المصرى الذى فضح «العالم الحر»..عمر العقاد: أشعر بأنى متواطئ مع من يمول قنابل غزة
- الليبراليون ينتقدون ترامب نهارًا ويسهرون معه ليلًا!
- الفائز بـ«جائزة الكتاب الأمريكى»: عشت طويلًا أعتقد أن الغرب هو عالم الحرية والعدالة!
- ما حدث للفلسطينيين منذ أكتوبر 2023 خلق لدىّ قطيعة كاملة مع الغرب
خلال الأيام القليلة الماضية، عاد اسم الكاتب الكندى- المصرى عمر العقاد إلى الواجهة من جديد، بعد فوزه بجائزة الكتاب الوطنى الأمريكية لعام 2025 المُقدمة لـ«أفضل عمل غير روائى»، عن كتابه: «One Day, Everyone Will Have Always Been Against This / فى يوم ما سيكون الجميع ضد هذا دائمًا».
فكرة الكتاب بدأت من «تغريدة» كتبها «العقاد» على «إكس/ تويتر»، فى أكتوبر 2023، انتقد فيها صمت الغرب أمام المجازر التى تحدث فى غزة، قبل أن تصبح شرارة لفهم أعمق لزيف الوعود بالحرية والعدالة، خاصة بعدما اكتشف، عبر عقدين من التغطية الصحفية المباشرة، أن هناك دومًا فئات من البشر تُحرم من المعاملة الإنسانية بشكل كامل
قبل هذا التتويج بفترة وجيزة، أجرت صحيفة «ذا جارديان» البريطانية حوارًا معمقًا مع الكاتب المصرى- الكندى، حول أعماله الخاصة، ورؤيته للأدب والكتابة والسياسة، ورؤيته للتناول الغربى لحرب غزة، قبل أن تعيد نشره من جديد بعد إعلان فوزه، وتترجمه «حرف» فى السطور التالية.

■ قلت إن كتابك «فى يوم ما سيكون الجميع ضد هذا دائمًا» بمثابة «سجلّ لصدع». وهو بالفعل يبدو كذلك، كأن علاقتك بهذه المنطقة من العالم، التى ظهرت فيها شقوق صغيرة على مرّ السنين، قد تهشّمت بالكامل خلال قصف غزة.. كيف تمكنت من الكتابة خلال تلك الأزمة؟
- التحقت بالمدارس البريطانية والأمريكية منذ أن كان عمرى ٥ سنوات، ومنذ ذلك الحين كنت مرتبطًا بشدة بهذا الجزء من العالم، متأثرًا بالقيم التى بدا لى أنها تمثل الحرية والعدالة. إحدى التجارب التكوينية التى بقيت محفورة فى ذاكرتى من طفولتى، كانت محاولتى الإمساك بالمجلات مقابل الضوء كأنى أحاول قراءة ما كان مخفيًا تحت حبر الرقابة، كأننى أحاول اقتناص الحقيقة من بين ثنايا القيود المفروضة على المعرفة.
لكن خلال العام والنصف الماضيين، منذ أكتوبر ٢٠٢٣، أصبح من الصعب تجاهل شعور عميق بالتواطؤ الشخصى. كل تلك الشقوق الصغيرة التى لاحظتها فى الغرب، خلال نشأتى وعبر سنوات عملى كصحفى، تحولت فجأة إلى «تصدّع كامل». شعرت بأننى على الجانب الذى يطلق القنابل! وأن أموالى كدافع ضرائب تسهم فى دفع ثمن العنف الذى أراه وأتابعه تقريبًا وقت حدوثه مباشرة.
هذه التجربة جعلت من الصعب علىّ استمرار التفكير فى الغرب ككيان يمكن تصحيحه بمجرد إعادة تقييم بعض الأفكار العامة عن قيمه ومبادئه. لذا، هذا الكتاب فى جوهره سجلّ لقطيعة: كان هناك شىء ظللتُ متشبثًا به طوال حياتى، شعور بالأمان الأخلاقى والانتماء إلى فكرة الغرب كمساحة للحرية. أما الآن، أشعر بأن هذا الارتكاز قد فقد، وأننى أقف على الجانب الآخر من هذا الانفصال، حيث لم أعد متأكدًا مما أنا عليه، أو إلى أين أتجه فى ظل هذا الفراغ الأخلاقى الذى يحيط بى.

