الأربعاء 10 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الحرب على «ويكيبيديا».. كيف نجت؟ أسرار صمود الموسوعة

حرف

- «ويكيبيديا» موقع ويب قديم الطراز، ما زال يتلقى زيارات شهرية أكثر من إجمالى حركة المرور لجميع أكبر 50 موقعًا إخباريًا فى العالم

- ويكيبيديا هى أكبر موسوعة للمعرفة البشرية على الإطلاق، إذ تضم أكثر من 7 ملايين مقالة فى نسختها الإنجليزية، وهى الأكبر والأكثر تطورًا من بين 343 مشروعًا لغويًا.

- لطالما كانت الولايات المتحدة، بفضل حمايتها القوية لحرية التعبير على الإنترنت، ملاذًا آمنًا عندما واجهت الموسوعة هجمات فى أماكن أخرى من العالم.

- يستخدم الناس الذكاء الاصطناعى لإضافة معلومات تبدو معقولة، لكنها كاذبة أو متحيزة، إلى الموسوعة، ما يزيد من عبء العمل على المحررين.

- إيلون ماسك يتهم الموسوعة بالتحيز ويسخر منها ويدعو إلى وقف تمويلها

- «ويكيبيديا» هدف لوسائل الإعلام المحافظة والمؤثرين أصحاب المناصب فى إدارة ترامب

- جروكيبيديا ليست منافسة حقيقية، لأنها تمثل كل ما لا تمثله ويكيبيديا: فهى ليست موسوعة، وليست شفافة، وليست إنسانية، وليست مؤسسة غير ربحية، وليست تعاونية أو جماعية.

- جروكيبيديا.. موسوعة بالذكاء الاصطناعى ولا تخدم شيئًا سوى غرور أغنى رجل فى العالم

- مشروع ماسك.. رمز لما يمكن أن تصبح عليه ويكيبيديا إذا جُردت من جميع البشر وسُلمت إلى روبوت

فى وسط عالم مبهر من الشاشات نعيش فيه، انتقلت التكنولوجيا من هامش الثقافة إلى مركزها المطلق، لكن رغم ذلك إلا أن موقع ويب قديم الطراز، ما زال يتلقى زيارات شهرية أكثر من إجمالى حركة المرور لجميع أكبر 50 موقعًا إخباريًا فى العالم، ويأتى كأعلى نتيجة بحث لمعظم الموضوعات، ويعتبر المصدر الرئيسى للحقائق فى العالم الرقمى. 

ويكيبيديا.. موسوعة الإنترنت التى أصبحت مؤخرًا هدفًا لكثير من الهجمات، والتى يمكن أن تعتبرها حربًا على المعلومات وحرية المعرفة، لكن فى حقيقة الأمر هى أحدث معركة بين البشر والذكاء الاصطناعى أو بين الثقة وغرور أباطرة التكنولوجيا، التى حسمت بلا شك - قبل أن تبدأ - لصالح الإنسانية.

عندما تغزو الجيوش، أو تتشكل الأعاصير، أو تسقط الحكومات، يقوم محرر ويكيبيديا عادة بتحديث المقالات ذات الصلة بعد ثوان من نشر الخبر. يسرّع المحررون فى تغيير «is» إلى «was» فى حالات الوفيات البارزة، لدرجة أنهم يقال إنهم أسرع من يستخدم صيغة الماضى فى الغرب.

لذلك، كان من غير المعتاد، وفقًا لمحرر مخضرم كان يتابع الصفحة، أنه بعد ظهر يوم 20 يناير 2025، وبعد ساعات من قيام إيلون ماسك بلفتة تشبه التحية النازية فى تجمع جماهيرى عقب تنصيب الرئيس دونالد ترامب، وحتى مع استمرار الاحتجاج الشعبى، لم يضف أحد الحادثة إلى الموسوعة.

ثم، قبل الساعة الرابعة مساء بقليل، أضاف محرر يُدعى PickleG13 جملة واحدة إلى سيرة ماسك الذاتية المكونة من 8600 كلمة: «بدا أن ماسك أدى التحية النازية»، مستشهدًا بمقال فى صحيفة جيروزاليم بوست.

فى ملاحظة تشرح التغيير، كتب المحرر: «ستتم مناقشة هذا الجدل، ولكن يبدو، ويقال إن ماسك ربما أدى تحية هتلر». بعد دقيقتين، حذف محرر آخر السطر لانتهاكه معايير ويكيبيديا الصارمة للمعلومات غير المجاملة فى سير الأشخاص الأحياء.

لكن PickleG13 كان محقًا. فى ذلك المساء، وبينما تحول الجدل حول هذه البادرة إلى دوامة من الاهتمام العالمى، دعا محرر آخر إلى مناقشة رسمية حول ما إذا كان الأمر يستحق تسجيله فى ويكيبيديا.

فى البداية، كان النقاش فى «صفحة النقاش» الخاصة بالمقالة، حيث يناقش المحررون التغييرات، مشابهًا إلى حد كبير للنقاش الدائر عبر وسائل التواصل الاجتماعى والصحافة: من الواضح أنها تحية نازية، مقابل أنها كانت موجة محرجة، مقابل لا يمكن أن تكون موجة، فقط انظر إلى اللمسة على كتفه وزاوية راحة يده، مقابل أنه مصاب بالتوحد، مقابل لا.

إنه معاد للسامية، مقابل لا أرى وسائل الإعلام المتحيزة تنتقد أوباما لأداء التحية النازية فى هذه الصورة التى وجدتها على «تويتر- إكس حاليًا»، مقابل هذه مجرد صورة ثابتة، توقف عن تضليل الناس بشأن ما رأوه بوضوح. ولكن ببطء، من خلال الانتقادات والردود والتصحيحات، تحول المسار.

جوش دز يزا  - موقع ذا فيرج

الأساس الحقيقي

ويكيبيديا هى أكبر موسوعة للمعرفة البشرية على الإطلاق، إذ تضم أكثر من ٧ ملايين مقالة فى نسختها الإنجليزية، وهى الأكبر والأكثر تطورًا من بين ٣٤٣ مشروعًا لغويًا.

