الأربعاء 25 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

تجليات العقل الصينى.. من «فلسفة» كونفوشيوس إلى «زعامة» شى جين بينج

حرف

- أبواب الكتاب الأربعة تضم اثنى عشر فصلًا وقبلها تمهيد وبعدها خاتمه ومراجع

- أهم ملامح السياسة الخارجية فى عهد شى جين بينج هى: الانتقال من «الكمون الاستراتيجى» إلى «الريادة العالمية»

- الصين فى عصر شى جين بينج لم تعد قوة عظمى فحسب بل صارت حضارة بكل ما تحمله الكلمة من معنى

- دعم الصين لفلسطين كما يؤكد شى هو تجسيد عملى لمبدأ «المصير المشترك للبشرية»

تزايد الاهتمام العالمى بالصين بعدما فرضت حضورها الاقتصادى والسياسى المؤثر فى حياة البشر اليومية، فلا يمكن أن يخلو بيت من سلعة عليها أشهر كلمة فى العالم حاليًا: «صُنع فى الصين». وفى مقابل الصعود الكبير للصين داخل الاقتصاد العالمى، وثقلها السياسى المطرد، حدث تراجع نسبى فى جاذبية النموذج الأمريكى؛ نتيجة ‏إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية، وسوء أدائها الواضح للعيان مؤخرًا.

ومع كل هذا الحضور على المسرح الدولى يبدو الغامض فى التجربة الصينية أكثر من الجلى، وهو ما يؤدى إلى إساءة فهمها، وتصديق الرؤية النمطية التى يبثها الغرب عنها.

فى هذا السياق يأتى هذا الكتاب: «الصين من الداخل- ثقافة العقل السياسى الصينى من كونفوشيوس إلى شى جين بينج»- الصادر عن بيت الحكمة للثقافة- للكاتب والمترجم والخبير بالشئون الصينية: د. أحمد السعيد، الذى قضى خمسة وعشرين عامًا فى دراسة اللغة والثقافة الصينية، فقد واجه مثلنا هذا الغموض فى التجربة الصينية، فحين بدأ مسيرته منذ ربع قرن، لم تكن الصين ‏بالنسبة له آنذاك سوى «قوة قادمة»، تثير فضول المتابعين أكثر مما تقدم إجابات واضحة. لكن مع ‏مرور الوقت، بدا أن ما هو غامض فى التجربة الصينية ليس فقط سياساتها أو استراتيجياتها، بل ‏الطريقة التى ترى بها نفسها، والتى تقدّم بها رؤيتها للعالم‎.‎ ولهذا بدأت التساؤلات، التى تتداخل فيها اللغة بالثقافة بالسياسة بالاقتصاد بالتاريخ بالفلسفة، تطرح نفسها عليه، مثل: ما تأثير الثقافة الصينية فى طبيعة السياسة الخارجية الصينية وتوجهاتها؟ هل أثرت الثقافة الصينية فى طريقة إدارة الصين للأزمات والمشكلات الإقليمية والدولية؟ ما القيم الأكثر تأثيرًا فى سلوك الصين الدولى؟ كيف يمكن فهم العلاقة بين هذا التأثير الثقافى والنظام العالمى الجديد؟

وكان سعيه للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، هو ما دفعه لمحاولة فهم العقل الصينى من الداخل، دون أن يفرض تعريفًا مسبقًا، بل أفسح المجال للإصغاء للصين وهى تتحدث عن نفسها بنفسها، وقاده العقل الصينى إلى العقل السياسى الصينى، وحين حفر أعمق فى تلافيفه؛ هداه ذلك إلى ثقافة العقل السياسى الصينى! فقد توصل إلى أن السبيل الوحيد لفهم خطاب الصين السياسى والثقافى هو بالرجوع إلى ‏الجذور العميقة التى تُكوّن بنية تفكيرها: من الكونفوشية، إلى الطاوية، إلى المدرسة القانونية، إلى ‏البوذية، ثم إلى الماركسية اللينينية والاشتراكية ذات الخصائص الصينية؛ تلك التى دمجت، فى مرحلة ‏متأخرة، منظومة كاملة من القيم التقليدية مع معطيات العصر‎.‎

 

وهو يشرح لنا منهجه فى كتابة الكتاب قائلًا:

«كتبت هذا الكتاب فى أربعة أبواب، كلٌ منها يكشف جانبًا من بنية العقل السياسى الصينى:

> بدأته بالجذور الفلسفية والفكرية، لأوضح أن السياسة الصينية لا تُفهم دون الرجوع إلى عمقها الثقافى.

