الأربعاء 08 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بعد صدور كتابه «رواة السيرة المحفوظية»

إيهاب الملاح: نجيب محفوظ التجسيد الإبداعى الأنقى للشخصية المصرية فى القرن العشرين

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

محفوظ كان شديد الذكاء وواسع الثقافة ورؤيته الإنسانية والفنية على أعمق ما تكون

عُرف بتحفظه وصمته ورغبته فى الابتعاد عن الأضواء والثرثرة «عمال على بطال» لوسائل الإعلام

اعترف بمحاولته تقليد طه حسين فى «الأيام» بكتابة نص شبيه بعنوان «الأعوام»

نجيب محفوظ يشبه الشلال، فهو متجدد ومتدفق وهادر، ولا تتوقف مياهه عن الجريان، فرغم كل ما نشر عن تجربته من سير ذاتية وكتابات نقدية، للدرجة التى تدفع البعض للاعتقاد بأنه قد سبر أغوارها، سرعان ما نكتشف أننا لم نتعرف إلا على جزء، من عالم شاسع يحتاج إلى قرون للإحاطة به.

ويفتح الكاتب الصحفى والناقد إيهاب الملاح، بوابة جديدة على عالم نجيب محفوظ، عبر كتابه المرتقب صدوره عن دار ريشة للنشر والتوزيع، «رواة السيرة المحفوظية»، الذى يحاول من خلاله رسم خريطة شبه كاملة لحياة الرجل الذى غير مسار الرواية العربية ونقلها إلى العالمية.

ويتجول «الملاح» مع قارئه فى هذا العالم المحفوظى، ليتعرف على تفاصيل جديدة ومثيرة فى نفس الوقت، عن حياته الشخصية من الميلاد إلى الرحيل، متناولًا بشكل نقدى تجربته الإبداعية، وتفاصيلها بالغة الروعة والاختلاف، مقدمًا ما يمكن وصفه بـ«قراءة أكثر تعمقًا لأديب نوبل».

عن هذا الكتاب الجديد وتفاصيله المثيرة، يتحدث إيهاب الملاح مع «حرف»، فى حوار تقرأونه فى السطور التالية:

نجيب محفوظ يقرا جريدة الأهرام

■ كيف جاءت فكرة «رواة السيرة المحفوظية»؟

- اهتمامى بنجيب محفوظ يعود إلى ٣٥ سنة، حينما تعرفت على نصوصه للمرة الأولى عبر رواية «كفاح طيبة» تحديدًا، وكنت فى الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرى تقريبًا، وبدأت أجول فى أبهاء وممرات قصوره الإبداعية الفخيمة التى أنشأها على الورق، وأقع تحت تأثير أدبه الساحر المذهل.

أظن أننى منذ ذلك التاريخ لم أنقطع أبدًا لا عن قراءة نجيب محفوظ، ولا عن محاولة التعمق فى فهم هذا العبقرى الذى أبدع نصوصه الخوالد. 

أما مرحلة الانتباه إلى سيرة «محفوظ» ومحاولة الإحاطة بأبعادها وحدودها ومصادرها، فبدأت بالدقة عقب محاولة اغتياله المجرمة فى أكتوبر ١٩٩٤. 

ومن هنا بدأت أقرأ تفاصيل حياة «محفوظ» بدقة وانتباه، منذ ميلاده فى ديسمبر ١٩٠١١ وحتى اللحظة التى تعرض فيها للاغتيال. وانتبهت إلى أنه قد طعم نصوصه الإبداعية الكبرى بلمحات وأصداء وظلال، من هذه السيرة لكن فى سياقها الإبداعى تمامًا، ووفق القانون الصارم والبناء الكلى الشامل الذى اختطه لهذه الرواية أو تلك. 

وأدركت حينها أن «محفوظ» لم يكن بسيطًا أبدًا على عكس ما كان يبدو، كان شديد الذكاء والعمق وسعة الثقافة، ورؤيته الإنسانية والفنية والإبداعية ونفاذها من أعمق ما يكون فى أدبنا الحديث والمعاصر.

