الثلاثاء 25 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كشف أدبى على هامش مئويته

قديس المسرح.. 3 مقالات مجهولة لسعد الدين وهبة

حرف

- لقبر أبى العباس عند أهل الإسكندرية منزلة خاصة

- سعد الدين وهبة من أبرز أعمدة الثقافة المصرية فى القرن العشرين وصاحب بصمة كبيرة فى المسرح والسينما والإدارة الثقافية

- كان الرشيد هارون متدينًا صالحًا نقيًا بخلاف ما نقرأه عنه

- اشترى عثمان الجنة من النبى «صلى الله عليه وسلم» مرتين

حلّت الذكرى المئوية لميلاد الكاتب المسرحى والسيناريست الكبير الراحل سعد الدين وهبة، الذى ولد عام 1925، فى 4 فبراير الجارى، وهى ذكرى تستحق الاحتفاء، لواحد من أبرز أعمدة الثقافة المصرية فى القرن العشرين، وصاحب بصمة كبيرة فى المسرح والسينما والإدارة الثقافية. 

سعد الدين وهبة، الذى آمن بأن الفن أداة يمكن لها أن تغير المجتمعات وتقودها إلى طريق التنوير والمعرفة، ترك تراثًا متنوعًا، امتد من نصوصه المسرحية الشهيرة مثل «الذئب يهدد المدينة» و«سكة السلامة»، إلى سيناريوهات سينمائية خالدة مثل «أرض النفاق» و«مراتى مدير عام»، وصولًا إلى دوره المؤثر فى تأسيس مهرجان القاهرة السينمائى الدولى المنعقد حاليًا، ورئاسته المؤسسات الثقافية الكبرى.

ومع حلول مئويته، تتجدد الأسئلة حول أثره العميق فى المشهد الثقافى، ودوره فى تطوير مهرجان القاهرة السينمائى، إلى جانب ما تبقى من مشروعه الإبداعى والإدارى فى الذاكرة المصرية.

ويعد كتاب «أيام من حياتى.. سعد الدين وهبة»، الذى جمعه وأعده الناقد الأمير أباظة، أحد أهم المراجع التى توثق لتاريخ ومشوار السيناريست الكبير، حيث يتضمن فصولًا من مذكراته الشخصية، تكشف عن جوانب إنسانية ومهنية قلّما ظهرت فى سيرته الرسمية.

فى السطور التالية، تنشر «حرف» الفصل السادس من هذا الكتاب، فى محاولة لاستعادة صوت سعد الدين وهبة كما دوّنه هو، لا كما رُوى عنه.

المقال الأول:  أبوالعباس المرسى

بمناسبة افتتاح مسجده يوم الجمعة الماضى لعل الطريقة الشاذلية أكثر الطرق الصوفية انتشارًا وأبقاها أثرًا وأقواها فى النفوس خاصة فى القطر المصرى، فللطريقة الشاذلية فى الإسكندرية كثير من المريدين قد تمكنت العقيدة من نفوسهم وتغلغلت فى دمائهم.

الطريقة الشاذلية نسبة إلى أبى الحسن على المعروف بالشاذلى، ويرجع نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب- كرم الله وجهه- وسمى بالشاذلى، لأنه كان جالسًا يومًا عند أبى محمد عبدالسلام بن مشيش، وكان قطب زمانه صلاحًا وورعًا وعلمًا فقال له أبومحمد: «يا على، ارتحل إلى إفريقيا واسكن بها بلدًا يسمى شاذلة فإن الله- عز وجل- يسميك الشاذلى» وقد كان، وارتحل أبوالحسن إلى شاذلة» وحدث بعد ذلك، فقال «قلت يا رب لم سميتنى بالشاذلى ولست بشاذلى؟ فقيل لى يا على ما سميتك بالشاذلى وإنما بالشاذلى بتشديد الذال المعجمة يعنى المفرد لخدمتى ومحبتى»، ومن ذلك يتضح لنا أن أبا الحسن بن على لم يلقب بالشاذلى، لأنه من شاذلة كما يذكر خطأ، ولقد جاب أبوالحسن الأقطار فرحل إلى العراق ومصر وإفريقيا والمغرب ولما حضرته الوفاة أوصى باستخلاف تلميذه أبى العباس المرسى.

وأبوالعباس المرسى هو أحمد بن عمر بن على الأنصارى، وقد حكى أنه فى حداثته كان يركب البحر مع أبيه وأمه وأخيه، فانكسر بهم المركب ومات أبوه وأمه ووصل هو وأخوه أبو عبدالله محمد إلى تونس، وهناك أخذهما أبوالحسن الشاذلى ولم يفارقاه بعد ذلك قط.

