الإثنين 11 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

الشيوعى السابق.. أيام مع صلاح عيسى

صلاح عيسى
صلاح عيسى

- رفض نشر مقالى الذى هاجمت فيه محمود درويش قائلًا: إنت مش عارف إنه «سلطة» وصديق ياسر عرفات!

- مجلة أسبوعية تصدر عن «الأهرام» أجرت معه حوارًا عنوانه: كنت شيوعيًا عندما كانت هناك شيوعية

- لماذا أضرب عن العمل مديرًا للتحرير تحت إمرة صهره رجاء النقّاش فى جريدة «القاهرة» قبل صدورها؟ 

فى مثل هذه الأيام من صيف عام 1998، بدأت العمل فى جريدة «القاهرة»، لسان حال وزارة الثقافة المصرية، التى كانت حديث المثقفين والصحفيين وقتها، لأنها صدرت بعد صراع طويل ومرير بين الناقد الراحل رجاء النقّاش ومجموعته من جهة، ونسيبه «صهره» الكاتب الكبير صلاح عيسى ومجموعته، من جهة أخرى.

لم أكن مُطلعًا على خفايا هذا الصراع، بحكم أننى لا أهتم بما لا يُعنينى، ولست من هذا الحزب أو ذاك، حتى أصبحت أعمل فى «القاهرة»، وصرت محسوبًا على مجموعة صلاح عيسى، وما أنا من مجموعة صلاح عيسى.

صلاح عيسى 

وفى تلك الفترة، أرادت وزارة الثقافة بقيادة الوزير الفنان فاروق حسنى، إصدار جورنال أسبوعى كبير. وذلك، ضمن النهضة الثقافية الواسعة التى قادتها السيدة سوزان مبارك، ولم تر لها الثقافة المصرية مثيلًا، حتى الآن. وتلك شهادة أخرى.

وصل الصراع بين «النقاش وعيسى»، حينها، إلى مستويات سياسية عليا، فقد كان الأول يقابل الرئيس الراحل حسنى مبارك فى مناسبات شتى. وكان مبارك يُقدّره بشكل شخصى. وهو المرشح الأوفر حظًا لرئاسة التحرير.

أمّا عيسى، فقد كان يمدح فاروق حسنى ويدافع عنه بكل حماس، فى مقالات نشرها بجريدة «العربى» الناصرى، نال فيها بأسلوبه البديع من أعداء الوزير، ومنهم جمال الغيطانى. ويمكن اعتبار هذه المقالات اللاذعة درسًا فى الكتابة الساخرة «ذات الغرض»، لأنه كتبها- عن اقتناع- بأن حسنى أحد البنّائين العظام، ولأن عينه كانت على منصب رئيس تحرير «القاهرة». 

كان الوزير، والسيدة سوزان مبارك نفسها، يريدون عيسى. لأنه صاحب قلم حاد وساخر. وهو «خريج يسار» ومخضرم، سبق له أن دخل معارك سياسية وثقافية شتى. 

بينما كان النقّاش مثقفًا من ذوى الياقات البيضاء، يكتب بعقلانية شديدة. كتابة مثقفين، لن «تأكل» مع أعداء فاروق حسنى أمثال جمال الغيطانى. صحيح أن النقاش يحاور قامات كبرى مثل نجيب محفوظ، لكنه لا يستطيع مواجهة الثعالب الصغيرة والكبيرة «المُفسدة للكروم» من أعداء الوزير.

رجاء النقاش

رغم ذلك، فوجئ الجميع حين صدر العدد التجريبى الأول فى حجم «التابلويد»، وعليه اسم النقاش فى الترويسة رئيسًا للتحرير، وعيسى مدير التحرير. مع أن الأخير لم يحضر مرة واحدة لمقر الجريدة فى الزمالك خلال فترة التجهيزات، التى استمرت عدة أشهر، وكان الوسط الثقافى والصحفى كله يتابعها لحظة بلحظة.

ظهر اسم عيسى فى منصب «مدير التحرير»، مع أن الذى أصدر أول عدد تجريبى هو النقاش. ولم يضع عيسى قلمًا فى هذا العدد، بل أضرب عن العمل قبل أن يبدأ!

