إبراهيم جمال الدين: الجوائز الأدبية تُمنَح لمن لا يستحق
- الفن والأدب المصرى أصبحا موجهين لتلبية رغبة المهرجانات الخليجية
- خرائط الشعر تخضع للترسيم من قِبل «مَن يديرون المشهد الشعرى»
- ليست لدى «شِلة».. والواقع النقدى فى مصر «مُضحك وهزيل»
- «أصحاب الدكاكين» يدافعون عن القصائد المستنسخة برعاية أموال الخليج
النشوة والجدوى والخلاص، مفردات تتجاوز المعنى لتلامس جوهر الحياة. وبالنسبة للشاعر، هى حيوات متعددة، يكتبها واحدة تلو الأخرى، وكلما أنهى حياة شعرية، وتداهمه لحظة تخمة، سرعان ما تختطفه حياة جديدة، بنشوة مغايرة وسؤال متجدد عن الجدوى.
هكذا يفكر الشاعر والناقد إبراهيم جمال الدين التونى، صاحب دواوين «الجنوب» و«مجرد إشارات» و«فى انتظار قدم تمر» و«فقير مبشّر بالجنة»، والذى يستعد حاليًا لإصدار ديوانه الخامس «يطير حمامًا»، والذى يرصد فيه ما يواجهه عالم اليوم من حروب وانتهاكات، متأملًا فى جدوى الوطن والمواطنة، ودور الشعر فى زمن التهشيم الإنسانى.
ورغم غيابه الطوعى عن المشهد الثقافى الرسمى، وانسحابه من خارطة الضوء، لم يتوقف «جمال الدين» عن العمل الثقافى، بل تفرغ خلال السنوات الخمس الأخيرة للانفتاح على مسارات الثقافة المصرية المتنوعة، من خلال مسئوليته عن جماعة «نوافذ الثقافية» فى مدينة السويس، حيث احتفى بالعديد من كُتّاب الأدب والدراما والمسرح والشعر، فى تجليات إبداعية كانت ملاذه للانكفاء والتأمل.
عن رؤيته للمشهد الثقافى المصرى والعربى، والعمل العام فى مجال الثقافة، وإصداره الجديد، تحاور «حرف» الشاعر إبراهيم جمال الدين التونى.

■ أين أنت الآن؟ وما هو جديدك الشعرى؟
- عالق كإقليمى لم تفلح محاولات النداهة معه، ولم يستطع مقاومتها بشكل كامل، بين حين وآخر ينفلت من سكون مدينته الساحلية، يشعر بالحاجة للزحام والضجيج، وسرعان ما يسكن إلى هدوئه يرجع مرة أخرى. أما عن جديدى أعد ديوانى الجديد «يطير حمامًا» للنشر، بعد انقطاع أعوام عن النشر، وهى كتابة ذات مثل صاحب غيّة حمام يطلقه كل يوم ليمارس حريته باتفاق ضمنى أن يعود لمحبسه من جديد.
■ بعد ٣ عقود مع الشعر.. أين أنت من المشهد الشعرى المصرى؟
- الخرائط تخضع للترسيم من قِبل مَن يديرون المشهد الشعرى فى مصر. موظفو المؤسسات الثقافية أصبحوا، بفعل موقعهم الوظيفى، أصحاب خطط الترسيم للمشهد الشعرى فى مصر عبر فعاليات احتفالية فى غالبيتها، يغيب عنها طرف أصيل فى تحديد شكل المشهد، وهو جمهور الشعر الغائب بفعل عشوائية المشهد. «الشللية» أصبحت هى المحدد الرئيسى للتجارب المطروحة عبر الفعاليات أو النشر. أنا ليست لى «شِلة» أحسب عليها، ولست معنيًا بتحديد موقعى من خارطة المشهد، والكتابة بالنسبة لى غاية فى ذاتها، وما يليها ليس سوى صدى صوت فى واقع خاوٍ.