■ غطّيتَ كصحفى أحداث ما سُمى بـ«الحرب على الإرهاب» لسنوات، بما فى ذلك «جوانتانامو» وأفغانستان.. لماذا تعتقد أن غزة تحديدًا هى التى أحدثت شرخًا بهذا الحجم؟
- أظن أن السبب باختصار يمكن تلخيصه فى ٣ عوامل متشابكة: المشاهدة المباشرة للأحداث، وضخامة حجم العنف، واعتراف صريح بضعفى الشخصى أو بمعنى أدق «جُبنى». خلال عملى الصحفى فى سنوات «الحرب على الإرهاب»، وتغطية أماكن مثل سجن «جوانتانامو»، كنت قادرًا على الاحتفاظ بنوع من المسافة بين نفسى ودورى فى هذا الجزء من العالم، وبين ما كنت أراه يحدث.
بمعنى آخر، كنت أستطيع اعتباره «استثناءً مؤقتًا»، وأؤمن بأن هناك أساسًا صلبًا لشىء جيد وجوهرى يمكن أن يصمد رغم الفوضى الظاهرية. لكن هذا بات مستحيلًا فى السنوات الأخيرة. كل صباح أستيقظ وأنا أعلم بأن فتح حساباتى على وسائل التواصل الاجتماعى يعنى غالبًا رؤية صورة لطفل فلسطينى مبتسم، وغالبًا ما يكون ذلك الطفل قد قُتل للتو!
هذه الحقيقة جعلت آلية الدفاع النفسى التى كنت أعتمد عليها غير مُتاحة لى بعد الآن. وإلى جانب ذلك، هناك الحجم الهائل للعنف الذى لا يحتاج إلى تفسير. مع تشابك كل هذه العوامل مع ضعفى الشخصى، صارت قدرتى السابقة على غض الطرف لفترة طويلة، غير موجودة، لم أعد قادرًا على ذلك، وأشعر بثقل الحقيقة كما لو كنت مشاركًا فيها بلا خيار.

■ يبدو أن نقدك الأكثر حدة موجه إلى الليبرالى الغربى، الشخص الذى قد يشعر بالتعاطف مع المظلومين لكنه يختار الصمت، سواء خشية العواقب أو حفاظًا على راحته الشخصية. كيف تفسر هذا التردد أو الانكفاء؟
- بالنسبة لى، كانت هناك مواجهة صعبة مع نفسى حول المكان الذى أوجّه نحوه غضبى سياسيًا، بين ما يقتضيه العقل وما تفرضه الغريزة. عقلانيًا، أعلم، وبغض النظر عن أى مقياس، أن الإدارة الحالية قد تكون من أسوأ الإدارات التى عاصرتها فى حياتى.
لكن على المستوى الغريزى، ما أوصلنا إلى هذه اللحظة يثير نوعًا آخر من الغضب، لأنه يكشف الهوة الكبيرة بين الخطاب المعلن والواقع الفعلى. فمثلًا نشاهد إدارة يُفترض أنها ليبرالية وتقدمية ترسل رسائل تحذر فيها من دونالد ترامب بوصفه تهديدًا خطيرًا للديمقراطية، وفى الوقت نفسه نرى قادة هذا الحزب يجلسون معه بودّ خلال مناسبات عامة بعد أسابيع قليلة من الانتخابات، فى تناقض صارخ بين الكلام والفعل.
وأيضًا نتلقى رسائل تتحدث عن أزمة المناخ كتهديد وجودى لكوكب الأرض، بينما تُبنى الحملات الانتخابية على عدم القيام بأى خطوات حقيقية لمعالجتها. وتشاهد المتحدثين الرسميين للإدارة يتحدثون عن الرغبة فى تحقيق سلام دائم، بينما تواصل الحكومة تمويل حرب لا نهاية لها. هذه الفجوة بين الكلام والأفعال، بين الوعود والواقع، هى ما يغذى ذلك الغضب العميق ويجعل التعامل مع الوضع أكثر صعوبة وإحباطًا.

■ مع استمرار «ترامب» فى تفكيك الحكومة الفيدرالية بينما نتحدث، هل ترى أن هذا جزء من القصة نفسها التى تصفها، عن نظام ينهار تحت ثقل أساطيره ومبادئه الزائفة؟
- أعتقد أن أحد المسارات شبه الثابتة فى السياسة الأمريكية خلال العقدين والنصف الماضيين هو أن كل ما كان يُعتبر هامشيًا أو متطرفًا داخل الحزب الجمهورى قبل عشر أو خمس عشرة سنة، يجد اليوم مكانه فى قلب الحزب ويصبح جزءًا من التيار السائد.
أما ما يثير قلقى بحق حول شخص مثل دونالد ترامب، فليس فقط التطرف الواضح فى مواقفه السياسية أو أسلوبه، بل احتمال أن يُنظر إليه لاحقًا على أنه معتدل بالمقارنة مع ما قد يصبح عليه الحزب الجمهورى فى المستقبل القريب.
أى نظام سياسى يعتمد فى جوهره على النهم والاستيلاء المستمر لا يشبع أبدًا، سيقود بلا شك إلى أماكن خطيرة. نظام يسعى دائمًا للاستيلاء على المزيد، المزيد من الأراضى، المزيد من الموارد، وحتى المزيد من حيوات الأشخاص الذين يقفون فى طريقه. لا يمكن أن يؤدى هذا إلا إلى أزمة مستمرة ومآلات مأساوية.
وفى ضوء ذلك، أصبحت أقل اهتمامًا بمحاولة تباطؤ اندفاعنا نحو هذه النهايات المتوقعة، وأكثر تركيزًا على البحث عن طرق لتغيير النظام نفسه الذى يولد هذا المسار، لأنه دون ذلك، كل محاولات التخفيف ستكون مجرد ترقيع مؤقت.