انطلق الموقع قبل نحو ٢٥ عامًا، ولطالما سخر منه الناس باعتباره رمزًا لعدم موثوقية المعلومات على الإنترنت، إلا أنه اليوم، دون مبالغة، هو الأساس الحقيقى للعالم الرقمى.

فهو ما تضعه جوجل فى مقدمة نتائج البحث، التى كانت تعجّ بالإعلانات والرسائل غير المرغوب فيها، وما تستشهد به منصات التواصل الاجتماعى عندما تتكفّل بتصحيح نظريات المؤامرة، وما تجنيه شركات الذكاء الاصطناعى فى سعيها المستمر لإيقاف نماذجها عن تكرار المعلومات المغلوطة، والتشاور معها بوتيرة ترهق خوادم الموسوعة.

كل يوم، يلجأ إليه حوالى ٧٠ مليون شخص للحصول على معلومات موثوقة حول كل شىء، من فيزياء الجسيمات إلى الأغنام الإسكتلندية النادرة إلى كارثة مرحاض إرفورت عام ١١٨٤، وهى شهادة على نجاح ويكيبيديا، وعلى التدهور الكامل لبقية الإنترنت كمورد للمعلومات.

لكن على الرغم من روعة هذا الأرشيف، إلا أنه نتاج لشىء يبدو اليوم بنفس القدر من الأهمية: غرباء على الإنترنت يختلفون حول مسائل ذات أهمية وجودية وتفاهة مذهلة، ومن خلال المداولات والنقاش، يبنون أرضية مشتركة للواقع المتفق عليه.

قال دى إف لوفيت، الكاتب والمسوّق المقيم فى مينيسوتا، الذى يحرر فى الغالب مقالات حول المعالم المحلية والمؤلفين المفضّلين، والذى انضم لاحقًا إلى نقاش التحية، ليجادل بأن «جدل إيلون ماسك حول حركة الذراع المستقيمة»، كان وصفًا محرجًا لا داعى له: «من الأشياء التى تعجبنى حقًا فى ويكيبيديا أنها تجبرك على إجراء محادثات مدروسة وخالية من المشاعر مع أشخاص لا توافقهم الرأى، باسم محاولة بناء سرد دقيق».

وأضاف: «إنها فى الأساس المكان الوحيد على الإنترنت الذى لا يعمل كآلة لتأكيد التحيز»، ولهذا السبب أيضًا يعتقد أن الناس أحيانًا يغضبون منها. تعدّ ويكيبيديا واحدة من المنصات القليلة على الإنترنت التى لا توظّف فيها قوة حاسوبية هائلة لإخبارك بما تريد سماعه بالضبط.

قرر المحررون أنه ليس من حقهم التصريح بما إذا كان ماسك قد أدى التحية النازية أم أنه كان مجرد شخص محرج، حتى لو كانت لديهم آراؤهم. الحقيقة، كما اتفقوا، هى أنه فى ٢٠ يناير، «مد ماسك ذراعه اليمنى مرتين نحو الحشد بزاوية تصاعدية»، وأن العديد من المراقبين قارنوا هذه الحركة بالتحية النازية، وأن ماسك نفى أى معنى وراء هذه الحركة.

تم التوصل إلى إجماع. أُعيدت إضافة الأسطر. استغرق الأمر ما يقرب من ٧٠٠٠ كلمة من المداولات لتسوية ثلاث جمل مؤقتًا. كانت هذه هى عملية ويكيبيديا التى تسير على النحو المنشود.

عند هذه النقطة، اندفع ماسك نفسه بقوة إلى النقاش، مغردًا بأن الموسوعة «دعاية إعلامية موروثة!».

لم تكن هذه المرة الأولى التى يهاجم فيها ماسك الموقع، إذ يبدو أنها كانت فى عام ٢٠١٩، عندما اشتكى من وصفه الدقيق بأنه من أوائل المستثمرين فى شركة تسلا، وليس مؤسسها.

لكنه مؤخرًا لجأ إلى اتهام الموسوعة بالتحيز الليبرالى، وسخر منها، ودعا إلى وقف تمويلها. وبذلك، انضم إلى عدد متزايد من الشخصيات والجماعات والحكومات ذات النفوذ التى استهدفت الموقع.

فى أغسطس، أرسل الجمهوريون فى لجنة الرقابة بمجلس النواب الأمريكى رسالة إلى مؤسسة ويكيميديا، يطلبون فيها معلومات عن محاولات «بثّ التحيز» فى الموسوعة، وبيانات عن المحررين المشتبه فى قيامهم بذلك.

الهدف التالى

عندما خضعت الصحافة للرقابة الحكومية، وأغرقت منصات التواصل الاجتماعى بحملات دعائية واسعة الانتشار، أصبحت ويكيبيديا الهدف التالى، بل أكثر عنادًا.

ولأنها تحرر من قبل آلاف المتطوعين، معظمهم بأسماء مستعارة، حول العالم- ونظريًا، من قبل أى شخص يرغب فى ذلك- يصعب على أى دولة ملاحقة مساهميها.

ولأنها مدعومة بالتبرعات، فلا يوجد تمويل حكومى لقطعه ولا معلنون لمقاطعتهم. وهى شائعة ومفيدة، لدرجة أن حتى الحكومات شديدة القمع، ترددت فى حظرها.

لطالما كانت الولايات المتحدة، بفضل حمايتها القوية لحرية التعبير على الإنترنت، ملاذًا آمنًا عندما واجهت الموسوعة هجمات فى أماكن أخرى من العالم.

وهى مقر مؤسسة ويكيميديا، المنظمة غير الربحية التى تدعم المشروع. لكن الموقع أصبح هدفًا شائعًا لوسائل الإعلام المحافظة والمؤثرين، الذين يشغل بعضهم الآن مناصب فى إدارة ترامب.

فى يناير، نشرت صحيفة «فوروارد» شرائح من مؤسسة هيريتدج، وهى مركز الأبحاث المسئول عن مشروع ٢٠٢٥، توضح خطة للكشف عن هويات المحررين الذين يعتبرون معادين للسامية لإضافة معلومات تنتقد إسرائيل، وهى هراوة استخدمتها الإدارة ضد الأوساط الأكاديمية.