أديب نوبل

عندما التحقت بكلية الآداب، انصرفتُ انصرافًا كاملًا إلى إعادة قراءة «محفوظ» وتحليل نصوصه واستيعاب كل أو معظم المداخل النقدية التى عالجت رواياته، وبالتالى أهملت هذا البعد السيرى تمامًا. 

وعندما احترفت العمل بالصحافة فى ٢٠٠٤ وبدأت أمارس الكتابة فى مجال الصحافة الثقافية، التفت مجددًا ومرة أخرى إلى أبعاد عالم نجيب محفوظ، وضمنها البحث عن سيرته الذاتية، التى أتصور أنها لم تكن مجرد سيرة عادية، بل سيرة مفعمة بالدروس الإنسانية والأدبية والفنية، وعلى كل المستويات.

ثم فى ٢٠١٦ نشرت أول مادة مطولة لى تحت هذا العنوان بالضبط «رواة السيرة المحفوظية» على صفحة كاملة، كنت أحاول أن أحدد فيها ملامح خريطة شبه كاملة لمصادر سيرة محفوظ وحياته، وكانت بدأت تتبلور إلى حد كبير هذه المصادر بحسب قيمتها وأهميتها والمساحات التى تغطيها فى حياة محفوظ، ثم ما يمكن أن نطلق عليه المصادر الثانوية أو تنويعات على اللحن الأساسى، التى يمكن أن تضىء شذرة ما أو لقطة عابرة فى هذه السيرة.

ومن هنا ولدت فكرة الدراسة أو هذه القراءة المعمقة أو هكذا أطمح، «رواة السيرة المحفوظية» التى استغرقت الفترة من ٢٠١٦ إلى ٢٠٢٤ كى تتبلور فى صورة كتاب بالعنوان ذاته يصدر فى القريب بإذن الله.

صاحب نوبل فى منزله

■ اعتمدت على ٣ كتب أساسية؛ هى «نجيب محفوظ يتذكر» لجمال الغيطانى، و«مذكرات نجيب محفوظ» لرجاء النقاش، و«حوارات نجيب محفوظ» لمحمد سلماوى، لماذا هذه الكتب فقط مع أن هناك أخرى لمحمد جبريل، وإبراهيم عبدالعزيز وغيرهما؟

هذا السؤال يستبق قراءة الكتاب وفصوله الخمسة.. لكن لا بأس، فكرة الكتاب ببساطة تقوم على طرح سؤال أساسى: لماذا لم يكتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية بنفسه؟ بمعنى لماذا أحجم عن كتابة هذه السيرة مباشرة من دون الالتجاء إلى آخر، يملى عليه هذا الجزء أو ذاك مثلما حدث فعلًا مع الثلاثة المذكورين بالترتيب: جمال الغيطانى، ورجاء النقاش، ومحمد سلماوى. وهم الرواة الثلاثة الأساس الذين نصَّ «محفوظ» على أن ما أدلى به لهم، يمثل المصدر الأساسى لحياته وسيرته الذاتية وتفاصيلها، وأكد على ذلك نصًّا فى أكثر من مناسبة. 

أما بقية المحاولات التى سعَت إلى كتابة سيرة لنجيب محفوظ بين سيرة أدبية أو إبداعية أو من منظور تاريخى أو أدبى أو نقدى.. إلخ، فكلها تنويعات على اللحن الأساسى، وتفريعات على الأصل، وعمومًا فإن منها الكثير الذى لعب دورًا مهمًا وقت صدوره، فى التعريف بمحفوظ على كل حال، وفتح الباب لقراء جدد من أجيال جديدة وناشئة للاتصال بأدب «محفوظ» وسيرته وحياته. ومع ذلك فقد خصصت لها الفصل الخامس من الكتاب تحت عنوان «رواة آخرون» للحديث عنها والتعريف بها، وتوجيه التحية والشكر لأصحابها جميعًا سواء من ذكر فى الفصل أو لا.