هذه «صحافة نُخبة»

عندما وصل العدد التجريبى من مجلة «القاهرة» إلى رئيس مجلس الإدارة فاروق عبدالسلام، مدير مكتب الوزير، أدرك الرجل بفطنته أن النقّاش لن يصلح رئيسًا للتحرير، وأن هذا العدد لن يعجب فاروق حسنى، الذى وصفه بعد أن رآه بكلمة واحدة: «دى صحافة نُخبة».

ولم يكن صلاح عيسى مثقف نُخبة، يكتب مثل رجاء النقاش لـ«القلة السعيدة». بل كان ابن بلد، وصحفيًا خاض غمار التنظيمات الشيوعية السرية، واعترك الحياة، وتمرمط فى سجون عبدالناصر والسادات. وفوق كل ذلك، صاحب أسلوب جذاب يفهمه العامة، ويُقدّره الخاصة. وتلك، غاية كل كاتب.

أُطيح بـ رجاء النقاش من رئاسة التحرير، وتولى صهره عيسى المسئولية. فأثار قبوله هذا المنصب، وهو أحد رموز الصحافة اليسارية المعارضة، استنكار بعض كبار المثقفين على اعتبار أنه «دخل الحظيرة».

لم يكن الرجل يتنكّر لماضيه الشيوعى، كما فعل غيره، لكنه كان يبرر تراجعه علنًا عن قناعات سابقة تبيّن له انتهاء صلاحيتها. وأذكر أن مجلة أسبوعية تصدر عن مؤسسة «الأهرام» أجرت معه فى تلك الفترة حوارًا، عنوانه هكذا: كنت شيوعيًا عندما كانت هناك شيوعية.

أيامها، وقع تلاسن علنى على صفحات الجرايد بين عيسى والغيطانى. وكان الاثنان معًا فى تنظيم شيوعى سرى خلال السبعينيات، فاتهم كل منهما الآخر بأنه هو الذى «اعترف» للأمن تحت التعذيب بأسرار هذا التنظيم.

عرفت صلاح عيسى، بعد ذلك، على مدار ٣ سنين خلال الفترة «١٩٩٨- ٢٠٠١»، رجلًا ظريفًا، ابن نكتة، يحبك قفشات لاذعة فى كل لحظة. ووجدته مثقفًا موسوعى الثقافة، أقرب للمؤرخ منه إلى الكاتب، يكتب كتابة فكاهية من الطراز الأول، لكنها- مع ذلك- كتابة عميقة فيها إحالات بعيدة. خُذ مثلًا، تعبيره المشهور عن «الثعالب الصغيرة المُفسدة للكروم». فلا هم يأكلون العنب، ولا هم يتركونه لغيرهم. وهذا التعبير مأخوذ من «العهد القديم».

وكان فى استطاعة الرجل، كما قال لى، الذهاب إلى «دار المحفوظات» يوميًا، من التاسعة صباحًا حتى انتهاء وقت الدوام، لكى يراجع بلا كلل آلاف القصاصات الرسمية والوثائق القديمة عن حادث معين، مثل اغتيال البطل الشعبى أدهم الشرقاوى. ويخرج من وراء ذلك التنقيب بمعلومات مناقضة تمامًا للمتخيّل السائد، ليؤكد أن «أدهم» هذا لم يكن بطلًا ولا يحزنون، بل هو مجرد مجرم، وقاطع طريق.

إنه الصحفى المشاغب، أيقونة الصحفيين اليساريين، الذى دوّخ الحكومات المتعاقبة خلال عصرىّ عبد الناصر والسادات، ولم يُخضعه أحد. ولكن فارق حسنى نجح فى ذلك، كما كنا نقول وقتها.

جمال الغيطانى

جدالات «الماركسى القديم»

التحقت بالعمل فى «القاهرة»، وأصبحت أداوم ٦ أيام فى الأسبوع إلى مقر الجريدة فى شارع حسن صبرى بالزمالك، ذلك المبنى الذى يشبه مدرسة إعدادى.

وتبيّنت، بعد فترة، أن عيسى يُدير الجريدة كما ينبغى أن يكون، باعتبارها المتحدث الرسمى باسم الدولة فى شأن الثقافة والمثقفين، وأنه فى كل مناسبة يؤكد نظريته عن أن فاروق حسنى «بنّاء عظيم» من بُناة النهوض الثقافى المصرى. 

