الإثنين 16 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

أهداها عبدالمعطى حجازى إلى فرج فودة بعد استشهاده.. قصيدة «شفق على سور المدينة»

فرج فودة
فرج فودة

دُمُه الذى أهريق فى أقصى المدينة وردة

قامت من الرمل الذى مطر البلاد

دُمُه الطمى المعذب تحت عصف الريح،

صرختنا الأخيرة،

جرحنا المفتوح فى هذا السواد 

دمه من الشمس الأسيرة خُصلة من شعرها

شفق على سور المدينة راعفٌ قانٍ

يردُ ظلام يأجوج ومأجوج،

تألق جمرة ياقوتة

ستظل تشهق فى الرماد

إلى نهاية ما يكون من الخراب

إلى القيامة والمعاد

هَمَجٌ رمت بهم الصحارى جَنة المأوى

تهر كلابُهم فيها، وتأجر فى المدى قطعانُهم

يمشون فى سُحُب الجراد

كأن أوجُههُم لغربانٍ،

وأعينَهُم لذؤبانٍ، 

وأرجَلهم لثيرانٍ،

يدوسون البلادَ، ويزرعون خرابهم فى كل وادْ

رملٌ منازلها،

حدائقها وكانت للظلال الخُضر،

كانت لليمامة فى الضحى الساجى.

وكانت للزنابق والأقاحْ

صارت خرائب سَبْخة يتصاعد الكبريت

والقطران فيها

رملٌ شوارعُها، مقاهيها، صُدورُ نسائها،

صُحُف الصباحْ

رملٌ غريبٌ يرتعيها

متناسلُ كالسوس ينخر فى البلاد وساكينها

رملٌ مَدائنٌها، قُراهَا

نهرُها المولودُ من خطو الربيع على 

التلال البكر،

من قوس سماوىٌ تحدر واستراح على

فِراشَ الأرض،

من ضرع إلهىٌ تدلى فوق أفواه الخليقة، 

نهرها فرسُ السماء، براقُها القُزحىٌ

سارق عشبها للناس،

خر مُحاصرًا بالرمل، مسفوحًا على وجه البطاح

رملٌ أهلتُها، منارتُها، نجوم سمائها

رملٌ،

وأهلوها الذين تصحروا

صاروا دُمى محشوة بالرمل ترحلُ فى اليباب،

تجوبُهُ تيهًا فتيها

من يشترى هذه الدمى؟ من يشتريها؟ 

أبناءُ أوزوريس!

ما شجَر أفاءَ على ثرى إلا وفيه من أبيهم خفقةُ

ما قصعة للخُبز، ما إبريقُ ماءٍ ليس فيه حنَيةُ من ضلعةُ

أبناءُ أوزوريسَ صاروا لليبابِ،

وجُوههم، وأكفُهمْ، أهدابُ أعينهمْ، أصابعهم، لحاهُم،

خبزهم رملٌ، خُطاهمْ فى الغُدو وفى الرواحْ

أبناؤهم وبناتُهم رملٌ مُباحْ!

وأنا الذى كحلت عينى من صبا ذات العمادْ

أقلبُ الطَرْفَ الحسيرَ بها،

وأنشجُ ليس تُسعفنى دموعى

فى كل رُكن لى من الذكرى بكاءَ،

تحت كلَ شجيرة قبلتَ وردًا ناعمًا

وشربتُ كأسًا فاغمًا،

ومشيتُ مختالًا يطاوعنى النديم،

ويرتمى زبدُ الليالى خلف أذيالى،

وأوغل فى التألق والسطوع

يا ليت إنى أستطيعُ

إذن وضعت مكان ما ينهارُ من أجرْة أو شُرفة

ضلعًا سويًا من ضلوعى

إرمُ التى لم يبن بان مثلها

كانت ولم تَكُ بعدُ عاد

كانت لفلاحينَ، ملاحينَ، عشاقِ، بناةِ،

مُطربين، مؤذنينْ

لا للطغاةِ الهالكينْ

كانت كأن قصيدةٌ خرجت من الكلمات، فهى مدينةٌ

نهرُ يضاجع ربوةً

تنجاب رغوتُه السخية عن حدائقَ ذات أعنابٍ،

منازل ذات أقمارٍ، مدى

كون من الأحلام والرغبات،

إيقاعات أجساد مسهدة تطير بأمسيات الصيف،

حين يطيبُ فى الصيف السهادْ

صرخات ميلادٍ، وأغنيات عرسٍ.

دورة سحرية يتعانق الأحياءُ،

والأمواتُ فيها،

والأجنةُ، والسنونُ الخضرُ، والسودُ الشدادَ

إرمُ التى لم يبن بانٍ مثلها

من يفتديها الآن وهى تئن تحت الرمل،

من يعطى لسيدة البلاد ذراعه؟ من يفتديها؟

دَمُهُ الذى أهريق فيها

دَمُهُ نهاية قاتليه وقاتليها

دَمُهُ ولادتُها الجديدة، صرخة

طافت على إرم تناديها، وتمسح خوفها عنها،

وتَمسح عن بنيها

دَمُهُ عبارتُه التى صدَقَتْ فساوت روحَهُ

صارت كلامًا خالقًا

صارت دمًا يرفضُ من قلب المداد

يا أيُها الرمل ارتحل!

يا أيُها الرمل ارتحل!

واذهب لشأنك يا جراد!

إرَمُ الجديدة من دم الكُتاب تولُد،

من كلام الشاعر المنفى عنها يومَ عاث بها الفسادُ

وعربدت فيها الطغاة

الآن أصبح للعبارة أن تسير على الشفاه

فتنحنى كل الجباه