قال أحد المحررين للمجموعة المجتمعة: «الأمر يتعلق بإثارة الشك والالتباس ومهاجمة مصادر الثقة. لقد طال هذا وسائل الإعلام، والآن طال ويكيبيديا، وعلينا أن نكون مستعدين».

صراع متأصل

فى عام ١٩٦٧، نشرت حنة أرندت مقالًا فى مجلة النيويوركر حول ما اعتبرته صراعًا متأصلًا بين السياسة والحقائق. وكتبت، كغيرها من الحقائق، أن الحقائق هشة.

فعلى عكس المسلمات والبراهين الرياضية التى يمكن لأى شخص استنتاجها فى أى وقت، لا يوجد أى ضرورة لحقيقة أن القوات الألمانية عبرت الحدود مع بلجيكا ليلة الرابع من أغسطس ١٩١٤، وليست حدودًا أخرى فى وقت آخر، على حد تعبير أرندت.

وكما هو الحال مع جميع الحقائق، تثبت هذه الحقيقة من خلال الشهود والإفادات والوثائق والاتفاق الجماعى حول ما يعتبر دليلًا- أنها حقيقة سياسية، وكما أظهرت آلات الدعاية فى القرن العشرين، فإن السلطة السياسية قادرة تمامًا على تدميرها.

علاوة على ذلك، سيظلون دائمًا عرضة للإغراء، لأن الحقائق تمثل نوعًا من القوة المنافسة، وقيدًا وحدًا «يكرهه الطغاة الذين يخشون، عن حق، منافسة قوة قسرية لا يستطيعون احتكارها»، وهو أمر معرّض للخطر فى الديمقراطيات، حيث يشكلون حصنًا منيعًا أمام الرأى العام. بمعنى آخر، الحقائق لا تبالى بمشاعرك. كتبت أرندت: «الحقائق غير المرغوب فيها تتسم بعناد مثير للغضب».

لكن هذا العناد المثير للغضب يتبين أنه مهم. قد تكون الكذبة أكثر معقولية أو فائدة من الحقيقة، لكنها تفتقر إلى صفة الحقيقة التعسفية الغبية كونها حالة دون سبب محدد وبغض النظر عن رأيك أو تأثيرك.

بمجرد إعادة كتابة التاريخ، يمكن إعادة كتابته مرة أخرى ويصبح غير جوهرى. بدلًا من تصديق الكذبة، يتوقف الناس عن تصديق أى شىء على الإطلاق، حتى أولئك فى السلطة يفقدون بوصلتهم.

وهذا يمنح الحقائق «مرونة كبيرة» «ممزوجة بشكل غريب» مع هشاشتها. اتضح أن وجود أرضية مشتركة عنيدة من الواقع المشترك هو شرط أساسى للحياة البشرية الجماعية- للسياسة.

حتى السلطة السياسية يبدو أنها تدرك ذلك، كما كتبت أرندت، عندما تنشئ مؤسسات محايدة مثالية معزولة عن نفوذها الخاص، مثل القضاء والصحافة والأوساط الأكاديمية، مكلفة بإنتاج الحقائق وفقًا لأساليب أخرى غير الممارسة الصرفة للسلطة.

دور مماثل

أصبحت ويكيبيديا تلعب دورًا مماثلًا كثقل للحقائق، كما هو الحال مع الإنترنت الذى يزداد اضطرابًا، ولكن دون نفس السلطة المؤسسية، وبأساليبها الخاصة التى طوّرت تدريجيًا على مدار العقدين الماضيين، للوصول إلى إجماعٍ على الحقائق.

ليس من السهل حماية ويكيبيديا من الهجمات السياسية. فى المؤتمر، رأى العديد من المحررين أن هجمات إدارة ترامب تشكّل تهديدًا حقيقيًا، وأن تصويرها على أنها «مقاومة» يهدد موقف الموسوعة من الحياد الموثوق.

قال أحد المحررين، عندما طرح أحدهم فكرة تفنيد بعض المعلومات الكاذبة التى تغمر الإنترنت: «أؤيد بشدة عدم اتباع نهج الهجوم، بل اتباع النهج السلبى». وأضاف: «يعتبرنا الناس موثوقين لأننا لا نهاجم، بل نقدم المعلومات للجميع طوال الوقت بطريقة مملة. أحيانًا يكون الملل جيدًا. الملل ذو مصداقية».

حتى المحرر فى القمة، الذى كان الأكثر تأثرًا بإدارة ترامب، حثّ على عدم الرد المباشر. كانت جيمى فلود أمينة مكتبة وإخصائية توعية فى المكتبة الزراعية الوطنية، حيث قادت، من بين مهام أخرى، تدريبات جماعية ونشرت أبحاثًا حول مواضيع مثل البلازما الجرثومية وتغذية الأطفال على ويكيبيديا.

وتوظف المتاحف والمكتبات فى جميع أنحاء العالم هؤلاء «المتعاونين المقيمين» للعمل كحلقة وصل مع مجتمع الموسوعة لنفس السبب الذى دفع منظمة الصحة العالمية إلى الشراكة مع ويكيبيديا أثناء جائحة كوفيد ١٩ لإتاحة أحدث المعلومات: إذا كنت تريد أن يصل البحث إلى الجمهور، فلا يوجد مكان أفضل.

إلى جانب العديد من مستخدمى ويكيبيديا الآخرين العاملين لدى الحكومة الفيدرالية، سرح فلود للتو من قبل وزارة التعليم العالى والبحث، كأثر جانبى لتفكيك شامل لمؤسسات البحث والأرشيف. قال فلود: «أنا ضحية حرب هذه الإدارة على المعلومات».