عارضنا عيسى فى بعض الأحيان، لكنه كان مخضرمًا فى التعامل مع أمثالنا من المشاغبين، فقد كان هو نفسه مشاغبًا ذات يوم، ولديه من المراس الجدالى الذى تعلّمه فى أوساط الشيوعيين، ما يمكنه من إنهاء أى نقاش بأحد إفيهاته الحاضرة. 

وأتذكر أنى سألته، فى ساعة صفا، ذلك السؤال الذى ردده المثقفون: كيف نجح فاروق حسنى فيما فشل فيه عبدالناصر والسادات؟

ابتسم الرجل للحظات، ثم سألنى بدوره: قل لى، ما أبرز مواقف عباس العقاد السياسية؟ ولمّا قلت له إننى أعرف كتبه فقط، ولا أعلم الكثير حول حياته العامة، قال: شُفت! بمرور الزمن لا يُذكر الكاتب أبدًا بمواقفه، بل بكتبه. وأنا دلوقت فوق الستين، وعندى ٢٠ كتاب مش عارف أنشرها، إنما لمّا بقيت رئيس تحرير جورنال وزارة الثقافة أبو مين اللى عاوز يُنشر لى!

لم يدرك «عم صلاح» أنه سيأتى على الناس زمن يظهر فيه اختراع اسمه السينما الوثائقية، وأن أفلامًا ستُنتج عن حياة العقاد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وربما عيسى نفسه، يفتش صُنّاعها عن كل كبيرة وصغيرة فى تاريخ كل منهم. وسيشاهد هذه الأفلام ناس لا حصر لهم، أضعاف قرّاء الكتب. 

ولكن، هكذا، كان «الماركسى القديم» يستطيع تبسيط أى مناقشة، لكى يصل إلى النتيجة التى يريدها. ومهما أوتيت من قدرة على الجدال، فإنه سوف يهزمك. لأنه- ببساطة- مُتمرس فى الديالكتيك، ويستطيع مجادلة عُصبة بأكملها. 

وهو ما كان يحدث فى اجتماعات مجلس التحرير الأسبوعية، التى كنت الأعلى صوتًا خلالها، إلى حد أننى قدّمت فى أحد الاجتماعات «مانفيستو» للاعتراض على تناول الجورنال بعض القضايا المثارة فى الوسط الثقافى، وطالبت أيضًا بشىء من الإثارة فى العناوين.

محمود درويش «سلطة» 

كنت أكتب مقالًا أو موضوعًا كل فترة، حسب الأحوال. وذات مرة كتبت نقدًا قاسيًا عن فيلم معروض وقتها للراحل علاء ولى الدين اسمه «ابن عز». عرّضت فيه بالفيلم، وخصوصًا مخرجه شريف عرفة، مع أنه كان فيلم الموسم. ووصفته بأنه خالٍ من أى قصة حقيقية، وأنه عبارة عن «إفيهات متجاورة».

وكان الجورنال مقروءًا على نطاق واسع فى الوسط الفنى. فانزعج بعض نجوم الكوميديا، كما أخبرنى ناقد سينمائى معروف، من مصطلح «الإفيهات المتجاورة»، مؤكدين أنه يصف- بدقة- أعمال أجيال كاملة من النجوم الذين ظهروا بعد فيلم «إسماعيلية رايح جاى». 

وفى مرة، كتبت مقالًا هاجمت فيه الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، بعد أن قرأت فى مجلة «الناقد» اللبنانية دراسة لناقد سورى مشهور، ورد فيها ذكر لهجوم درويش على مصر بعد معاهدة كامب ديفيد. أثار هذا الكلام غضبى، بحكم الشباب، فكان لابد أن أهاجم الشاعر بقسوة، وفعلت.

عندما قدمت المقال لرئيس التحرير، لأن كل مقالات الرأى تمر عليه، فوجئت به يستدعينى إلى مكتبه ويُضىء «اللمبة الحمرا» حتى لا يدخل علينا أحد. ثم يسألنى: إيه انت اللى كاتبه ده؟

قلت: الحقيقة أنا اتغظت من كلامه.