■ ما بين النثر والشعر العمودى والتفعيلى.. فى أى المسارات الشعرية تسير؟
- أعتقد أن القضية قضية نخبة، لا تخلو من صراع لا يستند إلى خلاف قيمة وفنيات أكثر من انتماء الدفاع عن مصالح، سواء من كُتّاب أو أصحاب دكاكين تدافع عن قصيدة لا يلتفت أصحابها إلى حالة استنساخ المستنسخ فيها، حيث فقد قيمة المضمون لحساب قالب رتيب، برعاية مسابقات وأموال الخليج، هذا لا ينفى وجود نماذج تطور من قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية، لكنها ليست النماذج المروج لها، وعلى الجانب الآخر ورغم أن قصيدة النثر المصرية أصبحت تملك انتشارًا واسعًا، إلا أن أبواقًا كثيرة تزعق سواء بادعاء المظلومية أو بمطالب خاصة، وغالبًا تلك الأصوات لا تتبنى قصيدة النثر كموقف جمالى قدر تبنيها لشكل مخالف، أصبح فى كثير من النماذج مجرد شكل مخالف، يحمل شعارات أكثر من الشعر. أكتب قصيدة النثر كمَعْبر شعرى عن الذات، النموذج الأقرب إلى الحرية والتحليق دون أسر الشكل، الرهان على قدرة الشعر على التحقق فى أى شكل، ولا يهمنى كثيرًا حسبانى على أى تيار من تيارات قصيدة النثر، التجربة فى النهاية تصنف نفسها وتترك عنوانها.

■ بمَن تأثرت من الشعراء؟
- نحن أبناء منجز شعرى سواء العربى منه أو العالمى، الذائقة العربية ذائقة شعرية بفطرتها، الأذن فى الذائقة العربية تعشق قبل العين، أسهمت رومانسية المراهقة فى اختيار شخصية الفارس المحب المغنى، لتتسع الدائرة وتفتح القراءات نوافذ كثيرة على الشعر العربى عبر عصوره، تستلب الروح أشكاله وتنوعاته، وكان ما استطعت الوقوف عليه كفيلًا بأن يجعلنى متورطًا فى الشعر، كلهم ترك أثرًا فى كتابتى، لكنه الشعر صاحب السطوة الكبرى من جعلنى لا أرى مسارًا إبداعيًا آخر قادرًا على استلاب الروح.
والتفضيل بين النماذج الشعرية يفقد الكثير، كل كتابة للشعر تحمل جمالياتها المختلفة، أقف على مسافة واحدة من الجميع.
■ هل تؤمن بمفاهيم، المثل الأعلى أو الرمز الذى يجب على الشاعر السير فى ركابه أو مناطحته؟
- الشعر هو المثل الأعلى والرمز، كلنا فى مراحل تكوننا الشعرى نقع أسرى لنموذج وربما لشاعر، لكن ذلك مشروع فى طريق البحث عن هوية لما نكتب، كولد صغير يحفظ الأبجدية كوسيلة للقراءة والكتابة، لكنه يبحث بعد ذلك عن عباراته، المثل الأعلى أطروحة تجاوزها يعد خروجًا عن القيم الدينية والأخلاقية، لكنه فى الإبداع يمثل تحررًا وتحققًا وإبداعًا، إن أكبر مشكلات الشعر العربى هى الركون إلى فكرة المثل الأعلى ومحاكاته، هذا الذى خلّف نماذج مستنسخة تفتقد إلى روح وجماليات النموذج الأصلى.
■ كيف تم التعامل مع شعرك نقديًا؟ وهل تقيّم لنا الخارطة النقدية فى مصر؟
- لا أريد أن أصف مشهدًا سوداويًا، لكن الواقع النقدى فى مصر صار هزليًا وهزيلًا، علينا أن نواجه واقعًا مريرًا، نحن لا نستطيع أن نشير إلى ما يمكن تسميته المشروع النقدى المصرى، برحيل آخر جيل نقدى فى مصر، خلت الساحة من أى إسهامات نقدية جادة، الجامعة التى كانت المصدر لأصحاب رسالات تعتمد البحث العلمى وسيلة للتنظير والتحليل والقراءة، صارت منافذ منح درجات علمية ضعيفة وباهتة، وباستثناء قليل جدًا، فالجميع يعتمد سبيل التأويل ولا يؤسس لأى نظرية، حتى إن الشعراء تحولوا إلى نقاد وقراء، أنا أقوم بنشر ديوانى وأطير فرحًا بقراءة أحد الأصدقاء.
■ هل ينتهى حلم الشاعر بالخلاص مع الانتهاء من كتابة قصيدته أو ديوانه؟
- النشوة أو الجدوى أو الخلاص مفردات تعنى الحياة. الشاعر حيوات كثيرة، كلما انتهى من كتابة حياة، ربما يشعر بتخمة للحظات، لكنه سرعان ما تسرقه حياة أخرى، تتملكه نشوة مغايرة، ويتجدد سؤال الجدوى، ورغبة الخلاص. الكتابة خلاص مؤقت، باعث على مزيد من الأسئلة، ونحن أسرى حلم لا يتحقق.