مع ذلك، قال فلود إنه لا ينبغى لويكيبيديا إطلاقًا أن تهاجم. «ويكيبيديًا دائمًا فى الخلفية. إنهم لا يصدرون بيانًا كبيرًا، ولا أعتقد أنه ينبغى عليهم ذلك. لقد دربت الناس لفترة طويلة، وما زلت أعود إلى هذا الاقتباس المبكر لجيمى ويلز، أحد المؤسسين: (تخيل عالمًا تكون فيه كل المعرفة متاحة للجميع مجانًا). هذا يكفى. هذا تصريح بحد ذاته».

فى زمن التضليل الإعلامى، وفى زمن القمع، فإن وجود هذا المكان الذى يمكن للناس أن يأتوا إليه ويشاركوا المعرفة، يعد تصريحًا. بمعنى آخر، يجب أن تكون ويكيبيديا ثابتة كحقيقة. لكن الحقائق هشة.

هناك مقولة شائعة بين مستخدمى ويكيبيديا مفادها أن الموقع يعمل عمليًا لا نظريًا. يبدو أنه يتجاهل كل ما تعلمناه عن السلوك البشرى على الإنترنت: غرباء مجهولون يناقشون مواضيع خلافية، وبدلًا من الانقسام والتناحر، يعملون معًا لبناء شيء ذى قيمة.

أصول المشروع

تعود أصول المشروع إلى عام ١٩٩٩. أراد ويلز، وهو تاجر خيارات سابق «عمل فى سوق المشتقات المالية» أسس بوابة ويب شبابية تدعى «بوميس»، إنشاء موسوعة إلكترونية مجانية. وظف أحد معارفه من قائمة بريدية لآين راند، كان ويلز يديرها سابقًا، وهو طالب دكتوراه فى الفلسفة يُدعى لارى سانجر.

لم تكن محاولتهما الأولى، التى سميت «نيوبيديا»، مختلفة كثيرًا عن الموسوعات كما هى موجودة منذ «موسوعة ديدرو» عام ١٧٥١. كان الخبراء يكتبون مقالات تمر بسبع مراحل من المراجعة التحريرية. كانت العملية بطيئة. بعد عام، لم يكن لدى نيوبيديا سوى ما يزيد قليلًا عن ٢٠ مقالًا.

فى محاولة لتسريع الأمور، قرروا تجربة الويكى، وهو نظام ويب اكتسب شعبية بين مطورى البرمجيات مفتوحة المصدر، يسمح لعدة أشخاص بتحرير مشروع بشكل تعاونى. «ويكى كلمة هاوايية تعنى (سريعًا)».

كان الهدف من الويكى أن يكون منتدى يمكّن الجمهور من المساهمة بمسودات مقالات، تضاف لاحقًا إلى نظام مراجعة الأقران الخاص بنوبيديا، لكن الخبراء اعترضوا، ومنح الموقع المعتمد على المصادر الجماعية نطاقه الخاص، Wikipedia.com.

انطلق الموقع فى ١٥ يناير ٢٠٠١. وفى خلال أيام، تجاوز عدد مقالاته عدد مقالات نوبيديا بأكملها، وإن كانت متفاوتة الجودة. وبعد عام، تجاوز عدد مقالات ويكيبيديا ٢٠٫٠٠٠ مقال.

كانت هناك قواعد قليلة فى البداية، لكن ويلز قال إنها «غير قابلة للتفاوض» وهى أن تكتب ويكيبيديا من «وجهة نظر محايدة». هذه السياسة، التى تختصر بـNPOV، مقتبسة من «سياسة عدم التحيز» التى كتبها سانجر لنيوبيديا.

مفهوم اجتماعى

لكن على ويكيبيديا، اعتبرها ويلز «مفهومًا اجتماعيًا للتعاون» بقدر ما هى معيار تحريرى. إذا كان هذا الموقع سيتاح لأى شخص تحريره، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب الحروب الكلامية التى لا تنتهى حول من هو على حق هى، على نحو استفزازى، تنحية أسئلة الحقيقة جانبًا.

كتب ويلز إلى قائمة بريد ويكيبيديا الإلكترونى: «يمكننا التحدث عن ذلك، ولن نصل إلى أى نتيجة». وأوضح: «لعل أسهل طريقة لجعل كتابتك موسوعية هى الكتابة عما يعتقده الناس، بدلًا من الكتابة عما هو صحيح».

فى الوضع الأمثل، سيسمح مبدأ الحياد للأشخاص ذوى الآراء المختلفة بالاتفاق، إن لم يكن على المسألة المطروحة، فعلى الأقل على ما يختلفون عليه. «إذا كان لديك كاهن كاثوليكى طيب القلب ومدروس وناشط طيب القلب ومدروس فى منظمة تنظيم الأسرة، فلن يتفقا أبدًا بشأن الإجهاض، لكن ربما يستطيعان العمل معًا على مقال»، كما قال ويلز لاحقًا.

واجهت هذه النظرة تحديًا مباشرًا، وهو أن الناس يصدقون كل أنواع الأشياء: أن عمر الأرض ٦٠٠٠ عام، وأن تغير المناخ خدعة، وأن الهولوكوست خدعة، وأن مجاعة البطاطس الأيرلندية مبالغ فيها، وأن مقومى العظام جميعًا دجالون، وأنهم اكتشفوا هندسة جديدة، وأن الأم تيريزا كانت حمقاء.

ردًا على ذلك، أضاف المتطوعون الأوائل قاعدة أخرى. لا يمكنك قول الأشياء ببساطة؛ أى ادعاء واقعى يحتاج إلى توثيق يمكن للقراء التحقق منه بأنفسهم. عندما بدأ الناس بإرسال أدلتهم عبر البريد الإلكترونى إلى ويلز على خطأ أينشتاين فى النسبية، أوضح أن المصدر المذكور لا يمكن أن يكون «بحثك الأصلى».

عذرًا، كتب ويلز إلى أحد مفندى أينشتاين، لا يهم ما إذا كانت نظريتك صحيحة أم لا. عندما تنشر فى مجلة فيزيائية، يمكنك توثيقها.

بدلًا من محاولة التأكد من الحقيقة، قيّم المحررون مصداقية المصادر، باحثين عن مؤشرات مثل وجود قسم لتدقيق الحقائق فى المنشور، واقتباسات من مصادر موثوقة أخرى، وتصحيحات عند وجود أخطاء.

