أميرة سيد مكاوى: أمى صاحبة القرار الأول فى اختيار ألحان شيخ الملحنين
«كده أجمل انسجام كده يحلو الكلام، من غير الحب وأنت قول على الدنيا السلام»، سلام للدنيا لوح به شيخ الملحنين سيد مكاوى يوم ٢١ أبريل من العام ١٩٩٧، سلام ترك وراءه رصيدًا فنيًا من الصعب تكراره، مشوار بدأه جالسًا على كرسى خشبى خلف نظارة سوداء اللون فوق خشبة مسرح تتجه صوبها نظرات مريدين جاءوا من كل حدبٍ وصوب، بينما يجلس الباقون بجانب أثير الراديو يستمعون لتلك الروائع، مقطوعات نقلها لنا بصوته، وروائع أخرى اكتفى فقط بتغليفها من خلال ألحانه وبأنامله الذهبية على العود رفيق رحلته، ليترك إرثًا يرهق من جاء بعده، إرثًا لم نجد أحق من أن يتحدث عنه سوى «ميلو» كما كانت تُحب أن يناديها، أميرة سيد مكاوى ابنة شيخ الملحنين تتحدث لـ«حرف»:
■ ٢٧ عامًا مرت على رحيل واحد من أعظم الملحنين فى تاريخ الفن المصرى.. لو تحدثنا عن سيد مكاوى الأب ماذا يمكننا أن نقول؟
- بالتأكيد شهادتى فى سيد مكاوى الأب ستكون مجروحة، ومن الصعب تلخيصها فى كلمات، فمثلما كان فنانًا وملحنًا فذًا، قلما يأتى الزمان بمثله، كان أبًا استثنائيًا، يمتلك من الحنان والعاطفة مخزونًا لا ينضب، ومن الثقافة والانفتاح على الآخر والتحضر ما كان يندُر وجوده فى ذلك الوقت، كان متفهمًا للغاية، صديقًا قبل أن يكون أبًا، كما أن ظروفه الخاصة واختلافه كانا سببًا رئيسيًا فى تميزه عن باقى ملحنى عصره، حيث كانا دافعًا له فى الاحتكاك بثقافات وحضارات مختلفة جعلته أكثر تميزًا، وكان يمتلك من الإنسانية والإحساس بالآخر الكثير.
■ شخص بهذه الرقة والعذوبة.. ما الشىء الذى يضطره للعصبية والخروج عن هذه الحالة الهادئة؟
- الكذب ولا شىء غير الكذب، عدوه الأول والأخير طيلة حياته، وأكثر ما كان يدفعه للغضب، حيث كان يرفض دائمًا فكرة أن يكذب أحد عليه لسبب ما، فما الذى يستدعى الكذب من وجهة نظره، وأتذكر أنا وأشقائى أننا كنا نواجه استحالة فى الكذب عليه أو إخفاء شىء، كان يمتلك من الإحساس والبصيرة ما يجعل من المستحيل الكذب عليه.
■ وكيف كان يعُبر عن غضبه؟
- تعبير والدى عن غضبه كان على مرحلتين، على حسب جسامة الفعل، إذا كان خطؤنا، سواء أنا أو أشقائى، بسيطًا، كان يكتفى بالنداء علينا بأسمائنا الحقيقية، دون اسم الدلع، أتذكر حين كنت أسمع اسمى صراحة، كنت أرتجف من القلق، ولا أطمئن إلا عندما ينادينى بـ«ميلو» حينها أعلم أن كل شىء على ما يرام، كما كانت لديه مرحلة ثانية من الغضب، هى الصمت الطويل، حينها لا يتحدث مع أحد منا فى حالة الغضب.
■ هل تتذكرين أكثر شىء كان سببًا فى غضبه منك؟
- بعد رسوبى فى الثانوية العامة خاصمنى والدى حينها أسبوعين، وأتذكر أنها أسوأ فترة مرت علىَّ فى حياتى، حيث كان غضبه عبارة عن صمت تام لا حديث معى، والصمت معناه هنا تجاهلى التام، لا يسألنى عن أحوالى فى المدرسة أو فى الحياة، ولا يحق لى الحديث أو الجلوس معه على الإطلاق حتى تنتهى فترة الخصام.
■ مثلما كان أبًا استثنائيًا.. هل كان زوجًا استثنائيًا أيضًا؟
- مكاوى الزوج كان أشبه بالاختراع، لم أر زوجًا مثله طيلة حياته، كان زوجًا حنونًا وعطوفًا، جمعته بوالدتى علاقة خاصة، للدرجة التى تجعلك تقول إنهما خلقا لبعضهما، حكاية حبهما تعيش حتى هذه اللحظة ترويها لنا والدتنا، كان بينهما من التفاهم رصيد لا ينفد، وفيض من الاحترام والتقدير لا حدود له، ومساحة خاصة من الثقة والخصوصية من المستحيل على أحد اختراقها، كما كان زوجًا متعاونًا للغاية.