محمود درويش

رد لى المقال المكتوب على ورق الدشت، قائلًا: وإيه يعنى لمّا يهاجمنا فى نوبة غضب، وبعدين الكلام ده من زمان.

رديت عليه: الدراسة منشورة فى عدد «الناقد» بتاع الشهر.

أحسّ أنه مزنوق، فقال ليحسم النقاش كعادته: مهما يكن، إنت مش عارف إن محمود درويش سلطة؟ 

سلطة إزاى؟

قال: ده صديق ياسر عرفات! 

وذات أغسطس، عاد من إجازته السنوية المقدسة فى المصيف، ونزلت أسلّم عليه فى مكتبه. كان الناقد الراحل سيد خميس حاضرًا، وهو يزور عيسى بشكل منتظم، باعتبار أنهما من قدامى «الرفاق» فى التنظيمات الشيوعية.

جلست مع الرجلين، فباغتنى رئيس التحرير بهجوم حاد، بدأه على طريقته الساخرة: إيه أخبارك يا جميل؟ كنا جايبين سيرتك أنا و«أبو السيد» من شويّه.

سألته: كنتوا بتقولوا إيه؟

قال ضاحكًا: عمك سيد بيقول إنك عدمى!

ولم أكن أعلم أن عم سيد خميس، المثقف اليسارى العتيد، يتابع كتاباتى القليلة فى الجورنال، ناهيك عن كونه يتابعنى شخصيًا. فأنا لا أكاد أعرفه، وقرأت اسمه مرة واحدة فى كتاب للراحل الكبير محمد عفيفى عنوانه «سكة سفر».

ذكر عفيفى، الساخر الكبير، أن خميس استطاع أن يُفسر مقطعًا فى أغنية شعبية يقول: «ليه يا نعيمة يا قلب الخَص ريّانة؟»، بكون قلب نبات الخَص هو أطرى ما فيه!

ولأنى لم أكن معنيًّا بهذا الاكتشاف العظيم عن «السيدة نعيمة»، وكونها طريّة من عدمه، لم أهتم بمعرفة سيد خميس، لكنى حكيت لـ عيسى «قصة نعيمة»، فضحك بشدة، قائلًا: انت كده غلبت عمك سيد.

فاروق حسني

وكنت مسئولًا عن تحرير الصفحة الأولى فى «القاهرة»، بما فى ذلك من مهام، تشمل كتابة مانشيتات الصفحة، واختيار الأخبار المناسبة للنشر، التى تصب من مختلف الأقسام إلى «التحرير المركزى».

وذات يوم، تناقلت وكالات الأنباء خبرًا طريفًا مفاده أنه بعد فحص بقايا مجموعة غلايين «بايب» كان يستخدمها وليم شكسبير للتدخين، عُثر عليها فى حديقة منزله، تبيّن أن صاحب «روميو وجولييت» كان يتعاطى مخدر الحشيش بانتظام. فاقترحت نشر الخبر فى زاوية مُخصّصة لهذا النوع من الطرائف، تُسمى «الفيتشر» فى لغة الصحافة.

دخل علينا عيسى المكتب الذى كان يضم ثلاثة زملاء آخرين، وفوجئت به يُعطينى ورقة الخبر الذى أجزته للنشر، وقد طواه كأنه سيجارة «ملفوفة»، وهو يقول ضاحكًا: مساااااء الفل يا أستاذ، بذمتك ده خبر ينفع يتنشر فى جورنال وزارة الثقافة؟

أبلغته أن مصدر الخبر وكالات أنباء موثوقة، وأنى لا أرى مانعًا من نشره كخبر طريف ليس إلّا، خصوصًا أن هذا أهم كاتب فى العالم تقريبًا. فلم يقتنع. راهنته على «جنيه واحد»، أن صحفًا أخرى سوف تنشره فى «فيتشر» الصفحة الأولى غدًا. لكنى وجدته يقول ببساطة: طيب ماشى، لكن مش هينفع أنا بالذات أنشر الخبر ده، وأنت عارف!

ضجّ المكتب بضحكنا مع الزملاء الحاضرين الذين فهموا مقصده، فقلت له، على لسان سيد درويش فى أغنيته المشهورة: هاتوا لى أجدع بيه ولّا باشا يقدر يعيب ع الحشّاشة!