■ أين أنت من الجوائز الشعرية فى مصر؟
- للأمانة، لم أتقدم طيلة حياتى لنيل جائزة، وهذا ليس ترفعًا أو زهدًا، ربما لمعايشتى كثيرًا من حسابات تشكيل لجان التحكيم فى الكثير من الجوائز، أو للفائزين بهذه الجوائز وعلاقتهم بهذه اللجان. لقد ابتُذلت قيمة الجوائز بمنحها فى الغالب لمن لا يستحق، حتى إننا أصبحنا نعلن عن سعادتنا حين تصيب مستحقيها، وهو ما يحدث أحيانًا لتجميل صورة الجائزة. الدائرة ضيقة جدًا، وأنا لا أحب الأماكن المغلقة، لذلك أفضل دائمًا براح المتفرج.
■ قدمت الكثير من الأشكال الثقافية عبر جماعة «نوافذ ثقافية» فى السويس.. كيف تصف خارطة الشعر والآداب فى المدينة؟
- مدينة تحمل تاريخًا، ليس لديها مسرح، فرقة الفنون الشعبية بها تم تشريدها، المؤسسة الثقافية الرسمية تحولت إلى مأوى للغربان، مسوخ تتصدر المشهد الثقافى والأدبى، جامعة غائبة ولا علاقة لها بالمدينة.. هذا ما يستدعى بحث الأدباء عن بدائل.
«نوافذ ثقافية» كيان يقوم بجهد ذاتى لمجموعة من الأدباء والمثقفين، ويحاول خلق حراك لا يهتم بالأشكال الاحتفالية، وجدل حول المنتج الأدبى والثقافى المصرى عبر نقاش ورؤى. نستقدم النماذج الجادة، وللحقيقة نلقى الدعم من أصدقائنا الأدباء والنقاد الذين يلبون دعواتنا للحضور والمشاركة، رغم أننا لا نقدم أى ميزات أو مكافآت. هى محاولة لإلقاء حجر فى بركة راكدة.
■ مَن أبرز الأسماء التى كانت جماعة «نوافذ ثقافية» سببًا فى شهرتها أو تبنيها؟
- السويس مدينة صاحبة تاريخ طويل وقديم، وعبر عصور قديمة كانت حاضرة فى التاريخ، تُذكر فى رحلات الحج كطريق للرحلة المباركة، وكإحدى المدن التى احتضنت الممر الملاحى الأهم فى العالم «قناة السويس»، بما تحمله رحلة حفر القناة من حكايات وأغانٍ وسِيَر.
وكثير من القبائل العربية التى حطت فى المنطقة حاملة تراثًا ينتمى إلى جزيرة العرب، تراث غنائى كبير، بالإضافة إلى ما فرضه موقعها من حروب مرت عليها فى العصر الحديث.
السويس تنام على مقابر تحوى كنوزًا طائلة من الحكايات والسير وتراث ضخم، لكن الغريب أنها كمدينة تملك كل هذا الإرث، لا تملك هوية، ربما لتغير تشكيلها السكانى بفعل الحروب، وتهجير سكانها الأصليين، هذه المدينة التى يُطلق عليها «بلد الغريب»، التسمية التى تنسب إلى أحد شيخيها «عبدالله الغريب» لكنها تسمية اكتسبت حضورها من أنها مدينة جاذبة للغرباء، وهذا ما حملها بثقافات مدن أخرى.
وكمدينة ساحلية يكسب البحر فيها سكانها عادات وملامح البحر، بل والصخب والسكينة والهدوء والغضب معًا، تعمل مجموعة أو جماعة «نوافذ» مع الكُتّاب والشعراء، لتشبه كثيرًا إيقاع المدينة وكُتّابها وفنانيها، والبشر فيها أيضًا.
«نوافذ» تكوينة رفض وبديل، رفض لسيطرة مفهوم الثقافة الذى تنتجه المؤسسة الثقافية الرسمية بكل ما يحمله من ابتذال قيمة الثقافة والإبداع، وبديل عن كل الأشكال الاحتفالية. محاولة لممارسة فعل ثقافى يركن إلى الوعى بمعزل عن غنائيات باهتة.