فى أفضل حالاتها، ضمنت هذه القواعد الأساسية اتباع النقاشات لجدلية مثمرة. قد يكتب محرر أن تغير المناخ الناجم عن الإنسان حقيقة؛ وقد يغير آخر السطر ليقول إن هناك نقاشًا مستمرًا؛ ويضيف محرر ثالث السطر مرة أخرى، مدعومًا باستطلاعات رأى لعلماء المناخ، ويطالب بدراسات مراجعة من قبل أقران تدعم نظريات بديلة.

كانت النتيجة وصفًا أدق لحالة المعرفة مما كان يروج له العديد من الصحفيين فى ذلك الوقت، من خلال إعطاء «كلا الجانبين» وزنًا متساويًا، بالإضافة إلى الكثير من العمل للوصول إليه.

وجدت دراسة نشرت عام ٢٠١٩ فى مجلة Nature أن أكثر مقالات ويكيبيديا استقطابًا- تحسين النسل، والاحتباس الحرارى، وليوناردو دى كابريو- هى الأعلى جودة، لأن كل جانب يضيف استشهادات لدعم آرائه باستمرار. ويكيبيديا: آلة لتحويل الصراعات إلى ببليوغرافيات.

إلى جانب بعض الميزات التقنية للويكى، مثل إمكانية تعديل أى شخص لكتابات الآخرين، وبعض القواعد الإدارية المبكرة، مثل عدم السماح بالتراجع عن تعديل شخص آخر أكثر من ثلاث مرات يوميًا، أُجبر المستخدمون عمليًا على مناقشة الخلافات والتوصل إلى «إجماع». أصبح هذا المبدأ الحاكم لويكيبيديا.

قد يجعل هذا العملية تبدو أكثر سلمية مما هى عليه فى الواقع. كانت الخلافات مستمرة. فى البداية، اصطدم سانجر، الذى ظل متحيزًا لنموذج أكثر هرمية يعتمد على الخبراء، مرارًا وتكرارًا مع المحررين الذين وصفهم بـ«الفوضويين» وطالب بسلطة أكبر لنفسه، وهو ما رفضه المحررون. عندما جفت إيرادات بوميس بعد انهيار شركات الإنترنت، سرّح ويلز سانجر وتولى إدارة المشروع.

حكم ويلز من بعد أكبر، فلم يظهر إلا بين الحين والآخر كوسيط للسلام بين المحررين المتخاصمين، أو حل لأزمة ما، أو طمأنة للناس بأنهم لا يحتاجون إلى إضاعة الوقت فى وضع إجراءات لاستبعاد تدفق مفاجئٍ من النازيين الجدد الذين كانوا يخططون لإغراق النقاش، لأنهم إذا ظهروا، «فسأحظرهم جميعًا شخصيًا إذا لزم الأمر، وهذا كل شىء».

أشار إليه المحررون أحيانًا، ساخرين، بـ«ملكهم الإلهى» أو «ديكتاتورهم الخيّر»، لكنه وصف دوره بأنه نوع من الملك الدستورى الذى يحمى المجتمع وهو يطوّر العمليات اللازمة لحكم نفسه بالكامل.

ولأن ويكيبيديا كانت خاضعة لرخصة المشاع الإبداعى، كان بإمكان أى شخص لم يعجبه أسلوب إدارة المشروع نسخه وإنشاء مشروعه الخاص، كما فعلت مجموعة من المستخدمين الإسبان عندما طرحت إمكانية نشر الإعلانات عام ٢٠٠٢.

فى العام التالى، أسس ويلز مؤسسة غير ربحية، مؤسسة ويكيميديا، لجمع التبرعات والاضطلاع بالأعمال الفنية والقانونية اللازمة لاستمرار المشروع. أما الموسوعة نفسها، فسيتم تحريرها وإدارتها بالكامل من قبل متطوعين.

لجنة التحكيم

فى أوائل عام ٢٠٠٤، فوّض ويلز صلاحياته فى الإشراف على المقالات إلى مجموعة من المحررين المنتخبين، تسمى لجنة التحكيم. ومنذ ذلك الحين، أصبح محررًا عاديًا، اسمه المستعار جيمبو ويلز، عرضة للإلغاء كأى شخص آخر.

حاول عدة مرات تحديث تاريخ ميلاده ليعكس حقيقة أن والدته تقول إنه ولد قبل منتصف ليل السابع من أغسطس ١٩٦٦ بقليل، وليس الثامن منه كما هو مذكور فى شهادة ميلاده، لكنه وبخ لتعديله صفحته الخاصة ومحاولته الاستشهاد بـ«بحثه الأصلى». «بعد سنوات من النقاشات والتغطية الموثوقة من مصادر موثوقة، فاز تاريخ السابع من أغسطس فى النهاية، مع ملاحظة تشرح التناقض».

على مدى العقدين التاليين، عدّل المحررون السياسات للتعامل مع نظريات المؤامرة والمؤرخين المراجعين والمعجبين المتشددين، وغيرهم من العفاريت الدائمة للويب المفتوح.

كانت هناك المبادئ التوجيهية الأساسية الثلاثة للمحتوى، وهى وجهة النظر المحايدة وقابلية التحقق وعدم وجود بحث أصلى؛ والركائز الخمس لويكيبيديا؛ ومجموعة من القواعد حول سلوك المحرر، مثل الأمر القضائى بتجنب الهجمات الشخصية وافتراض حسن نية الآخرين، والتى تم تحديدها وتنقيحها فى المقالات والمقالات المترابطة.

هناك منتديات متخصصة ولوحات إعلانات، حيث يمكن للمحررين اللجوء للمساعدة فى جعل المقالة أكثر حيادية، ومعرفة ما إذا كان المصدر موثوقًا، أو تحديد ما إذا كانت وجهة نظر معينة هامشية أو سائدة.

بحلول عام ٢٠٠٥، وجد أن الصفحات التى حدد فيها المحررون السياسة وناقشوا المقالات تنمو بشكل أسرع من المقالات نفسها. واليوم، يبلغ حجم هذه الواجهة الإدارية خمسة أضعاف حجم الموسوعة التى تدعمها على الأقل.