وكان أبوالعباس المرسى متعبدًا، نال الحظوة عند شيخه، حدث أبوماضى بن سلطان قال:

«وقع بينى وبينه- يعنى أبوالعباس- كلام فسمعنى الشيخ فقال لى: «يا ماضى الزم الأدب مع أبى العباس فوالله إنه لأعرف بأزقة السماء أكثر مما تعرف أنت أزقة الإسكندرية»، ولتلك الحظوة أمره الشيخ فجلس فى مسجد العطارين يتحدث إلى الناس ويفقههم فى الدين، فسرعان ما أحبه السكندريون وذاع صيته فكانت الجموع تهرع إليه من كل صوب وحدب تقتبس من نوره وترتوى من بحاره، ثم أخذ يجوب الأقطار وكان يطيل الإقامة فى مصر حتى مات فى الإسكندرية ودفن بها، ولقبر أبى العباس عند أهل الإسكندرية منزلة خاصة، وهم يعتبرونه كما يعتبر أهل بغداد قبر معروف الكرخى.

ولأبى العباس شعر طريف يفيض عذوبة ورقة وينبيك عن مبلغ تصوفه ولطفه، ومن ذلك قوله متغزلًا:

أعندك من ليلى حديث محرر

بإيراده يحيا الرميم وينشر

فعهدى بها العهد القديم وإننى

على كل حال فى هواها مقصر

وقد كان منها الطيف قد ما يزورنى

فلما يزر ما باله يتعذر

فهل بخلت ليلى بطيف خيالها

أم اعتل حتى لا يصح التصور

ومن وجه ليلى طلعة الشمس تستضىء

وفى الشمس أبصار الورى تتحير

وما احتجبت إلا لكشف حجابها

ومن عجب أن الظهور تستر

المقال الثانى: الرشيد المفترى عليه

الرشيد هارون هو واحد من أولئك الملوك العظماء الذين سادوا المدائن والقرى ودانت لهم المشارق والمغارب، والذين دافعوا عن ملكهم وعقيدتهم بعزيمة قوية وبإرادة كالحديد لا تفل، ومع ذلك لم ينصفهم التاريخ، ولم يتورع المؤرخون عن أن يصموا عهودهم بوصمات سوداء، وأن يسودوا تاريخهم ببقع بقعاء، فغدوا مضغة من أفواه العامة والخواص، وأسطورة تضرب للدلالة على الإسراف والتهتك والمجون والفجور، وعلى الانحلال الخلقى العام بين مختلف الطوائف وعلى فقدان العقيدة والأخلاق منزلتهما فى النفوس، كل ذلك وهم مظلومون.

فى أيام الرشيد طفرت الخلافة العربية طفرة عظيمة فاتسعت رقعة الإمبراطورية وضرب الإسلام بجرانه عن يمين وشمال وامتدت الدولة من المحيط الأطلسى غربًا إلى الصين وجبال الأورال شرقًا ومن بحر الروم شمالًا إلى المحيط الهندى جنوبًا، وقيض الله للإمبراطورية أباطرة أمجادًا عرفوا كيف تساس الشعوب وكيف تنظم الحكومات وحكموا الناس حكمًا جعلهم يلهجون بالمدح والشكر فغرقت البلاد فى الخير، وتدفقت أنهار الخراج من مال وحب وأب وفاكهة كلها تصب فى بغداد عاصمة الخلافة ومعقل الرشيد، وصار الذهب يتداول فى يسر، غصت أسواق بغداد بكل غالٍ ونفيس، وتعجب الناس مما يشاهدون، فهذا العربى الذى كان أقصى أمانيه أن يحصل على حفنة من لبن وحفنة من تمر ومضغة من خزملة وقبضة من شعير، صار الآن يتمرغ فى النعيم، فأكل الشهى وشرب السائغ وتعطر بالعطور والرياحين، وصار يرفل فى الدمقس وفى الحرير، وترك بيت الشعر ليسكن بيت الطوب والحجارة، وهرع من البادية إلى الحضر، وخلاصة الأمر أنه انتقل من حال إلى حال، وكان من الطبيعى أن يتحدث الناس عن الخير المقبل والفقر الزائل، وكان من الطبيعى لذلك أن يقترن حديثهم بكثير من المبالغة وبغزير من الاختلاق، وهذا شأن الناس فى كل زمان ومكان، فالطفرة يصحبها اختلاق وافتراء ومبالغة، وذلك عين ما حدث لإسماعيل العظيم، فليس عهده بمخالف لعهد هارون وليس ما قيل فيه بمغاير لما قيل عن هارون.