■ هل من الممكن دفع هؤلاء الليبراليين المترددين الذين كنت تدين صمتهم، أو ممن يكتفون غالبًا بالكلام أو التعاطف، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وفعّالة بدلًا من الاكتفاء بالصمت أو المهادنة؟
- نعم، بالتأكيد. انظرى إلى شبكات التضامن التى تشكّلت على مستوى القواعد الشعبية، والتى جاءت استجابةً لما حدث خلال العام والنصف الماضيين، وأيضًا لما تفعله إدارة ترامب حاليًا. هذه الشبكات تظهر أن رغم كل الإحباطات والمخاطر، هناك شجاعة حقيقية يبديها الأفراد والمجتمعات على الأرض، وتصرفاتهم تُثبت أن العمل الجماعى ممكن وفعّال حتى فى أصعب الظروف.
وعلى الرغم من أننى أصبحتُ ساخرًا إلى حد كبير فيما يتعلق بمؤسسات الغرب، سواء كانت سياسية أو أكاديمية أو ثقافية، فإننى شعرت برد فعل معاكس تمامًا تجاه الشجاعة الهائلة التى أظهرها الناس على المستويين الفردى والجماعى. هذه المؤسسات موجودة بالفعل، ورغم أنها تواجه معارك صعبة، فهى ما زالت حاضرة ويمكن الاستناد إليها فى العمل والتغيير.
أى محاولة لحل هذه الأزمة تحتاج إلى أن تتخذ الهياكل الليبرالية الوسطية، الموجودة فى الولايات المتحدة ويمثلها بشكل رئيسى الحزب الديمقراطى، قرارًا حاسمًا: إما أن تقوم بإجراء تغييرات جذرية لمواجهة التحديات بشكل مباشر وفعّال، أو أن تستمر كنسخة ضعيفة من الوسطية، بينما يواصل الوسط نفسه الانزلاق نحو اليمين أكثر فأكثر مع مرور الوقت.

■ هل هذا يعنى أنك ما زلتَ تملك شيئًا من الأمل؟
- نعم! وهذا أمر غريب فأن أقول هذا عن كتاب يحمل طابعًا كئيبًا بهذا الشكل، لكننى أراه كتابًا مليئًا بالأمل العميق. أنا أتابع أفعالًا تعكس شجاعة استثنائية على الأرض. مثل هؤلاء الأطباء الذين يطيرون إلى قلب مناطق القتال ويجرون عمليات جراحية وسط ظروف قاسية.
وهناك عمّال موانئ يرفضون المشاركة فى تحميل الصواريخ على السفن. وأيضًا الحشود من طلاب جامعات النخبة الذين أُتيح لهم الوصول إلى حياة رغيدة بسهولة، يختارون التضحية بمكانتهم والاحتجاج من أجل شعب لا يستطيع تقديم أى مقابل مادى لهم تقريبًا. لقد كتبت كتابًا، وبالنظر إلى الصورة الأكبر، قد يبدو أن كتابى لا يغيّر الكثير فى الواقع.
لكن ما يمنحنى الشجاعة والأمل هو رؤية الآخرين يقومون بالعمل الحقيقى على الأرض. إنهم يصنعون الفارق بالفعل وأنا أستلهم منهم القوة لأستمر فى التعبير والكتابة. بالنسبة لى، هذا الأمر يبعث على أمل أكبر، لأنه يمنعنى من أن أجد نفسى قد أدرت ظهرى لكل تلك المؤسسات العملاقة ومواردها الهائلة، لأواجه فى النهاية الفراغ المطلق والعدم الحقيقى، الذى لا يكاد يحمل أى معنى. وجود هؤلاء الأفراد والشجاعة التى يظهرونها يذكّرنى دائمًا أن الأمل والعمل ممكنان حتى فى أحلك الظروف.