بالإضافة إلى محاولة بحث هذا السؤال والإجابة عنه من واقع نصوص «محفوظ» المنشورة وتحليلها، هناك أيضًا عبر فصول الكتاب الخمسة، محاولة متواضعة من صاحب هذه السطور إلى إعادة موضعة، ما أسميه «مصادر السيرة المحفوظية»، وترتيبها وتصنيفها، بصورة أعتقد أنها تمثل التراتبية الدقيقة لقراءة سيرة «محفوظ» قراءة كلية وشاملة ومحيطة بتفاصيل مشواره المديد العامر، وتتيح لقارئها أن يتعرف على مسار حياة صاحب نوبل منذ الميلاد إلى الرحيل، وبالتالى تصبح هذه القراءة المقترحة بوابة أو عتبة مناسبة، للدخول إلى عالم نجيب محفوظ الرائع والكبير والمدهش والممتد.

نجيب محفوظ فى مكتبه

■ قلت إنك كنت تحاول الوصول لفكرة لماذا لم يكتب محفوظ سيرته الذاتية، مع أن الكثيرين أكدوا أنه سجل مراحل طفولته وهذا يعنى أنه كانت لديه النية لكتابة مذكراته

كانت لديه النية شىء، وأنه كتب نصًا مكتملًا قائمًا بذاته شىء آخر، ونجيب محفوظ ذكر منذ أول أو أقدم حوار أجرى معه فى هذا الشأن، شيئًا عن بداياته وتكوينه، وأنه فى سنواته المبكرة كان يريد تقليد طه حسين فى «أيامه»، فكتب نصًا على منواله بعنوان «الأعوام». هذه الإشارة العابرة استلفتت الصديق المحرر الثقافى الرائع محمد شعير، فسعى بكل طاقته وجهده إلى البحث عن هذه الأوراق واستقصاء تفاصيلها، وإعادة نشرها، وقد نجح فعلًا فى مسعاه، بالحصول على هذه الأوراق التى نشرها فى كتابٍ صدر عن دار الشروق قبل سنوات قليلة. 

نجيب محفوظ فى أحدى شوارع القاهرة

■ هل ترى أن حوارىْ غالى شكرى وفؤاد دوارة دفعاه للتفكير فى تلاوة سيرته باستفاضة على ٣ أطراف مختلفين، خاصة مع ما ذكره فى حواره مع فؤاد دوارة من أنه كتب شيئًا على غرار «العبرات» و«النظرات» وكتب بعض القصائد التى أورد فيها أسماء صاحباتها؟

- الشق الثانى من هذا السؤال يتصل بدرجة ما بالسؤال السابق، فهو متصل به ومتفرع عنه، وقد أوضحت فى إجابتى السابقة أن ما كتبه «محفوظ» فى سنواته المبكرة لا يمثل مرجعًا مكتملًا بالمعنى الذى نقصده، حين نقول «سيرة ذاتية كاملة»، وأشرت إلى أن هذه الفكرة أو المسألة قد بحث عنها واستقصاها أحسن استقصاء، الصديق محمد شعير فى كتابه المشار إليه. 

أما النصف الأول من السؤال عن حوارى غالى شكرى وفؤاد دوارة، فإجابتى هى، ربما كان هذان الحواران سببًا فى أن يتوجه «محفوظ» بعد ذلك إلى من يثق فيهم لإملاء المزيد من التفاصيل عن حياته ونشأته والتفاصيل الدقيقة عن مراحلها، منذ الميلاد وحتى تاريخ إملاء هذا الحوار أو ذاك. لكن لا بد هنا من إشارة سريعة إلى حوار فؤاد دوارة وحوار غالى شكرى، فلربما لم يسمع قارئ هذا الحديث عنهما من قبل. 

الناقد الراحل فؤاد دوارة له كتاب لا أنساه اسمه «عشرة أدباء يتحدثون» صدر فى طبعته الأولى عن سلسلة «كتاب الهلال»، ثم صدر فى طبعة أخرى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى تسعينيات القرن الماضى. 