> ثم انتقلت إلى تحليل مفهوم (التناغم) بوصفه مرتكزًا للسياسة الخارجية فى الصين القديمة، وبينت كيف كان هذا التناغم فعالًا وواقعيًا، لا خياليًا.

> فى الباب الثالث، شرحت كيف تطورت السياسة الخارجية فى الصين المعاصرة عبر ماو ودنج حتى ما قبل شى.

> وفى الباب الأخير، ركّزت على خطاب شى جين بينج ومفاهيمه، وربطت بينها وبين الثقافة التقليدية، محللًا رمزية كل مصطلح، واستراتيجية كل مبادرة، ومرجعية كل خطاب».

وهو فى تركيزه على ما وراء الأحداث والسياسات، لم يقدم سردًا تاريخيًا تقليديًا للصين بوصفها دولة، ولا تحليلًا سياسيًا خالصًا، أو عروضًا معلوماتية، قد تكون متوافرة فيما سبق أن كتبه أو ترجمه عن الصين؛ بل أسهب فى التحقيقات التحليلية، التى تُقدّم كل واحدة منها سؤالًا وتحاول أن تجيب عنه بمنطق الصين من الداخل، لا بمنطق من يراها من الخارج، أى أنه حاول إعادة رسم صورة الصين كما ترى نفسها، من الداخل، وبالأدوات التى تصنع بها رؤيتها للعالم: الثقافة، ثم الثقافة، ثم السياسة كما تنبع من تلك الثقافة.

وأبواب الكتاب الأربعة تضم اثنى عشر فصلًا، وقبلها تمهيد وبعدها خاتمه ومراجع تضم كتبًا فى ثلاث لغات، هى: الصينية والعربية والإنجليزية، ما يعنى اهتمامه باستقصاء كل جوانب الظواهر محل الدراسة من رؤى مختلفة.

وفى التمهيد- الذى نعته المؤلف بأنه لا بد منه- يناقش عددًا من التعريفات المختلفة للثقافة بشكل عام، ثم يبدأ فى تحليل وشرح القيم الأساسية المكونة لمنظومة الثقافة الصينية، ومن هنا تأتى أهمية ومتعة هذا التمهيد، فهذه القيم تشكلت عبر آلاف السنين، وأسهمت اللغة الصينية إسهامًا كبيرًا فى ضمان بقائها وانتقالها من جيل إلى آخر. الأمر الذى يجعل دراسة اللغة الصينية لا تكتمل إلا بدراسة الثقافة التى تحملها اللغة، أو بعبارة أخرى فإن دراسة اللغة الصينية هى فى حد ذاته حدث ثقافى بامتياز.

وقد أحصى المؤلف إجمالى القيم الصينية الرئيسية فوجدها ٧١ قيمة، موزعة على ثمانى فئات رئيسية:

١- القيم الوطنية: وأبرزها حب الوطن، والشعور بالتميز الثقافى، واحترام التقاليد، وتحمل المشقات، وحب المعرفة، وأولوية التقييم من قِبل القادة قبل القانون.

٢- العلاقات بين الأشخاص: مثل الجدارة بالثقة، والتسامح، والرحمة، والنظر إلى الناس باعتبارهم صالحين، والمجاملة، واحترام الطقوس، وردّ التحية، والمحاباة والهدايا.

٣- العلاقات داخل الأسرة: مثل طاعة الوالدين، واحترام العلاقات الهرمية، والولاء لرب الأسرة، والانتماء، والتضامن، والجماعية، والتوافق وتجنب المواجهة.

٤- علاقات العمل: مثل العمل الشاق، والمثابرة، والحذر، والادخار، والقدرة على التكيف. 

٥- العلاقات داخل مجال الأعمال: وأبرزها تقدير الثروة، وعدم التنافس الشرس، ورفض الركض وراء الربح أو اعتباره قيمة عليا، والاعتماد على التداخلات والعلاقات الشخصية المباشرة، والاهتمام بالعلاقات طويلة الأمد.