وهناك عامل آخر جعل مجال المبالغة والافتراء على هارون وعهده أوسع، وذلك هو كتاب «ألف ليلة وليلة»، فكلنا يدرك مبلغ تأثر الناس بهذا الكتاب وخاصة السذج والبسطاء، ولكننا ندرك كذلك أن أكثر القصص التى ذكرت فيه كان مسرحها بغداد وكان زمنها عهد الرشيد، ومن هنا رسم الناس لهارون شخصية استمدوها من القصص، فخرجت شوهاء تبعد عن الواقع بُعد الأرض عن السماء.

ويذكرنى هذا بفيلم أمريكى شاهدته منذ عام واسمه «فرسان العرب»، وأظهر فيه المخرج الرشيد هارون الرشيد فى صورة الشاب الماجن المستهتر الذى يقفز الأسوار وينط السطوح ويجرى فوق المنازل ويضرب «البوكس» وكأنه «فيريبنكس»؟!

وحسبى أن أسرد بعضًا من سيرة الرشيد وأخباره حتى يتبين فيها وجه الصواب وحتى يمحو لسان الصبح مداد الظلام والله الموفق وهو حسبى ونعم الوكيل.

كان الرشيد هارون متدينًا صالحًا نقيًا بخلاف ما نقرأه عنه، فقد روى أنه كان يصلى فى كل يوم مائة ركعة وظل هكذا إلى أن مات، وحدّث ابن السماك الواعظ قال:

دخلت عليه وعظته فإذا به يبكى.

المقال الثالث: عثمان المفترى عليه 

رجلنا اليوم هو ذو النورين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، والرجل الذى ضحى فى سبيل الإسلام بماله حتى آخر درهم، وبدمه حتى آخر قطرة، خرّ عثمان صريعًا وسال دمه الزكى بعد أن أبلى فى نصرة دينه بلاءً حسنًا، أخرج الحاكم عن أبى هريرة قال: اشترى عثمان الجنة من النبى «صلى الله عليه وسلم» مرتين حيث حفر بئر رومة، وجهز جيش العسرة، وعثمان هو أول المهاجرين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة الذين توفى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وهو راضٍ عنهم وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن، ومع كل هذه الفضائل التى تزخر بها سيرة عثمان لم نر أن الرجل نال ما يستحقه من التمجيد والتعظيم إن لم يسلم من القيل والقال، فوصف بالضعف والخنوع وبالمحاباة والمحسوبية، ويعلم الله أنه عن ذلك بعيد.

تزخر المكتبة العربية بالكتب التى تبحث فى سير أبى بكر وعمر وعلى ومعاوية وغيرهم من الملوك والخلفاء، ولكننا لا نجد إلا النذر اليسير الذى قيل فى عثمان وحتى هذا لا يعدو أن يكون تقرير حقائق تاريخية محضة دون تمحيصها ومناقشتها أو الإدلاء فيها بالآراء المستقلة، فلقد هاب المؤرخون الخوض فى سيرة عثمان لأمر خاطئ قام فى بعض الرءوس وأن عصر عثمان لما هو جدير بالدرس العميق ففيه بذرت بذور الحكم الأموى، وتغير بالتالى وجه التاريخ العربى وصمت الأدباء، هكذا لا يسلمهم من مغبة هذا الأمر، فالصمت عن الضيم علامة الرضا به والسكوت عن الظلم دليل الموافقة عليه.. لعمرى أن هذا الاتهام صامت.

إن الظروف القاسية- والظروف وحدها- هى المسئولة عما دار من اللغط حول عثمان، قتل عثمان بيد الثوار.. إذن فهناك قتلة وهناك مطالبون بدم القتيل وهناك هواة الصيد فى الماء العكر وكل هؤلاء يفسرون ما حدث ويبررون ما وقع بطرقهم المختلفة وبآرائهم المتباينة، ومن هنا كان التجنى وكان الإسفاف.

