأهرام أن خرتى كان يهاجم القلب الجسدى «حاتى» للأشخاص الذين يموتون، وليس القلب الميتافيزيقى الرمزى «إيب» كمقر للأفكار والمشاعر. لهذا السبب، تم توجيه العديد من التعاويذ والصلوات إلى خرتى فى محاولة لمصادقته واسترضائه. 

وكان المصريون يصلون صلوات لرع. ومن هذه الصلوات: «لتأخذ الملك المتوفى بعيدًا عن خرتى». وكانت هذه الصلوات تضع أبانا الأكبر «الأسطورى» أوزوريس مقابل «خرتى» فى شكل من أشكال المواجهة بين أبينا أوزوريس وبين الشر مجسدًا فى «خرتى» مبعوث «ست»، الشر الأكبر. 

لم يُذكر خرتى فى نصوص التوابيت الشهيرة من فترة الدولة الوسطى. وتم استبداله بالإله «أكر»، الذى أصبح المراكبى فى صلوات كتاب الموتى. وبعد ذلك ظهر اسم خرتى مرة أخرى، بوصفه «حارس يرشد المركب السماوى لرع». ومن هنا تم تثبيت وظيفة خرتى كـ«مرشد». وأصبح فى أيامنا هذه مرشدًا سياحيًا. ويعتبر خرتى هو المرشد المزيف مقابل المرشد المهنى العادى. 

و«الخرتى» حاليًا، هى كلمة يرددها المصريون، ويجمعونها فى كلمة «خرتية». وهى مهنة منتشرة منذ سنوات طويلة بدرجات وأشكال مختلفة فى جميع المدن السياحية فى مصر. وتطلق كلمة «خرتى» على كل من يعمل لدى «بازارات» الأنتيكات والتحف والعطور الشرقية والجلود. وأصبحت تطلق على كل من يستطيع أن يلبى كل «طلباتنا»، من مخدرات ونساء وعملات أجنبية وسهرات وبيوت دعارة.

ومهمة «الخرتى» اصطياد السياح، فرادى أو جماعات، من شوارع القاهرة، وإقناعهم بشراء بضائع من البازارات التى يتعامل معها مقابل عمولات. وفى حال موافقة السائح وشرائه شيئًا من البازار، يصبح لهذا «الخرتى» الحق فى مكافأتين ماليتين، واحدة من صاحب البازار الذى باع، وأخرى من السائح الذى اشترى.

و«الخرتية» لهم لغة خاصة يتفاهمون من خلالها، ولا يختلطون بمن يعمل خارج مهنتهم من المصريين. حتى علاقاتهم العاطفية مقصورة على الأجنبيات اللواتى يتعرفون عليهن أثناء عملهم اليومى. 

تجتذب مهنة «الخرتية» كل يوم وجوهًا جديدة من شباب الجامعات والغلابة والعاطلين عن العمل والنصابين والمحتالين واللصوص والتافهين وأولاد الأفاعى «والصفة الأخيرة أطلقها الكاتب الراحل سعد الدين حسن على أصدقائه المثقفين المصريين من قبيل المزاح». وحدث ذلك بالتوازى فى ظهور ما يسمى بـ«جروبات القراءة» و«أبناء المحتوى» و«عرابين السفريات والمؤتمرات» و«سماسرة الجوائز الأدبية»، وعشرات النماذج والظواهر الأخرى التى تضم كتابًا ونقادًا وروائيين وشعراء.

يبدو أن تعريفات المثقف، التى بدأنا بها الموضوع، لم تعد كافية للتعبير عن قدرات المثقف الجديد الذى ظهر خلال السنوات الخمس أو العشر الأخيرة، ولا كافية للإحاطة بالنوعيات الجديدة فى «المرحلة الخرتية فى الثقافة المصرية» التى نمر بها. بالتالى، لجأنا إلى محاولة استحداث مصطلح «المثقف الخرتىa» و«الخرتيزم» لعلهما يحيطان بعدد من الظواهر والنماذج، ومن ضمنها جروبات القراءة التى تعتبر أحد أوجه «المثقف الخرتى». غير أن الأمر أكثر عمقًا وتعقيدًا، لأنه لا يقتصر على هذا النوع «الخفيف» الذى يسمى بجروبات القراءة، و«أخويات المروجين الأحرار»، و«النجارين الأحرار»- على غرار «أخوية البنائين الأحرار» الماسونية. فهناك جحافل المثقفين الخرتية الذين يعملون بهمة ونشاط داخل مصر، فى شكل «لوبيات» لصالح ثقافات أخرى، وجحافل تعمل خارج مصر للترويج لأحط وأفقر نماذج الثقافة وأكثرها ضحالة باعتبارها الثقافة المصرية.