٦- السمات الشخصية: مثل الفضيلة، والاستقامة، والنزاهة، والإخلاص، والشعور بالخجل، والانضباط الذاتى، والثبات، والسيطرة على الرغبات، والبراجماتية، والرضا.

٧- القيم المرتبطة بالوقت: مثل تقدير الماضى، والنظرة الدائرية للزمن، والرؤية بعيدة المدى. 

٨- العلاقة بين الإنسان والبيئة: وأهمها التناغم مع الطبيعة والبيئة.

وتوصل إلى أن كل هذه القيم لا تتسم بالتناغم الكامل فيما بينها، فبعضها يتناقض أو يتوتر مع الآخر داخل المنظومة الواحدة، ما يعكس التنوع والتعقيد داخل الثقافة الصينية.

واستنتج من هذا أن دولة مثل الصين- بتاريخها الطويل، وتراكمها الثقافى، ومجتمعها المتماسك، ومرجعيتها الأيديولوجية الثابتة- تتأثر بشكل عميق بثقافتها فى تشكيل خياراتها السياسية، ولا سيما فى السياسة الخارجية. وأن هذا التأثير يظهر على عدة مستويات، هى: مستوى الخطاب السياسى الرسمى، حيث يُستخدم التراث الثقافى مصدرًا للشرعية ولتفسير الخيارات السياسية الخارجية. ومستوى المبادئ الموجهة، حيث تُفعَّل قيم مثل الاحترام المتبادل وعدم التدخل بوصفها جزءًا من تقاليد عميقة الجذور فى الثقافة الصينية. ومستوى الاستراتيجيات العملية، حيث تعكس سياسات الصين تجاه بعض القضايا الدولية مثل النزاعات الحدودية أو العقوبات، تفضيلًا للحلول التوافقية على المجابهة. ما يعنى وجود علاقة تكاملية بين الثقافة الصينية التقليدية والسياسة الخارجية الصينية، بحيث يمكن القول إن السياسة الصينية تحمل دائمًا «بصمة حضارية» خاصة، تجعلها متميزة عن نماذج القوى الأخرى، حتى حين تسعى لتحقيق مصالح واقعية.

ويأتى الباب الأول حاملًا عنوان الجذور الفلسفية والثقافية للهوية الصينية، وهدفه هو بناء تفسير شامل لِما يجعل الصين اليوم قادرة على التحديث من دون اغتراب، وعلى التفاعل مع العالم دون التفريط بهويتها، انطلاقًا من فهم دقيق للجذور التى لا تزال تغذى شجرة الصين.

وللوصول لهذا الهدف، يتوسع المؤلف فى تحليل العلاقة بين الثقافة والسياسة، والتصور الصينى للثقافة باعتبارها أداة لتشكيل الواقع لا مجرد وصف له؛ ما يعنى العودة إلى البنية الفلسفية والثقافية العميقة التى شكّلت أساس وعى الصين الجماعى على امتداد قرون؛ حتى يمكن فهم صعود الصين المعاصر، وتفسير ملامح توجهاتها الداخلية والخارجية، وما كونته من وعى قومى ومفاهيم، ليست فقط موروثًا فكريًا، بل أدوات حية تُستعمل فى صياغة السلوك السياسي، وبناء الخطاب الرسمى، وتشكيل الإدراك الشعبى.

وهذا الباب يتكون من ثلاثة فصول، يحمل الفصل الأول منها عنوان: المفهوم الصينى للثقافة، والذى يلفت نظرنا إلى حقيقة أن كل حضارة تنسب لنفسها تراثًا ثقافيًا، ولكن ما يميز الصين هو أن الثقافة فيها قامت بوظائف الدين- دون أن تعلن نفسها عقيدة-، والدولة، والأخلاق، والتربية فى الوقت نفسه! وهو ما توصل معه المؤلف إلى أن الثقافة الصينية ليست تعبيرًا عن حرية فردية، بل هى مشروع جماعى لصقل النفس، وإعادة إنتاج الإنسان المتزن، المسئول، القادر على العيش بانسجام داخلى وخارجى. بمعنى أنها فى أحد مستوياتها هوية قومية، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوزه لتصير مرتبطة بتصور شمولى للكون والأخلاق؛ أى تعد وسيلة لبلوغ التناغم بين الإنسان والمجتمع والكون. حيث تُعرّف الثقافة الكبرى بوصفها صيرورة تهذيب كلية، تدمج الداخلى «الإصلاح الذاتى»، والاجتماعى «العلاقات»، والكونى «التناغم مع الطبيعة»، ما يجعلها أكثر من مجرد هوية ثقافية، بل هو نظام وجودى.