واشتمل الكتاب على حوارين مع نجيب محفوظ نشر الأول منهما فى الستينيات، والآخر نشر بعده بثلاث عشرة سنة. وأكاد لا أشك فى أن الحوارين اللذين أجراهما «دوارة» مع نجيب محفوظ، كانا هما الأساس والدافع اللذين ألهما -فيما بعد- جمال الغيطانى، لإجراء حواره المطول مع محفوظ فى ثمانينيات القرن العشرين، ونشر فى كتابه ذائع الصيت «نجيب محفوظ يتذكر»، ثم رجاء النقاش من بعده فى «نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه» (١٩٩٥)

الابنودى يجلس بجانب أديب نوبل

■ ماذا عن غالى شكرى الذى خصصت له فصلًا فى الكتاب؟

- بالنسبة لحوار غالى شكرى؛ فدعنى أؤكد أولًا على قيمة ومحورية هذا الحوار تحديدًا، فى التعرف على جانب مهم جدًّا من تكوين نجيب محفوظ، وهو الجانب النقدى أو تصوراته النظرية عن الإبداع.

وهذا الحوار المطول بنى عليه غالى شكرى كتابه المهم القيم «نجيب محفوظ.. من الجمالية إلى نوبل»، (صدر عن الهيئة العامة للاستعلامات فى نوفمبر ١٩٨٨ بعد فوزه بجائزة نوبل بشهر واحد).

فى رأيى هذا الحوار أهم وأخطر وأطول حوار نقدى، أجرى مع نجيب محفوظ.. والتقاه غالى شكرى فى يناير ١٩٨٨ «أى قبل حصوله على الجائزة بتسعة أشهر». 

نجيب محفوظ وجمال الغيطاني في مقهى ريتشي

وعرف صاحب نوبل بتحفظه وصمته ورغبته الأصيلة فى الابتعاد عن الأضواء والثرثرة «عمال على بطال» للصحف ووسائل الإعلام.. ومع ذلك، فإنه فى هذا الحوار الطويل (احتل الصفحات من ٣٥ حتى ١٢٠ من الكتاب) صرح كما لم يصرح من قبل وفصل القول عن أعماله الروائية، وطريقته فى الكتابة، والأساليب الروائية وخياراته الجمالية، وقراءاته المنظمة المعمقة فى الأدب والرواية العالمية. 

كان «محفوظ» فى السادسة والسبعين، تكلله الحكمة واكتمال التجربة وجائزة نوبل. وكأنه أراد أن يقدم - كعادته- خلاصة مكثفة ومقطرة لفنه وطرائق إبداعه، ويعطى مفاتيح غاية فى القيمة لقراءة هذه الأعمال والنظر فيها بروح جديدة ووعى مختلف.

نجيب محفوظ

■ أخيرًا.. وبعد رحلة بحثك الكبيرة.. ما الذى تستخلصه من تجربة «محفوظ»؟

- نجيب محفوظ كله حكم ومواعظ ودروس، أستطيع القول، ودون أى مواربة ولا تجميل ولا تحفظ، إننا لا نملك فى تاريخنا الثقافى والأدبى من قدم للغة العربية والأدب العربى والثقافة العربية ما قدمه «محفوظ» بـ٥٦ عملًا، منها ٣٥ رواية و١٩ مجموعة قصصية، وكتاب حوارى وآخر مترجم، رسخ بها حضور الأدب العربى بين الآداب الأخرى، وأكد أن اللغة العربية لن يكون مصيرها مثل اللاتينية، أثبت أنها لغة أدب وابتكار وخيال، ودحض بإبداعه الحر المكين دعاوى فقر هذه اللغة وضحالة خيال أبناء المنتمين إليها... إلخ هذه الترهات. 

هو الروائى العربى الذى استطاع- وحده- أن ينتقل بفن الرواية العربية انتقالاته الأساسية الكبرى، وأن يتمثل تيارات الكتابة الجمالية فى تطوراتها الرئيسية وأن يستوعبها ويتمثلها ويوظفها فى نصوصه، هذا غير بحثه الأصيل عن الإضافة الجمالية للفن الروائى والقصص بالنظر إلى الموروث والنهل منه واكتشاف كنوزه وتوظيف عناصره، وكان ذلك كله قبل حصوله على الجائزة الأكبر. 

أخيرًا، دعنى أؤكد أننى أومن بأن نجيب محفوظ مثل التجسيد الإبداعى الأنقى والأصفى للشخصية المصرية فى القرن العشرين.

غلاف رواة السيرة المحفوظية