■ شخص تزدحم حياته اليومية بالألحان والغناء.. كيف اجتمعت فيه تلك الصفات، ومتى توافر له الوقت للتعاون فى المنزل؟
- ظروف عمله كموسيقى ومطرب كانت تحتم عليه أغلب الوقت أن يعمل ليلًا، بل ويقضى أغلب الليل خارج المنزل، لذلك كان حريصًا على تعويض ذلك الوقت فى فترة النهار، حيث كانت والدتى تذهب إلى عملها فى فترة النهار، وبالتالى كان عليه أن يقوم بدورها فى ذلك الوقت، من حيث الاعتناء بى وبأشقائى من ناحية الدراسة وخلافه، ولم أتذكر مرة أنه كلَّ أو ملَّ من هذا الدور.
■ وكيف كان يقضى وقته معكم؟ هل كانت له هوايات أخرى غير الغناء والتلحين؟
- كان يعشق الراديو صديقه الأقرب، يسمع العديد من الألحان والموسيقى المختلفة، كما كان يطلب منى أنا وأختى الجلوس معه؛ لنقرأ عليه بعض الكتب، علاوة على عشقه الاستماع للأفلام العربية، خاصة أعمال نجيب الريحانى، حيث كان يحفظ أغلبها، وبالتحديد فيلم «سى عمر»، كمان كان يهوى ركوب الدراجات ولعب الدومينو معنا، ويستغل أوقات فراغه فى إصلاح بعض الأشياء داخل المنزل، كما كانت طباعه لا تخلو من الفكاهة والدعابة مع الأصدقاء.
■ أعمال الموسيقار الراحل كانت تستحق وصف العبقرية.. بالتأكيد كانت هناك طقوس خاصة فى المنزل أثناء التحضير للحن من تلك العبقريات؟
- على الإطلاق، والدى كان يفصل تمامًا بين العمل والمنزل، كان لديه مكتب خاص للعمل فيه وإعداد الألحان، ولكن بالتأكيد لم تخل حياته داخل المنزل من بعض الإرهاصات؛ نتيجة ضغوط العمل، حيث كان يصطحب إلى المنزل الكاسيت المسجل عليه كلمات الأغانى التى يستعد لتلحينها، والتى كنت أسجلها بصوتى أحيانًا؛ تحسبًا لورود خاطرة فى ذهنه مرتبطة باللحن أثناء وجوده فى المنزل.
■ روائع سيد مكاوى غناها كبار مطربى مصر والوطن العربى، من كان له الرأى والمشورة قبل خروج اللحن للنور؟
- والدتى كانت صاحبة القرار الأول والأخير فى اختيار الألحان وتعديلها، حيث كان حريصًا على عرض اللحن عليها قبل تسجيله، وكانت فى بعض الأحيان تعترض على أحد الألحان، ويلجأ والدى لإعادة تقديمه من جديد وإعداده، علاقة حبهما لم تقتصر على المنزل وتدابيره واحتياجاته فقط، بل كانت تمتد إلى عمله أيضًا.
■ بعد تلك المسيرة العامرة بالإلحان والغناء للراحل سيد مكاوى.. هل هناك أعمال بعينها للراحل تحرصين على سماعها؟
- أعشق كل أعمال والدى، وإن كان هناك بعض الأعمال التى تعلقت بها، مثل رباعيات صلاح جاهين وأغنية تفرق كتير للفنانة الكبيرة نجاة، وجميع ألحانه للفنانة الراحلة وردة الجزائرية، كما إننى أعشق سماع الأعمال غير المشهورة له، والتى لم تأخذ حقها من الإذاعة.
■ وهل كانت له أعمال تحتل مكانة خاصة فى قلبه؟
- كل أعماله لم يستثن واحدًا، خصوصًا تلك التى لحنها لكبار المطربين، وكذلك أعماله الخاصة، والتى غناها بنفسه، مثل «ما تفوتنيش أنا وحدى» و«أوقاتى بتحلو»، وبالتأكيد «أوبريت الليلة الكبيرة».
■ لا يمكن ذكر أوبريت الليلة الكبيرة دون التطرق لتلك العلاقة الخاصة بين سيد مكاوى والشاعر الكبير صلاح جاهين.. حدثينا عنها؟
- صلاح جاهين وسيد مكاوى شقيقان، شخص واحد لا يمكن التفريق بينهما، لم يفترقا طيلة حياتهما، بل ورحلا عن الدنيا فى نفس اليوم باختلاف العام، وكانا يرتبطان بشكل إنسانى ووجدانى لا مثيل له، لم يحدث بينهما خلاف يومًا ما، وتجسدت تلك العلاقة فى أعمالهما المشتركة، خاصة أوبريت الليلة الكبيرة، وهو العمل الذى يتخطى مجرد عمل فنى، بل يعد توثيقًا لمرحلة وفلكلور فى تاريخ مصر لا يمكن إخفاؤه.