كما يشير المؤلف إلى أن الثقافة كانت أولى أدوات الحوكمة فى الصين، أى أن اختيار الحاكم فى الصين كان يخضع لاعتبار فضله وثقافته لا قوته، كما أن اختيار الموظفين المحيطين بالحاكم كان على أساس اختبار معرفتهم بالنصوص الكلاسيكية الصينيةـ الأمر الذى أُنتج نخبة سياسية ذات خلفية ثقافية مشتركة، ما جعل الثقافة أداة لتوحيد النخب، وتثبيت النظام، وإضفاء شرعية أخلاقية على السلطة.

وفى الفصل الثانى، الذى جاء بعنوان العلاقة بين الثقافة والسياسة فى الصين، يوضح المؤلف أن الدولة فى الصين لم تُبنَ تاريخيًا على مجرّد الفعل السياسى الصِرف، بل كانت دومًا مشروطة بسلطة الثقافة، وخاضعة لمعايير أخلاقية وتصورات فلسفية عميقة الجذور. لذلك، فإن فهم السياسة الصينية، ماضيًا وحاضرًا، لا يمكن أن ينفصل عن فهم مرجعيتها الثقافية، التى تُشكّل من جهة مصدر الشرعية، ومن جهة أخرى، أداة التنظيم والضبط والامتثال. فالثقافة- فى الحالة الصينية- ليست خلفية ناعمة للسياسة، بل هى مكوّن صلب فى صياغة السلطة، وتشكيل السلوك الجمعى، وإنتاج التماسك الاجتماعى.

وفى الفصل الثالث، الذى حمل عنوان الاشتراكية والثقافة والدبلوماسية، يحلل المؤلف «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، واصفًا إياها بالمشروع الأيديولوجى والفلسفى الذى صُبغ بروح الثقافة الصينية العريقة وتقاليدها المتجذرة، وينفى عنها كونها مجرد استيراد عقائدى من الغرب، بل حقيقة الأمر أن الاشتراكية، بحسب المفهوم الصينى، ليست مجرد نظام اقتصادى- سياسى، بل هى أفق ثقافى وأخلاقى يتماشى مع التقاليد الكبرى للكونفوشيوسية والطاوية والبوذية. ففى عمق هذه التقاليد، نجد جذورًا لمفهومى «المساواة» و«الوعى» اللذين يشكلان نواة الفكر الاشتراكى.

وفى الباب الثانى الذى يحمل عنوان: التناغم مركزًا للسياسة الصينية، يُعيد المؤلف قراءة الممارسة السياسية الخارجية للصين فى ضوء منظومتها الثقافية العميقة، وفهم كيف حافظت- حتى فى لحظات التحوّل العنيف- على مركزية الثقافة فى بناء رؤيتها للعالم. وذلك عن طريق التركيز على مفهوم التناغم، الذى يمثل أحد أعمدة الفلسفة الصينية التقليدية، فهو لا يقتصر على مجال الأخلاق الفردية أو تنظيم المجتمع، بل امتد تأثيره ليشكّل أحد المرتكزات الأساسية التى قامت عليها السياسة الخارجية الصينية فى عصور ما قبل الحداثة. ويناقش ماهية التحوّلات التى طرأت على مفهوم التناغم، من كونه فكرة فلسفية ذات جذور روحية وعقلانية فى الفكر الكونفوشى والطاوى، إلى كونه أداة سياسية وأيديولوجية توجه سلوك الدولة الإمبراطورية فى علاقاتها مع الآخرين، حيث رأت الصين فى نفسها مركزًا حضاريًا، يقوم دوره على إشاعة النظام والتناغم، لا فرض الهيمنة أو الاستحواذ، وهو ما انعكس بعمق فى نظرتها إلى علاقاتها مع العالم المحيط. كما يناقش هذا الباب كيف تحوّل هذا النموذج، فى عصر الاضطرابات والتدخل الأجنبى، إلى وعى ثورى جديد يعيد بناء الشرعية على أسس مختلفة. ولهذا فقد توزع هذا الباب ويتوزع هذا الباب على ثلاث مراحل تحليلية، هى بالترتيب: استعراض جذور التناغم ومضامينه الفكرية والأخلاقية فى التراث الفلسفى الصينى. وتحليل مظاهره العملية فى السياسة والدبلوماسية التقليدية عبر آليات كحسن الجوار، والعدل المتناغم، والجغرافيا الأخلاقية، وتفكيك لحظة الانعطاف مع بداية القرن العشرين، حيث بدأت الصين تُعيد صياغة مفاهيمها الأخلاقية والدبلوماسية تحت ضغط الهزيمة والانكشاف، لتنتقل من «التناغم الإمبراطورى» إلى خطاب ثورى جديد قاده صن يات سين، وهو ما يعد أحد أهم التحولات المفصلية فى تاريخ السياسة الخارجية الصينية، وكيف تطوّر لاحقًا عبر التأثيرات الماركسية وتحوّلات الفكر السياسى الحديث.

