السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نداء الحدائين.. لا تنويحة ولا صقر

سامح الاسوانى
سامح الاسوانى

يا شمس غيبى ويا سفاين حلى

بلدى بعيدة وخاطرى فى محلى

هكذا نادى الحداء ناقته/ سفينته، يدعوها أن تصل به سريعًا إلى الحِلة/القرية/ مضارب أهله/، فقد استبد به الشوق، وهو على مسافة بعيدة عن بلده، لكنها تشغل عقله طوال الوقت.

هذا النداء سمعته، من خلال ما يعرف عند معظم المهتمين بالفلكور بـ«أسطوانة تبريو»، وهى الأسطوانة التى تحوى مجموعة كبيرة من الأغانى الشعبية التى جمعها العالم الرومانى تبريو إلكسندرو فى ستينيات القرن الماضى، وصنفها تصنيفًا علميًا إلى أغانى العمل والميلاد والزواج والموت، وجمعها من مختلف ربوع مصر، ووثقها فى مذكرة شارحة أصدرتها وزارة الثقافة فى بداية عام ١٩٦٧.

ومن بين ما جمعه العالم الرومانى نداءات لاثنين من حدائى الإبل، من مدينة دراو بأسوان، من بينها البيتان السابقان، وأحدهما صاحب النداء الشهير الذى جاء فى فيلم الهروب للفنان أحمد زكى والمخرج عاطف الطيب، والذى عرف خطأ بـ«تنويحة الصقر» أو «النواح الصعيدى» أو «نواح صائد الصقور».

لا أعرف من الذى اخترع مصطلح «تنويحة»، إذ لم نسمع أن هناك من شدا للصقور فى مصر، أو أن هناك فنًا شعبيًا بهذا الوصف، ليس لدينا سوى «العديد»، أو شعر المراثى الشعبية، وقد انتشرت فى الفترات الماضية تعليقات كثيرة عن هذا النداء، لا يمكن وصفها سوى بالهراء الكامل والساذج، من بينها أن الأغنية/ النداء عن «تسجيل صعيدى مجهول قديم جدًا اسمه غناء صياد الصقور، سجل فى القرن الـ١٩ بواسطة رحالة فرنسى، وفى الستينيات سجلها الباحث الرومانى تبريو، كعمل احترافى فى بروجكت عن الفلكلور فى مصر، لحد ما المخرج عاطف الطيب ‏والموسيقار مودى الإمام جابوه من وزارة الثقافة الفرنسية سنة ١٩٩١ عشان يمستروه ويخلوه ساوند تراك للفيلم».

أعلم أن الفنان مودى الإمام هو من أجرى معالجة موسيقية لنداء الحداء، وقد قرأت تصريحًا منسوبًا إليه فى عدد من المواقع الإخبارية، جاء فيه أن صاحب هذا الغناء بدوى من قبائل الطوارق.

لكن حقيقة الأمر على خلاف هذا تمامًا، فقبائل الطوارق تنتشر فى الصحراء الكبرى من ليبيا حتى المغرب، ولأفرادها لغة مختلفة عن العربية، بينما فى مثالنا هذا نتحدث عن لغة عربية، وإن كانت بلهجة مصرية، جنوبية تحديدًا، كما أن وزارة الثقافة الفرنسية محشورة فى هذا السياق، على نحو غير مفهوم، فى حين أن الجمع الميدانى كان تحت إشراف وزارة الثقافة المصرية، الذى كان على رأسها فى هذا الوقت الدكتور ثروت عكاشة.

يقول الباحث الرومانى فى «مذكرة» شارحه لعمله، صدرت عن وزارة الثقافة بـ«الجمهورية العربية المتحدة»: «هذه المجموعة الإثنولوجية مهداة إلى هواة الموسيقى الشعبية ومحبيها.. تشتمل على ٣٨ مقطوعة جمعت من محصول قيم، وهى تقدم صورة صادقة لموسيقى غنية بالجمال، استوحاها شعب هذه البلاد من طبيعتها، ولا يزال التعرف عليها ضئيلًا».

ومن أجل هذا الجمع الميدانى قطع تبريو «رحلة خلال البلاد المصرية من أدناها إلى أقصاها» استغرقت ٩ أشهر فى عام ١٩٦٧، ولا ينسى تبريو تقديم الشكر للدكتور ثروت عكاشة، نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة وقتها.

أى أن الأغنية مصرية وأصيلة فى موروثنا الشعبى، وتندرج تحت أغانى العمل، فى تقسيم علم الفلكلور، فلا هناك طوارق ولا فرنسا ولا نواح أو تنويحة.

يقول العالم الرومانى عن النداء الذى نحن بصدده: «الأغنية تخاطب جملًا يحمل جرسًا أثناء سيره فى رمل الصحراء، وتذكر اللحظات السعيدة التى سيستقبلون فيها مرة أخرى، عند وصولهم بالأغانى والطبول».

أما كلمات النداء فتقول:

يا بكرتى يا أم الجرس رنانه

فى خوض البحور ولا حيرانه

خشيت البلد نقرزت طيرانه

فرحت لمان أريت الأهل وأرونا

يمدح الحادى ناقته ذات الجرس الرنان، والتى تعرف طريقها فى بحور الصحراء، ولا تضل طريقها إلى بلاد صاحبها، ثم يصف فرحة لقاء الأهالى بوصوله إلى بلدته، والذين دقوا الدفوف لاستقباله، ومن سعد حين رأى أهله ورأوه.

عوودى.. يا جملى يا تارك النبى 

يا شمس غيبى ويا سفاين حلى.

بلدى بعيد وخاطرى فى محلى.

عووووودى

أنا بمدح المليحى وبمدح قبة خضرا

والمسايك ريحى 

«عوودى» وهو نداء للتعجيل يسير الناقة، بعد أن أتمم زيارة للنبى، يستحثها على المضى، ويدعو الله أن تصل سفينته إلى أرض الوطن، إذ إن بلده بعيد، لكنه فى باله وخاطره، ويواصل مسيره مادحًا المليح، النبى وقبة مسجده الخضراء، وهو يتنسم رائحة المسك، بعد الزيارة المباركة.