السويس تكتظ بمدعى الإبداع، زحام ولا أحد، المشهد الثقافى فيها صار هزيلًا، ما استدعى أن تجتمع مجموعة من مثقفيها ومبدعيها على رؤية مغايرة، عبر فعاليات تستقدم مشاريع إبداعية وفكرية متميزة. نحن نحاول أن نكون جزءًا من مشروع يحمل جدية الطرح وجدية الاختلاف. لدينا كثير من المشاريع. كما أنها، وعبر هذه التراكمات، أسهمت فى تطور مشاريع أعضائها.
نحن نحتفى بحصول الباحث إبراهيم عاطف على الدكتوراه برسالته حول «الرواية الديستوبية المصرية». كما نحتفى بحصول الباحث أحمد عايد على الماجستير فى شعر عفيفى مطر، وبحصول شاعر شاب هو الشاعر إبراهيم أبوسمرة على جائزة الدولة التشجيعية فى شعر العامية، وبالشاعر الشاب طارق الأزنجى، وكاتبات شابات مثل مريم سمير وماريان أنور. هذه التراكمات صنعت فارقًا فى محاولة تصحيح المسار.
■ كيف رأيت مؤتمر قصيدة النثر، الذى أقيمت دورته التاسعة فى نقابة الصحفيين قبل شهرين؟
- مؤتمر قصيدة النثر المصرية واحد من أهم المشاريع الثقافية التى شرفت بالمشاركة فيها، كعضو لجنته منذ بدايته. هو مشروع وحلم للنبيل الشاعر عادل جلال، بذل من أجله جهد سنوات. هذا المؤتمر فى دورته التاسعة أصبحت له ذاكرة، يصدر «الأنطولوجيا» السابعة لشعراء قصيدة النثر المصرية، ما يعد موسوعة كبيرة ومرجعًا حقيقيًا لإبداع قصيدة النثر المصرية، بالإضافة إلى ٣ «أنطولوجيات» عربية، وكتاب بحثى.
جهد ذاتى شاركت فيه عدة أماكن بالاستضافة: أتيليه القاهرة، وبيت السنارى التابع لمكتبة الإسكندرية، وجريدة «الدستور»، وهذا العام نقابة الصحفيين، بالإضافة إلى العديد من المؤتمرات الإقليمية فى مدن عدة مثل السويس والبحيرة وبنى سويف. كل هذه دون مؤسسة ثقافية راعية، تجربة رفعت شعار «فى الإبداع متسع للجميع»، ونجحت قدر إمكانها فى كثير من أهدافها.
■ لماذا كل هذا الحزن والغضب فى شعرك وحياتك الثقافية بصفة عامة؟
- كيف تستطيع الفرح فى مناخ يكتظ بالقتامة؟ نحن نعيش فترات انهيار لمكانتنا ومنتجنا الثقافى والإبداعى، أن يسرق المال الخليجى منتجك الفنى والإبداعى، أن يوجه الفن والأدب لتلبية رغبة مهرجانات الرياض والشارقة وإمارات أخرى، أن يتحول مسرحنا المؤسس للمسرح العربى إلى هزل ونكات تبهج الممول العربى، أن ينساق جيل كامل من شباب الشعراء إلى منتج مُعد مسبقًا لنيل جائزة توجه الشعر لمخططها، ألا يستطيع المجلس الأعلى للثقافة إقامة مؤتمر الرواية لسنوات ويتقاعس عن دوره، وينتفض ويستطيع إقامة ملتقى الشارقة، أن تتجه وزارة الثقافة إلى غلق مكتبات وبيوت ثقافة.. ألا يدعو كل ذلك والكثير إلى الحزن؟!
ربما تكون رؤية سوداوية لكنها بالطبع تملك أسبابًا كثيرة، نحن نشقى بمواقفنا وتوجهاتنا، نشقى بالشعر، ولا نملك رفاهية المتفرج، نشقى بمحاولاتنا الفردية. الثقافة المصرية هى المؤسس لكل الثقافات العربية، لكننا تذيلنا المشهد، المتابع لقفزة المغرب العربية النقدية يُصاب بالحسرة على واقعنا النقدى. بشكل شخصى أنا أمارس الكتابة ومشاركة الفعل الثقافى بفعل الرغبة والمتعة وبفعل الحياة. لكننا نستحق مشهدًا أفضل يليق بتاريخ وتراث قبل أن يُولد التاريخ.