ويناقش الباب الثالث: أثر السياسة فى الثقافة الصينية المعاصرة؛ كيف تطورت الصين فى بداية الثمانينيات، من دولة تبحث عن موضع قدم فى النظام الدولى، إلى أن أصبحت كيانًا حضاريًا يُعيد تشكيل أدوات حضوره، ويختبر سبل التعبير عن هويته فى سياقات خارجية معقدة. ويتتبع بالتحليل التحولات التى طرأت على السياسة الخارجية الصينية فى العقود المعاصرة، لكنه لا يكتفى بتتبّع الأحداث والمواقف، بل يسعى إلى قراءة هذه التحولات بوصفها ترجمة استراتيجية لثقافة سياسية عميقة الجذور، فالصين، على خلاف كثير من القوى الدولية الصاعدة، لا تفصل بين البُعد السياسى الخارجى وبين الهوية الثقافية الداخلية. بل تنزع دومًا إلى تقديم نموذجها السياسى على أنه امتداد لمنظومتها الحضارية، لا نقيضًا لها، ولهذا فالخطابات الصينية حول السيادة، أو التنمية، أو السلام، أو الحوكمة العالمية، ليست مجرد شعارات دبلوماسية؛ بل هى- فى عمقها- محاولات لإعادة تعريف هذه المفاهيم من منظور مختلف عن ذلك السائد فى الفلسفة السياسية الغربية.

ويشرح المؤلف كيف استدعت الصينُ الثقافة، لا بوصفها حاملًا رمزيًا، بل كـ «لغة» توفّر للصين أدوات جديدة للتفسير، وللتفاوض، وللمشروعية. وتوصل بذلك إلى أن الممارسة الخارجية للصين، فى هذه الفترة، كانت امتدادًا لصراع طويل بين ثلاثة مستويات من التفاعل، هى: ثقافة عريقة تتسم بالثبات النسبي، وواقع دولى متغير يفرض ضغوطًا وتحديات، وحاجة وطنية داخلية تسعى إلى التحديث بدون فقدان الذات. 

أحمد السعيد

وفى سبيل ذلك، يحلل السياسة الخارجية لكل من: الزعيم الصينى ماو تسى دونغ، وخليفته: دنج شياو بينج. 

وفيما يخص ماو، أشار المؤلف إلى أن الدبلوماسية فى عهده صارت أداة ثقافية خالصة، تنقل الصين بوصفها قضية أخلاقية أكثر منها طرفًا فى معادلة دولية، بعد أن خلطت الصين فى عهده ما بين الهوية الثورية والسلطة الثقافية. 

ونظرا لما يتميز به المؤلف من قدرة على رؤية تعقد المشهد الصينى دائمًا فى كل مرحلة من مراحل تاريخها، فقد توقف ليفند إحدى أكثر الأفكار المسبقة رسوخًا عن عهد الزعيم ماو، وهو ما يبدو للوهلة الأولى من أن ماو شرع فى قطيعة حادة مع الثقافة التقليدية التى تشكلت عبر قرون من الفكر الكونفوشى والطاوى والبوذى، ووجّه ضربات شديدة لمفاهيم مستقرة كالتناغم، والتسلسل الهرمى، والولاء العائلى والاجتماعى.