أهم ما يجب معرفته عن هذا النظام هو أنه، كما هو الحال مع مبدأ الحياد الذى نشأ عنه، يتجاهل المحتوى إلى حد كبير للتركيز على العملية.

إذا اختلف المحررون، على سبيل المثال، حول تسمية المقالة المتعلقة بالجزر غير المأهولة التى تطالب بها كل من اليابان والصين «جزر سينكاكو» أو «جزر دياويو» أو «جزر بيناكل»، فإنهم يحاولون أولًا التوصل إلى اتفاق على صفحة النقاش الخاصة بالمقالة، ليس من خلال مناقشة أى طرف على صواب، بل من خلال مناقشة موقف أى طرف يتوافق بشكل أفضل مع سياسات ويكيبيديا المحددة.

إذا لم يتمكنوا من الاتفاق، فيمكنهم استدعاء محرر غير مشارك لإبداء رأيه، أو تقديم «طلب تعليق» وفتح الموضوع لنقاش أوسع لمدة ٣٠ يومًا.

إذا فشل هذا وبدأ المحررون فى الشجار، فقد يتم استدعاؤهم أمام لجنة التحكيم، ولكن هذه اللجنة المنتخبة من المحررين لن تقرر أيضًا من هو على حق. بدلًا من ذلك، سيفحصون كميات المواد الناتجة عن المناقشة ويحكمون فقط على من انتهك إجراءات ويكيبيديا.

قد يحظرون محررًا لمدة ٣٠ يومًا للتآمر خارج ويكى للتأثير على النقاش، أو يمنعون محررًا آخر من العمل على مقالات حول جزر المحيط الهادئ بسبب هجمات شخصية متكررة، أو فى الحالات القصوى يحظرون شخصًا ما مدى الحياة. يمكن لأى شخص آخر العودة إلى المناظرة، باتباع العملية هذه المرة.

ونتيجة لذلك، يتم تقليص الخلافات السياسية المتفجرة والصراعات العرقية إلى مسائل تتعلق باتساق التنسيق. ولكن لأن العملية تقرر كل شىء، يمكن أن تكون العملية نفسها مصدرًا لصراع شديد. 

الديناميكية السائدة

من الواضح أن هذه ليست الديناميكية السائدة فى بقية الإنترنت. تحكم منصات التواصل الاجتماعى التى تتزايد فيها الثقافة والسياسة بخوارزميات لها تأثير معاكس لبيروقراطية ويكيبيديا فى جميع النواحى تقريبًا.

فهى محسّنة لجذب الانتباه، وتعزز الجديد والمتطرف والمثير، بدلًا من إخضاعها لمزيد من التدقيق، ومن خلال إرسال المحتوى إلى المستخدمين الأكثر احتمالًا للتفاعل معه، فإنها تصنف الأشخاص إلى مجموعات من الاتفاق المتبادل.

لموسوعة ويكيبيديا تاريخ طويل فى محاولة فك تشابك تحيّزاتها المختلفة وتصحيحها. منذ انطلاقها، كان محرّرو الموقع فى غالبيتهم من البيض والذكور، ومقيمين فى الولايات المتحدة وأوروبا.

فى عام ٢٠١٨، كان ٩٠٪ من المحرّرين رجالًا، و١٨٪ فقط من السير الذاتية فى الموسوعة كانت لنساء. فى ذلك العام، فازت الفيزيائية الكندية دونا ستريكلاند بجائزة نوبل، واكتشف من لجأ إلى ويكيبيديا لمعرفة المزيد عنها أنها تفتقر إلى مقال.

لكن العلاقة السببية بين هذه الحقائق لم تكن واضحة. لطالما استبعدت النساء من العلوم، وقلّ تمثيلهن فى تغطية العلوم، وبالتالى فى المصادر التى يمكن لمحررى ويكيبيديا الاستشهاد بها.

حاول أحد المحررين كتابة مقال عن ستريكلاند قبل عدة أشهر من جائزة نوبل، لكن طلبه رفض لعدم وجود تغطية فى مصادر موثوقة. غرّدت المديرة التنفيذية آنذاك، كاثرين ماهر، قائلة: «ويكيبيديا مرآة لتحيزات العالم، وليست مصدرها. لا يمكننا كتابة مقالات عما لا تغطيه».

تحديات فريدة

تعدّ إرشادات ويكيبيديا للمصادر متحفظة فى احترامها للمؤسسات التقليدية لإنتاج المعرفة، مثل غرف الأخبار الراسخة ومراجعة الأقران الأكاديمية، وهذا يعنى أن الأفكار قد تتأخر أحيانًا فى عملية الانتقال من الهامش إلى التيار السائد.

هذه الاتهامات بالتحيز، المألوفة من الهجمات على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى، تواجه تحديات فريدة عند توجيهها إلى ويكيبيديا. والأهم من ذلك، إذا كنت تعتقد أن هناك خطأ ما فى ويكيبيديا، فيمكنك إصلاحه بنفسك.

إن أول وأفضل خط دفاع لويكيبيديا هو شرح آلية عملها. أحيانًا، يبقى الناس ويتعلمون التحرير. فى أغلب الأحيان، يشعرون بالملل ويغادرون.

عوامل متعددة

لكن محاولات التأثير على الموقع ازدادت تعقيدًا مؤخرًا. يرجح أن هذا التغيير يعود إلى عوامل متعددة: صعود عالمى للحركات السياسية الراغبة فى السيطرة على وسائل الإعلام المستقلة، وتزايد مركزية ويكيبيديا، وتغيير تقنى فى الموقع نفسه.

فى أبريل، أرسل إدوارد مارتن الابن، المدعى العام الأمريكى المؤقت لإدارة ترامب فى واشنطن العاصمة، رسالة إلى مؤسسة ويكيميديا يتهم فيها المنظمة بنشر «دعاية»، ويشير إلى أنها انتهكت واجباتها كمنظمة غير ربحية معفاة من الضرائب.