■ الأبنودى وفؤاد حداد شكلا مع الراحل حالة غنية بالإبداع.. كيف عاصرت تلك الحقبة؟
- الأبنودى مع الرائع فؤاد حداد، وبالتأكيد صلاح جاهين وسبقهم بيرم التونسى أيضًا شكلوا أعمدة شعر العامية فى مصر، وكانت لهم علاقة خاصة ووثيقة مع والدى، تمثلت فى أعمالهم المختلفة على مدار الرحلة، وجمعت رائعة «حروف الكلام» بين الأبنودى ومكاوى، وبالطبع ثنائية المسحراتى مع فؤاد حداد ستظل خالدة فى الأذهان، فلا يتصور أحد مرور شهر رمضان من كل عام دون سماع حلقات برنامج المسحراتى، حيث كان بمثابة وجبة يومية وتقليد لا يمكن تجاوزه فى شهر رمضان.
■ هل اقتصر شغف الفنان الراحل وصداقاته على الوسط الغنائى والموسيقى فقط؟
- على الإطلاق، بل كان من أشد المعجبين بأعمال نجيب الريحانى وإسماعيل ياسين، وكان له أصدقاء كثيرون فى الوسط الفنى، أقربهم الراحلون أحمد زكى نور الشريف ومحمود عبدالعزيز وفاروق الفيشاوى.
■ سيد مكاوى سبع صنايع كما يقول المثل الدارج، حيث لحن لكبار الفنانين وغنى أيضًا.. من الأكثر شهرة ونجاحًا من وجهة نظرك.. مكاوى الملحن أم المطرب؟
- فى رأيى الشخصى، لا يمكن الفصل بين الحالتين، ولكن المستمع العادى أعتقد أنه ارتبط بسيد مكاوى المطرب أكثر من الملحن، نظرًا لعامل الرؤية، حيث ترتبط حالة العشق والحب لدى الشخص فى كثير من الأحيان برؤية صاحب الصوت، لكن من وجهة نظرى الشخصى أن سيد مكاوى نجح كمطرب وكملحن، بل ويمكنى القول إنه تفوق جدًا كملحن.
■ نجحت الدراما المصرية فى تخليد سيرة الكثير من العظماء.. لماذا لم تنل سيرة سيد مكاوى نصيبًا من هذه الأعمال؟
- لا أعتبر ذلك تقليلًا من قيمة سيد مكاوى، بل على العكس أرفض وبشدة فكرة تقديم عمل درامى يتناول سيرة والدى، خاصة أن تلك الأعمال تتحكم فيها الحسابات الخاصة وفكرة تحسين صورة الشخص محور العمل الدرامى بغض النظر عن مصلحة العمل أو السياق الدرامى، وستخضع فكرة العمل الدرامى وتنفيذه لضغط السوشيال ميديا وتوجهات الجمهور، كما أن الشعوب العربية وخاصة الشعب المصرى تغلبهم فكرة العاطفة، والتى ستكون معيارهم الأول فى الحكم على العمل الدرامى.
■ ألا يتنافى ذلك مع وجود عمل ضخم مشابه نجح فى اجتذاب الجمهور مثل مسلسل «أم كلثوم»؟
- نجاح مسلسل أم كلثوم كان حالة استثنائية ينتظرها الجمهور المصرى والعربى فى شتى أنحاء العالم؛ نظرًا لقيمتها الفنية الكبيرة والتفاف الملايين حولها أثناء حياتها، علاوة على توافر كل عناصر النجاح من ممثلين وسيناريو وإخراج وإنتاج يليق بحجم وقيمة العمل، وعلى النقيض نجد العديد من الأعمال التى تناولت سيرة نجوم كبار لم تحظ بهذا النجاح، ما يجعلنى أعتبر مثل تلك الأعمال بمثابة مغامرة.
■ فى النهاية.. هل نال سيد مكاوى حقه وما يستحقه من تقدير أثناء حياته وبعد رحيله؟
- بالتأكيد، خاصة خلال حياته يكفيه حب الملايين وتقديرهم له والتفافهم حوله ومتابعتهم أعماله، وحتى بعد مرور ٢٧ عامًا على رحيله لم أفتقد حالة الحب والتقدير التى حاوطته طيلة حياته، ولكن حياة التكنولوجيا والسوشيال ميديا وطبيعة الأجيال الجديدة، أعتقد أنها بحاجة لإعادة توعية وتذكير وشرح باستمرار لقيمة النجوم الكبار الذين رحلوا.