ولكن استقراء المؤلف لعديد من الأمثلة، ورؤيته لاستخدام المفاهيم المركزية فى الإرث الكونفوشى، مثل: «الفضيلة» و»الإخلاص» و«الواجب الأخلاقى»، بعد أن أعيدت صياغتها، لا لتحفظ النظام، بل لتبرّر تغييره؛ تجعله يصل إلى نتيجة مفادها أن الصراع الذى أعلنه ماو ضد التقاليد لم يكن صراعًا مع «الفكرة الثقافية» فى ذاتها، بل مع أشكال تجلّيها التاريخية التى رأى أنها كرّست اللاعدالة، والجمود الطبقى، والانقياد الأعمى. أى أن ماو لم يتبنَّ فلسفة «القطيعة الكاملة» بل فلسفة الاسترداد المشروط، أى استرداد رموز الثقافة مع إعادة توجيهها لخدمة أهداف الثورة. ويدعم المؤلف ما توصل إليه بكلمة للزعيم ماو أمام اللجنة العسكرية المركزية فى ٢٢ أكتوبر ١٩٦٦، قال فيها: «ليست الثقافة القديمة كلها رجعية. هناك ما يعكس طموح الشعب وأخلاقه، لكن المشكلة أن الطبقات الإقطاعية احتكرت تفسيرها. الآن، نعطى الشعب حقّ تفسير تاريخه».

أما فيما يخص دنج شياو بينج، فقد دخلت الصين فى عهده مرحلة الواقعية البراجماتية، بعد أن قاد تحولًا هادئًا، لا يصطدم علنًا بإرث ماو، لكنه يعيد توجيهه على نحو جذرى. ودون الانفصال التام عن الهوية الثقافية الصينية، بل جاءت تلك المرحلة محمّلة بتراثها العميق، وتعيد توظيفه فى صياغات جديدة، صامتة أحيانًا، ومعبرة أحيانًا أخرى. فمثلا، لم تتخلَّ السياسة الخارجية فى عهد دنج شياو بينج عن القيم، لكنها أعادت ترتيبها داخل خطاب أكثر اتساقًا مع منطق العصر.

وضرب المؤلف مثلًا يوضح كيف جسد دنج الثقافة التراثية دون إعلان صريح، فهو لم يُعلن أنه يتبنى الكونفوشيوسية، ولم يتحدث بلغة الفلاسفة، لكنه جسّد- فى السلوك والتوجهات- كثيرًا من ملامحها، مثل: الحذر، والتدرج، وضبط الطموح، والتوازن، والاعتراف بحدود القوة.

كما لفت المؤلف النظر إلى أن هذه البراجماتية لم تكن موجهة للخارج فقط، بل كانت مرافقة لإعادة تعريف الهوية الوطنية. فبينما كان الغرب يتحدث عن الصين باعتبارها حالة انتقال من الشيوعية إلى الرأسمالية، كان دنج يقول بوضوح: «نحن نبنى اشتراكية ذات خصائص صينية». وقد صارت هذه الجملة لاحقًا عقيدة مركزية، لأنها تفتح المجال للتأويل دون تفريط فى الجوهر، وتمنح القيادة مساحة للتحرك التكتيكى ضمن خطاب يزعم الثبات.

ثم شرح المؤلف خبايا ما أسماه المرحلة الوسيطة، بين الزعيم الراحل دنج شياو بينج والزعيم الحالى شى جين بينج. وتضم تلك المرحلة الوسيطة عهد الرئيسين السابقين جيانغ تزى مين، وهو جين تاو، التى امتدت من عام ١٩٩٠ حتى ٢٠١٢، التى أعادت فيها الصين بناء مفهوم «السيادة الثقافية»، ليس بوصفه أداة للانعزال، بل آلية لترشيد الانفتاح، وجعل العلاقات الدولية ساحة لحوار الخصوصيات لا لتطابق النماذج.