من الناحية القانونية، كانت هذه الوثيقة غريبة. فالوضع الضريبى للمنظمات غير الربحية لا يقع عادة ضمن اختصاص المدعى العام الأمريكى فى واشنطن العاصمة، والعديد من الانتهاكات المزعومة، مثل وجود مواطنين أجانب فى مجلس إدارتها أو السماح بإعادة صياغة أحداث تاريخية رئيسية ومعلومات عن السيرة الذاتية لقادة أمريكيين حاليين وسابقين، ليست مخالفة للقانون.

ومع ذلك، تظل كل هذه المشاريع معتمدة كليًا على ويكيبيديا، وحتى الآن، قضت المبادرة الأكثر عدوانية من هذا النوع، وهى مبادرة «جروك» التى أطلقها ماسك، معظم فترة وجودها فى التخبط بين التحقق من صحة نظريات المؤامرة التى يروج لها ماسك وإعلان نفسها «ميكاهتلر». «الاسم هو دمج لكلمة (ميكا)، التى تستخدم عادة للإشارة إلى الروبوتات، واسم (هتلر)».

تهديدات جديدة

لكن تهديدات جديدة لا تزال تظهر. فى أغسطس، خسرت المؤسسة قضيتها التى طالبت فيها بالاستثناء من قانون السلامة على الإنترنت فى المملكة المتحدة، الذى من شأنه أن يلزم ويكيبيديا بالتحقق من هويات محرريها، على الرغم من أنها لا تزال تستأنف القرار.

يهدد الذكاء الاصطناعى بضغط أكبر على مسار التحرير. فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يحصلون على المعلومات من ملخصات الذكاء الاصطناعى لويكيبيديا بدلًا من الموقع نفسه، قلّ عدد الأشخاص الذين سيتخبطون فى مشاكلهم، ويواجهون خطأً يستدعى التصحيح، ويصبحون هم أنفسهم محرّرين.

فى الوقت نفسه، يستخدم الناس الذكاء الاصطناعى لإضافة معلومات تبدو معقولة، لكنها كاذبة أو متحيزة، إلى الموسوعة، ما يزيد من عبء العمل على المحررين.

قال «جيمبو ويلز»: لقد تعرضت ويكيبيديا للهجوم منذ بدايتها. لقد قاومت حظر تركيا حتى المحكمة الدستورية وانتصرت. حتى ويكيبيديا الروسية أثبتت صمودها.

إذا كانت منصات التواصل الاجتماعى ونماذج اللغة التى تشكّل فهمنا للعالم بشكل متزايد صناديق سوداء غامضة، فإن ويكيبيديا هى العكس تمامًا، وربما أكثر أنظمة إدارة المعلومات وضوحًا وتفسيرًا على الإطلاق. لكل جملة مصدر، وسبب لاستخدامه.

الفشل.. لماذا انهار مشروع «ماسك» قبل أن يبدأ؟

جيسون كوبلر - موقع 404 ميديا

استيقظت صباح الأحد، الساعة السادسة صباحًا، مضطربًا، وأشعر بصداع خفيف، وفتحت موقع ريديت. كان فى أعلى الصفحة منشور بعنوان «فى عام ٢٠٠٢، انتحر غواص كهف بطعن نفسه أثناء رحلة غوص فى كهف قرب سبليت، كرواتيا».

نظرًا لطبيعة وفاته، تم التحقيق فى البداية على أنها جريمة قتل، ولكن تبين لاحقًا أنه أقدم عليها وهو تائه فى الكهف تحت الماء لتجنب ألم الغرق. أُرفق المنشور برابط لصفحة على ويكيبيديا بعنوان «قائمة الوفيات غير العادية فى القرن الحادى والعشرين».

قضيت الساعتين التاليتين أغوص فى عالم ويكيبيديا، أتصفح كل أنواع طرق الموت المروعة التى يصعب تخيلها.

بعد يوم واحد، رأيت أن أعماق ويكيبيديا، الحساب الرائع على وسائل التواصل الاجتماعى الذى تديره آنى راويردا، قد أشار إلى حقيقة غير مفاجئة تمامًا، وهى أنه خلف الكواليس، كان هناك نقاش حاد وحوار بين محررى ويكيبيديا حول ما يشكل موتًا «غير عادى» بالضبط، وأن العديد من الوفيات «غير العادية» المدرجة سابقًا قد حذفت من القائمة لعدم كونها غريبة بما فيه الكفاية.

على سبيل المثال: الأشخاص الذين قتلوا بالرمح بمظلات الشاطئ «لم يعودوا حدثًا غير عادى أو فريدًا»؛ «أفراس النهر خطيرة للغاية وعدوانية للغاية وليس هناك ما هو غير عادى فى قتل أفراس النهر للناس»؛ «الظروف الغامضة لا تعنى أن وفاتها نفسها كانت غير عادية».

هذه هى أنواع التعديلات والمحادثات التى حدثت مجتمعة مليارات المرات، والتى تجعل ويكيبيديا ما هى عليه، والتى تجعلها إنسانية للغاية ومثيرة للاهتمام ومفيدة للغاية.

كجزء من حربه المستمرة ضد ويكيبيديا، لأنه لا يحب صفحته، أطلق إيلون ماسك جروكيبيديا، وهى «موسوعة» تم إنشاؤها بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعى ولا تخدم أى شخص ولا شىء سوى غرور أغنى رجل فى العالم.

وكما أشار آخرون بالفعل، تسعى جروكيبيديا إلى أن تكون منافسًا يمينيًا معاديًا للوعى لويكيبيديا. ولكن حتى تسميتها بمنافس ويكيبيديا هو إعطاء المشروع نصف المؤخر الكثير من الفضل.

إنها ليست منافسه لـ«ويكيبيديا» على الإطلاق. إنها آلة تجشؤ آلية بالكامل بلا قلب تمتص عمل البشرية بسخرية وبلا تمييز لخدمة المصالح وحماية الأنا وتضخيم وجهات النظر وإثراء أغنى رجل فى العالم بشكل أكبر.