زعموا أن عثمان عزل سعد بن أبى وقاص من على الكوفة وولاها الوليد بن عقبة وهو أخوه لأمه، وزعموا كذلك أن هذا أول ما نقم عليه لأنه آثر أقاربه بالولايات، وليكن ذلك صحيحًا، فهل يبرر هذا أن تقوم حوله كل هذه الضجة والضوضاء؟ إن هذا السبب ليس بكافٍ أن يؤلب شعبًا بأكمله على خليفة الرسول وزوج ابنتيه ورفيقه فى السراء والضراء، إنه ليقع فى كل زمان ومكان أمثال ما وقع من عثمان فهل يا ترى نال الولاة وأولو الأمر ما نال عثمان؟ ألم يطلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون؟ وأليست الاستعانة بالأقارب على اجتياز الصعاب من الأمور المقررة عند جميع أهل الحجاز؟

مع نجيب محفوظ

قال الزهرى: ولى عثمان الخلافة اثنتى عشرة سنة يعمل فى ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئًا وأنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديدًا عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى فى أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته فى الست الأواخر، وكتب لمروان بخمس إفريقية وأعطى أقرباءه وأهل بيته المال، وتأول فى ذلك الصلة التى أمر الله بها، وقال: «إن أبا بكر وعمر قد تركا من ذلك ما هو لهما وإنى أخذته فقسمته فى أقربائى فأنكر الناس عليه ذلك، وقد يكون فى ذلك ظل من الصواب، كما أن فيه بعض المبالغة لكن أريد أن أسأل، هذا الرجل كريم غاية فى الجود وتعود البذل عن سِعة، فإذا أراد مكافأة شخص ما أليس بكثرة من مكافأته كما تعود؟

وهذا عين ما وقع مع عثمان، فعطاياه لا تبلغ ذلك الحد الذى نقرأ عنه، ولكنها ربما كانت كثيرة.

يظهر لنا من ذلك أن عثمان عاش مع الناس مدة ست سنوات عيشة راضية مرضية، ثم تبدل الحال بعد ذلك، لا كما يقول الزهرى، لكن لسبب آخر أجل وأخطر، وأعنى بذلك استيقاظ الروح السياسية فى بنى أمية من جانب وبنى هاشم من جانب آخر، فتلك اليقظة السياسية هى التى سببت ما وقع من الكوارث التى كانت تحاك خيوطها فى دجى الليل، وتمثل فصولها على مسرح الجزيرة، استيقظ معاوية وهو الطموح بطبعه وولى الشام، ثم توثقت العرى بينه وبين أهله، ثم زادت آماله، وتطلع إلى السلك العربى، ورأى بثاقب بصره أنه لا بد من يوم يموت فيه عثمان، ويختلف المسلمون، فقام يعمل من يومه على تثبيت قدمه وقدم أقاربه وأهله فى الأمصار المختلفة، حتى إذا حان اليوم المشهود قدموا له المماليك والبلاد هدية ميمونة ولقمة سائغة.

وفطن علىٌّ لما وراء الأكمة، فكان من الطبيعى أن يثور، فهو يحلم بالخلافة قبل عثمان وعمر وأبى بكر، وابتدأ بضرب معاوية فى الخفاء بنفس السلاح الفتاك:

الدعوة السرية، والقدح والذم المستوران.

كان عثمان يولى الوالى فإذا كان من بنى أمية قُرت عين معاوية، وإذا لم يكن منها عمل فى الخفاء حتى يخلع، وكان من عادة عثمان أن يسأل الناخبين فيمن يوليهم، ومن هنا كان معاوية يوعز لصنائعه أن يطالبوا بفلان، وفلان هذا أموى قح، وفعلًا لا يمضى الوقت حتى يعين الأموى وتغلى المراجل وتنزل على عثمان صواعق السخط وهو مظلوم.

وثمة شخصية أخرى أظهرتها الظروف، ولعبت دورًا مهمًا فى تاريخ عثمان، أعنى بها مروان بن الحكم، فذلك الوزير الموكل شاهد ما سيؤول إليه أمر الدولة من التفكك والانحلال، فأراد أن يخلق من عثمان شخصية فذة ذات قوة وسلطان، فقبض على السلطة بيد من حديد، ولكن يا لخيبة الأمل، انفلت الزمام من يده، وطاشت سهامه المريشة.

خلاصة الأمر أن عثمان كان تجاه حالة عصبية، ولو كان هناك أمهر السياسيين والدهاة فى مثل مركزه لما استطاع أن يغنى فتيلًا، ولما تمكن من عمل أى شىء يزيد على ما عمله عثمان.

ذلك من الوجهة السياسية، أما من الوجهة الأخلاقية والدينية فأظن أن عثمان ليس بحاجة إلى تعريف.