ويرى أن السياسة الخارجية فى تلك المرحلة اتسمت بـ: الانتقال من البراجماتية إلى التأسيس الثقافى للهوية الدولية، وصياغة مفهوم السيادة على أسس ثقافية- حضارية، والانفتاح المنضبط والموجّه نحو الداخل، والتمهيد لمفهوم «الهوية الدولية الخاصة بالصين»، والربط بين السلام الداخلى والتناغم الدولى، واستخدام المرجع الثقافى مظلةً ناعمةً للدبلوماسية، وتراجع مفردات الثورة والطبقية من الخطاب الخارجى، والتحضير النظرى لطرح «الطريق الصينى» بديلًا ناعمًا. كما امتازت هذه المرحلة- من وجهة نظر المؤلف- بعدم طرح المرجع الثقافى باعتباره بديلًا أيديولوجيًا للغرب، بل إطارًا مرجعيًا لضبط الإيقاع؛ فلم تُقدّم الصين ثقافتها بصفتها مشروعًا تصادميًا، بل مصدرًا إرشاديًا داخليًا يُوجّه الاختيارات الاستراتيجية فى الانفتاح، ويُعيد تعريف السيادة بوصفها مسئولية لا أداة للمواجهة.

ثم أفرد المؤلف الباب الرابع: «الخطاب الصينى الجديد- عصر شى جين بينج»، لفترة الزعيم شى جين بينج، التى يعدها المؤلف لحظة مفصلية فى تاريخ الصين، بعد أن خرجت سياسة الزعيم شى بالصين من موقع الفاعل الحذر، ودور «الطالب» المتدرج فى النظام الدولى، إلى أفق السعى- فى وضوح غير مسبوق- إلى إعادة تشكيل هذا النظام وفق رؤيتها ومفاهيمها ومصالحها. وهو ما يعده المؤلف تتويجًا لتراكم طويل بدأ من لحظة ماو الثورية، ومرّ عبر براجماتية دنج، لينضج فى عهد شى جين بينج ضمن سردية جديدة تمزج بين الهوية الحضارية القديمة والتطلعات العالمية المعاصرة. تحت مصطلح شى: «الصين فى العصر الجديد». 

ويرى المؤلف أن الزعيم شى قد استطاع- إلى جانب كثافة الحضور الدولى للصين- إعادة بناء الخطاب السياسى الدولى انطلاقًا من الثقافة السياسية الصينية. ففى عهده لم تعد الصين ترى نفسها مضطرة لمحاكاة نموذج الهيمنة الغربية، بل صارت تقترح نموذجًا بديلًا قوامه: التنوع الحضارى، والسيادة المتوازنة، والحوكمة المتعددة الأقطاب، مع إعلاء لقيم «التناغم» و«التعايش» و«المنفعة المتبادلة». وليس هذا مجرد ترف لغوى، بل هو انعكاس لرهان صينى واضح على شرعية حضورها الدولى أخلاقيًا وثقافيًا، لا سياسيًا أو اقتصاديًا فقط. لذا فإن تحليل الخطاب السياسى والفلسفى للرئيس شى جين بينج، ليس فقط من خلال تحليله بوصفه محتوى، بل باعتباره أداءً ثقافيًا؛ يعكس بنية العقل السياسى الصينى فى نسخته المعاصرة.

وشرح المؤلف أهم ملامح السياسة الخارجية فى عهد شى جين بينج، وهى: الانتقال من «الكمون الاستراتيجى» إلى «الريادة العالمية»، بلورة خطاب عالمى ذى مرجعية صينية، إطلاق المبادرات الجيوسياسية الكبرى مثل: مبادرة «الحزام والطريق»، ومشروع «مجتمع المصير المشترك للبشرية»، وإعادة تأويل مبدأ السيادة بوصفه ركيزة غير قابلة للتفاوض، وتصعيد الدبلوماسية متعددة الأقطاب وبناء التكتلات البديلة، وتكثيف الدبلوماسية الثقافية والإعلامية باعتبارها جبهات استراتيجية، وتأكيد مركزية الحزب فى السياسة الخارجية، والمزاوجة بين خطاب السلام والاستعداد للصراع.

ويرى المؤلف أن الزعيم شى يمتلك رؤية شاملة لإعادة تعريف الذات الوطنية وموقعها فى العالم. وقد جرى التعبير عن هذه المرحلة باستخدام مصطلح «العصر الجديد»، وهو مصطلح لم يكن مجرد شعار سياسى أو توصيف زمنى، بل حُمِّلَ بدلالات فلسفية، واستراتيجية، وهوية تمتد فى عمقها إلى تصوّر الصين عن تاريخها ومستقبلها، ترى أن مبررات التحرك الصينى فى العالم اليوم ليست فقط سياسية أو اقتصادية، بل حضارية أيضًا. وتمارس فيه الصين دورًا قياديًا على مستوى العالم، مستندة إلى نموذجها القيمى والتاريخى، لا إلى تقليد الغرب أو مجاراته.