إنها رمز لما يمكن أن تصبح عليه ويكيبيديا إذا جردت جميع البشر وسلمتها إلى روبوت؛ بهذا المعنى، تعدّ جروكيبيديا تحذيرًا مفيدًا نظرًا للضغط والهجمات المستمرة من مروّجى محتوى الذكاء الاصطناعى غير المفيد لترويجه فى ويكيبيديا.

ولا يحظى هذا الأمر بالاهتمام إلا لأن إيلون ماسك يمثّل تهديدًا حقيقيًا لويكيبيديًا من خلال نفوذه السياسى وثروته وهوسه بالموقع، بالإضافة إلى امتلاكه منصة تواصل اجتماعى ضخمة.

يكفى قضاء بضع دقائق فى تصفح النسخة الافتتاحية من جروكيبيديا لفهم أنها تفتقر إلى اللمسة الإنسانية التى تجعل من ويكيبيديا موردًا قيّما.

فإلى جانب ميلها المحافظ فى كثير من الأحيان وامتلاكها السمات العامة للكتابة بالذكاء الاصطناعى، فإن صفحات جروكيبيديا طويلة للغاية، ومنظمة بشكل سيئ ومربك، ولا تحتوى على روابط داخلية، ولا تحتوى على صور، وعادة ما تكون مكتوبة بطريقة غير منطقية.

لا يوجد أى فهم لكيفية إنشاء أى من المقالات، وكيفية الحصول على المعلومات وترتيبها، وأى تعديلات تم إجراؤها، ولا يوجد تاريخ للإصدارات، وما إلى ذلك.

جروكيبيديا، حرفيًا، مجرد نسخة واحدة سوداء من الموسوعة. هناك سبب وجيه لتسمية محررى ويكيبيديا «محررين»، وهو أن كتابة مدخل موسوعى مفيد لا يعنى «وضع حقائق عشوائية بدون ترتيب واضح».

ولاستخدام مثال لاحظته من خلال مجرد النقر حول المكان: تبدأ قائمة «الأشخاص البارزين» فى مدخل جروكيبيديا لمدينة بالتيمور بقائمة غير منظمة من رؤساء البلديات الأخيرين، وربما يكون هذا النوع من البيانات الأقل إثارة للاهتمام ولكنه الأقل فائدة من حيث إمكانية جمع البيانات حول مكان يمكن القيام به.

حتى فى صفحات ويكيبيديا الأكثر تعقيدًا، يناقش ويتحاور أشخاص ذوو ذوق رفيع وأفكار ثاقبة ووجهات نظر حول أنواع المعلومات التى ينبغى تضمينها فى أى مقالة، وترتيب عرضها، واللغة المحددة المستخدمة.

يفعلون ذلك فى إطار قواعد معقدة مجرّبة ومناقشة عبر ملايين حروب التحرير، واجتماعات المجتمعات الافتراضية، ومناقشات صفحات النقاش، واجتماعات المؤتمرات، وقوائم البريد الإلكترونى المبهمة، التى استرشدت هى نفسها بـ«بيان مهمة» و«قيم ويكيميديا» و«مبادئها التأسيسية» وسياساتها وإرشاداتها، بالإضافة إلى العديد من القواعد والمعايير والعمليات والإجراءات المعلنة وغير المعلنة.

كل هذا العمل الجاد خلف الكواليس خفى على المستخدم، ولكنه عمل بالغ الأهمية للمحررين الذين يبنون ويحمون ويكيبيديا ومشاريعها المرتبطة بها «يعدّ الحاجز الثقافى العالى أمام انضمام المحررين سببًا أيضًا لصعوبة العثور على محررين جدد لويكيبيديا، وهو أمر يناقشه مجتمع ويكيبيديا دائمًا حول كيفية إصلاحه دون إفساد المشروع».

لقد تم اختبار أى صفحة معينة على ويكيبيديا من قبل أشخاص حقيقيين يناقشون، على سبيل المثال، ما إذا كان من غير المعتاد أن يتعرض الشخص للموت تحت مظلة الشاطئ.

فى هذه الأثناء، تبدو جروكيبيديا مشابهة لما ستحصل عليه لو طلبت من طالب ماجستير قانون إنشاء موسوعة مضادة للوعى، وهو ما فعله إيلون ماسك بالضبط.

وكما يفعل طلاب ماجستير القانون عادة، تسرب بعض صفحات جروكيبيديا جزءًا من تعليماتها. على سبيل المثال، تشير صفحة جروكيبيديا على «ويكيبيديا الإسبانية» إلى «انتظر، لا، لا يمكن الاستشهاد بويكى»، ما يشير إلى أن جروكيبيديا مبرمجة لعدم الارتباط بويكيبيديا.

على أى حال، يستشهد هذا المدخل بصفحات ويكيميديا، ولكن فى «المصادر»، لا توجد روابط تشعبية لهذه الصفحات.

لا أشك فى أن جروكيبيديا ستفشل كغيرها من محاولات «منافسة» ويكيبيديا، أو بناء «بديل» لها، وهى محاولات لم يسمع بها أحد من قبل، لأن جميعها كانت سخيفة وقليلة المشاركة، ما أدى إلى انهيارها على الفور تقريبًا.

جروكيبيديا ليست منافسة حقيقية، لأنها تمثل كل ما لا تمثله ويكيبيديا: فهى ليست موسوعة، وليست شفافة، وليست إنسانية، وليست مؤسسة غير ربحية، وليست تعاونية أو جماعية، بل إنها فى الواقع لا تخضع للتحرير إطلاقًا.

صحيح أن ويكيبيديا تتعرض لهجوم من شخصيات سياسية نافذة، وانتشار الذكاء الاصطناعى، وما يرتبط به من تغييرات هيكلية فى قابلية الاكتشاف والربط على الإنترنت، مثل ملخصات الذكاء الاصطناعى ولوحات المعرفة.

لكن ويكيبيديا أثبتت مرونتها الفائقة، لأنها مشروع يعتمد تحديدًا على الحكمة المشتركة والتعاون بين البشر، وغرابتنا المشتركة، وطرق معالجة المعلومات. وهذا أمر لن يتمكن أى طالب ماجستير فى القانون من منافسته أبدًا.