المسافة صفر.. أيام الخوف والفزع فى عالم صامت على الجرائم

ينتظر القاص والسيناريست محمد رفيع صدور أحدث مجموعاته القصصية «المسافة صفر»، التى تتكوّن من 18 قصة، تتنقّل بسلاسة بين الواقع السياسى القاسى والأسطورة، بين الحصار الخارجى والاغتراب الداخلى، وبين التوثيق القريب والمجاز البعيد.
وتجمع بين قصص المجموعة تيمة مركزية هي: «التحوّلات التي تصيب الإنسان حين تلتصق المسافة بينه وبين الموت، أو بينه وبين الحقيقة»، ومنها جاء العنوان «المسافة صفر» بمعناه الوجودي والسياسي معًا.
«حرف» تنشر مقدمة المجموعة، التي تصدر قريبا عن دار روافد للنشر والتوزيع.
الكتابة بعد الموت
1
منذ زمن، والمدينة محاصرة، والسماء رمادية باهتة، لا تمطر سوى الخوف. الخبز أصبح شائعة يتداولها الأطفال، والماء ذكرى تسكن أفواه العجائز والشيوخ. الجدران باردة، كأنها لم تعرف الشمس أبدًا، والأبواب لا تُطرَق إلا لتُكسَر. كل فجر، يخرج الأب من بيته كأنه يودّع العالم للمرة الأخيرة. لا يلتفت، ولا يكتب وصيّته إلا بخطواته المتعبة على المال. يربّت على رأس طفلته ويبتسم بهدوء؛ ليس لأن الخروج بطولة، بل لأنه تأجيلٌ للموت، وربما إيهامٌ بأن الحياة ما زالت تُشبه الحياة. هناك، فى قيظ الجوع والصحراء، داعبت عقله الفكرة. قال فى سرّه: «لو رجعت اليوم، بخبز أو بدونه.. سأفعلها». فى الليل، داخل الغرفة الضيّقة، تضىء شاشة زرقاء العتمة. يجلس أمامها لساعات؛ أصابعه متورّمة من الكتابة، وعيناه حمراوان كذئب. لم تكن الفكرة جنونية، بل عبقرية. قرّر أن يكتب منشوراتٍ مؤجّلة على «فيسبوك»، مبرمجة لتُنشر كلّ يومٍ فى ساعة محددة. فعل ذلك لخمسة أعوام مقبلة. كتب رسائل لأولاده: «إذا لم تجدونى، فتذكّروا أن اسمى موجود فى الضوء». وكتب لزوجته: «إن تأخّرت، فذلك لأننى أكتبكِ فى الغيم.. تذكّرى رائحتى». وكتب للعالم: «نحن لسنا هنودًا حُمر». كل ليلة، تتشابك أصوات المفاتيح مثل نقر المطر على زجاج الذاكرة. رائحة العرق والزعتر اليابس تختلط فوق يديه. وحين أنهى منشوراته لخمس سنوات، مبرمَجة لتُنشر فى موعد الفطور الافتراضى، خرج كما يفعل دائمًا، لكن شيئًا ما فى وجهه كان مختلفًا. عيناه تلمعان كمن رأى خلاصه، كمن انتصر على الدبّابات، والقنص، وخوف الاعتقال. ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، كأنها توقيع أخير، أو فتاة بكر تحت قوس النصر. لكنه لم يعد فى ذلك اليوم؛ لأن رصاصةً كانت تختبر قوتها على عظام الرأس، لكنها، رغم كل شىء، ما كسرت الابتسامة.
2
الأسود والصراخ يلفّان البيت.. حتى جاء أول منشور: «صباح الخير.. من رجلٍ ما زال يكتب». فتحت الهاتف. تفاجأت. ضحكت. بكت. معًا، كما لو كان لحنًا ينساب من أوتار كمان. قرأته مرّات ومرّات، ثم وضعت الهاتف أمامهم على الطاولة الصغيرة. فى اليوم التالى، كتب: «القطط بخير على السطح، والأحلام تقفز من النوافذ». وبعده بيوم: «إن نادتكم رائحة الخبز، فتّشوا تحت الوسادة.. أنا هناك». ثم كتب: «أيها العالم الصامت على الجرائم.. كلُّ من يموت منّا يشتكيكم إلى الله». كانت ترى الشاشة كلّ يوم من خلال الدموع، تمسحها كما مسحت على خدّه. الجيران بدأوا يتابعون الصفحة. الجميع كان يقرأ منشوراته كما يقرأ دعاء الصباح. بعضهم بكى، البعض الآخر ابتسم، لكنّ الكل شعر أن الميت ما زال حيًّا يكتب.