يرى المؤلف أن الصين فى عصر شى جين بينج لم تعد قوة عظمى فحسب، بل صارت حضارة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولها جاذبيتها التى تزيد على جاذبية النموذج الأمريكى التقليدى، فمصطلح العصر الجديد الذى طرحه الزعيم شى وثيقة فلسفية تضع الصين فى موقع «الحضارة المُرشِدة»، التى تملك من الرصيد الأخلاقى ما يؤهلها لطرح تصورات جديدة لعالم يتجاوز المركزية الغربية. وفى هذا السياق، تظهر الصين قوتها الناعمة عبر الأدوات الثقافية- من معاهد كونفوشيوس إلى الإعلام الناطق بلغات العالم- بوصفها أدوات مركزية، وليست هامشية، فى مشروع المركزية الجديدة. حيث لم تعد القوة الناعمة مجرد تكملة للقوة الصلبة، بل تحولت إلى بنية استراتيجية فى مشروع استعادة المجد، حيث تُقدَّم الثقافة بوصفها بديلًا سياسيًا لا مجرد منتج تراثى.

ويحلل المؤلف التوازن الدقيق الذى يشكله شى حتى يتفادى الخطاب الصدامى، وهو يقدم مركزية الصين بصفتها مشروعًا مفتوحًا وليس مغلقًا. ففى قمة بريكس ٢٠٢٢، أكد شى قائلًا: «نحن لا نطلب من العالم أن يتبنى نموذجنا، بل ندعوه لاحترام خيارنا كما نحترم خياره».

وختامًا، أحب أن أنوه بطرح المؤلف حول رؤية الرئيس شى للقضية الفلسطينية، التى تتجلى فى الرؤية الصينية، ليس بوصفها مجرد ملف سياسى، بل مرآة لاختبار صدقية مفاهيم مثل العدالة، والإنصاف، والتعدد الحضارى.

فلأن فكر شى جين بينج، لا تقتصر فيه العلاقات الدولية على تبادل المنافع، بل تُبنى على مبادئ نابعة من الضمير الإنسانى المشترك، لذا فإن دعم الصين لفلسطين، كما يؤكد شى، هو تجسيد عملى لمبدأ «المصير المشترك للبشرية»، وامتداد طبيعى لفلسفة كونفوشية ترى أن السلام لا يتحقق إلا حين يُنصف المظلوم.

لقد استطاع د. أحمد السعيد، فى كتابه محل القراءة: «الصين من الداخل- ثقافة العقل السياسى الصينى من كونفوشيوس إلى شى جين بينج»، البحث فى أعماق الثقافة الصينية، والإصغاء إلى صوتها الداخلى، لمحاولة فهمها، دون تقديس أو ترويج، وبنى استنتاجاته، لا على الأحكام المسبقة أو القراءات الاختزالية، بل على أساس متين يتكون من ١٠٠ مرجع تقريبًا، تنوعت بين نصوص كلاسيكية، وخطابات رسمية، ودراسات حديثة، وتجارب مقارنة، وملاحظات نقدية؛ حتى لقد استحال مشروعه المعرفى إلى انخراط وجودى، ننتظر منه دائمًا الجديد الذى يطرحه علينا، ونطمع منه فى المزيد فى مؤلفاته المقبلة إن شاء الله. 

وفى النهاية، أود أن أشير إلى أننى فى هذه القراءة قد حاولت الإيجاز قدر الإمكان، فمادة الكتاب غزيرة، تمتد رقعتها فى الزمان إلى ثلاثة آلاف عام، هى عمر الثقافة الصينية وحضارتها التى يحللها المؤلف، الذى يعد رائدًا من رواد الثقافة الصينية، ليس فى مصر فحسب ولا فى المنطقة العربية فقط، ولكن فى العالم كله، وقديمًا قالت العرب: «الرائد لا يكذب أهله»، وقد صدقنا د. أحمد السعيد، كما عهدناه دائمًا.