3
مرّ عام. وفى أحد الصباحات، طرق الجنود الباب. ثلاثة رجال بلون العدو، وجوههم متجهّمة، أعينهم جامدة كالخرسانة. سأل أحدهم: «هل هذا منزله؟ نريده فى نزهة. منشوراته تزعزع الأمن.. يُحرّض ويُحرّف». لم تصرخ المرأة، لم تبكِ، بل ضحكت، مجلجلةً فى وجه الأعداء. ولمّا كشروا عن غيظهم، قالت: «أتدرون لماذا ضحكت؟ لأنكم تأخّرتم سنة كاملة.. زوجى قتلتموه العام الماضى». أزاحها أحد الجنود بنظرة شك، ودخل. رائحة قهوة قديمة فى المكان، بخورٌ خفيف، أغطية مطويّة بعناية، علمٌ يابس على الجدران. لا شىء يثير الريبة، سوى تلك الابتسامة التى لم تفارق وجهها. التفت أحدهم إلى الهاتف الموضوع فى الزاوية. كان منشور جديد قد ظهر للتو: «إن قرأتم هذا، فاعلموا أننى ما زلت أكتب لكم». الضابط فتح ملفًا إلكترونيًا على جهازه. بحث عن الاسم. ظهرت النتيجة كمخرزٍ فى عينه: «قُتل برصاصة مباشرة فى الرأس- منذ عام». حدّق فى الشاشة طويلًا، ثم أغلقها دون تعليق. أشار بيده: «انسحبوا». غادر الجنود ووجوههم متيبّسة، كأنهم صُدموا بحقيقة لا تفسير لها. فى الخارج، وقف الجيران يراقبون المشهد، يبتسمون كما لو كانوا فى عرضٍ مسرحى. هناك، فى تلك المدينة، لا وقت للعزاء. الموتى أكثر من شراهة التراب. لكنها أقسمت أن تقيم له عزاءً بلا بكاء، ولا لطم.. فقط أغانٍ هادئة، شاى بالنعناع، وحلوى قُدّمت للأطفال. علّقت صورته على الجدار، وكلما تذكّر الجيران معها منظر الجنود، ضحكوا، ضحكوا كما لو أن الموت خسر معركته أمام الكتابة، والفرح، ورائحة الزعتر.
نشرة الجثث
فى البدء، لم يضحك أحد، ولم يغضب. ظنّوه يمزح، مجرد مهرّج حزين صعد إلى سطح مبنى البلدية، يرتدى معطفًا رماديًا باهتًا كأن الغبار نبت عليه. رفع ميكروفونًا بلا علامة، كأنه التقطه من عصر مضى، ثم قال بنبرة من يقرأ شيئًا لا يعنيه: «صباح الخير. يُتوقّع اليوم ظهور خمس عشرة جثة فى حى الغزالة، معظمها لرجال فى منتصف العمر. نرجو من المواطنين عدم لمس الجثث، وترك المجال للمصورين. شكرًا لتعاونكم».
لم يتغيّر شىء فى صوته. كأنه يقرأ درجات الحرارة، كأنه يتلو صلاة محفوظة. مرّ اليوم الأول كحلم ردىء. الناس التفتوا، لكنهم لم يحدقوا. فى اليوم الثانى، توقّف بعضهم. فى اليوم الثالث، فتحوا دفاترهم. أخذوا يقارنون: التوقعات والتحقق. والعجيب أن الرجل كان دقيقًا، بلا زيادة ولا نقصان.
تحوّلت نبرته إلى طقس يومى، بين أذان الفجر وبخار الشاى. طفل صغير يحفظ أحياء المدينة من نبرة رجل لم يبتسم قط. قال ذات صباح: «حى المزارع: ست جثث، إحداها لطفل. حى الرحمة: لا جثث، لكن انفجارًا سيُسمع بين الثانية والثالثة ظهرًا. يرجى عدم الهلع. حى النخيل: قبر جماعى جديد فى البستان المهجور. يرجى عدم النبش. لا أحد نجا».
الرجل؟ لا أحد عرف اسمه. أحدهم قال إنه كان صحفيًا. آخرهم قال: ضابط سابق. عجوز أقسم أن عينيه ليستا بشريتين، بل تشبهان عينى أخيه الذى اختفى فى الحرب منذ ثلاثين عامًا. قال: «نفس النظرة، نفس الهدوء.» لكنه كان يعرف. يعرف أكثر من اللازم. كأن المدينة تهمس له فى المنام، كأن الجدران تنقل له أنينها، كأن التراب يرسل له صور القتلى قبل طلوع الشمس.
مرة، قال: «غدًا، سيخرج أربعة رجال من الحى الشمالى. لن يعودوا. سنجد أحذيتهم فقط على عتبة المقبرة القديمة، تلك التى لم يزرها أحد منذ وقعت الكارثة».
وجاء الخميس. الناس انتظروا البيان. وقفت الأمهات عند النوافذ، وتجمّع الأطفال أسفل المبنى. وحين خرج، بدا أكثر صمتًا من عادته. رفع الميكروفون، نظر نحو المدى، ثم قال بصوت خافت كأنه خرج من بئر: «اليوم... لا جثث».
سكت. لم يشرح، لم يعتذر، لم يبتسم. مرّ اليوم كمعجزة عرجاء. لم يُقتل أحد، لم يُسمع انفجار، لم يُفتح قبر. السماء ظلّت زرقاء رغم دوى بعيد لم يصل الأرض.
ضحك الناس أولًا. ثم بكوا. ثم خافوا. فهذا الرجل لا يخطئ، أليس كذلك؟ فإن قال: «لا جثث»، ولم يكذب... فهل توقّف الموت؟ أم أن الجثث صارت تمشى؟
فى اليوم التالى، لم يظهر. لا فوق السطح، ولا بين الركام. بحثوا عنه فى كل مكان، فوق الأسطح، داخل البيوت المهجورة، فى المقبرة القديمة. لكنهم لم يجدوا إلا الميكروفون، معلّقًا بخيط صدئ، وعليه سطر مكتوب بلون دم لا يجف:
«توقفت عن التنبؤ، لأن الجثث.. أصبحت أنتم».
قرأها صبىّ بصوت مرتجف، فهربت منه الكلمة الأخيرة. منذ ذلك اليوم، توقّف الناس عن العدّ. لم يعد أحد يتساءل عن العدد أو التفاصيل. صاروا يغطّون الجثث بأسمائهم، ويغسلون دمها بأنفاسهم.
لكن بعضهم كان يعود ليرى السطح، لعل الرجل يعود. فربما، فقط ربما.. يقول ذات صباح: «اليوم... لا أنتم».