لا مفاتيح هناك.. فصل من رواية تحت الطبع لـ«أشرف الصباغ»

كنتُ قد اقتربتُ من نسيان اسمى تمامًا، فمنذ زمن طويل لم ينادنى أحد به، فى البداية كانوا ينظرون إلىَّ دون اهتمامٍ، وبعدما تعودوا على وجودى صاروا يومئون لى برءوسهم أو يشوِّحون بأيديهم. وعندما صرتُ محررًا بدأوا يقولون: «تعالى.. هات.. انزل.. اطلع.. شيل»، ثم بدأ البعض ينادينى بكلمة «أستاذ» أو «ياسطى» أو «يا عم»، ومع الأيام والسنين بدأتُ أنسى اسمى. وكانت حبيبتى طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة، هى أول من سألتنى بجديةٍ وغنجٍ فى آن معًا عن اسمى. واجهتُ صعوبة لعدة ثوان، ثم تذكرتُ اسمى. فقلتُ لها ضاحكًا: «اسمى سوسو». فسخسخت من الضحك، وتمايلت حتى ترقرق صدرها الصغير النافر، وبانت أسنانها البيضاء المتساوية مثل حبات اللؤلؤ. مِلْتُ على أذنها، لا لكى أوشوشها، وإنما لأستنشق رائحتها المعتقة التى تنشر البهجة وتثير وهجًا من حولها، وقلتُ هامسًا: «اسمى، سعد»، ورحتُ أحكى لها «حكاية الكتكوت».

لا أذكر أن أمى كانت تنادينى باسمى، كانت تقول: «يا واد.. تعالى، يا واد.. روح، يا واد.. شيل، يا واد.. حط» كانت تقولها بطريقتها، فاعتبرتها تدليلًا ومحبة واصطفاء. وقبل أن تموت قالت لى: «خد بالك من نفسك، يا سعد». لحظتها انحفر الاسم فى مكان ما بعيدًا فى ذاكرتى، وكلما كان زملائى يقولون لى: «هات، شيل، حط، اكتب، صلح، صحح، ياسطى، يا أستاذ»، كان الاسم يتلاشى وتنطمس حروفه، وعندما نطقت حبيبتى طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة اسمى لأول مرة، خرج من بين شفتيها هادئًا ومثيرًا، ينثر بعض النغمات، ويحمل بلالين ملونة، وبعض الحظ. قالت: «سعد!! الله.. اسمك حلو أوى، يا سوسو.. أنا أول مرة اعرف واحد اسمه سعد». بعد ذلك، لم تنادنى أبدًا باسم سعد. واعتمدت «سوسو» اسمًا رسميًا لى.
لم يكن الأمر يمثل لى أىّ مشكلة؛ أسطى، أستاذ، سعد، سوسو، لا يهم. فالأسماء مثل الوجوه والألقاب والابتسامات والكلمات والملابس، كلها أقنعة، كل ما فى الأمر أن قناع الاسم يلازمك منذ ولادتك حتى تموت وتستريح وتريح الناس منك ومن قرفك. ليس لأنَّه يعبر عن هوية ما، وإنَّما لأسباب مضحكة تتعلق بالأوراق الرسمية وتنظيم أمور الدولة. وبطبيعة الحال، يلبى بعض احتياجات أولئك الذين يرون أنهم جاءوا إلى هذه الحياة برسالة ما، وأن أسماءهم تميزهم عن غيرهم، وإذا تشابهت، فهناك اسم الأب الذى يمكن أن ينقذ الموقف ويؤكد التمايز. وإذا تشابه الاسم واسم الأب فهناك اسم الجد، وجد الجد، ثم لقب العائلة.. ومع ذلك فكثيرًا ما تتشابه الأسماء الثلاثية والرباعية، فيلجأ البعض إلى خوارق وكرامات أخرى لتأكيد التمايز والاختلاف.

لم أبحث أبدًا عن أى تمايز أو اختلاف. لم أكن بحاجة إلى ذلك. ولم أعرف أصلًا، لماذا يجب أن أتميز وأختلف عن الآخرين، وبماذا يجب أن أختلف، وبماذا يجب أن أتميز؟ كيف يمكن أن أتميز عن ابنة رئيس التحرير التى تعمل معى، أو عن ابن أخت مدير التحرير فى صحيفة أخرى، أرسله خاله للعمل معنا، بعد أن اتفق على أن يأخذ ابن طليقة زميله مدير تحرير صحيفتنا للعمل تحت قيادته الرشيدة فى صحيفته الغراء؟ كيف يمكن أن أتميز عن زميلى المخبر الذى يجلس إلى جوارى، أو عن زميلتى الوسخة التى تضحك على لون حذائى، أو عن صاحبى الوغد الذى يتندر على لون قميصى؟! وكيف يمكن أن أضع رأسى على نفس مستوى رأس زميلى الذى بنى شبكة علاقات واسعة يحصل من خلالها على أضعاف أضعاف راتبه، أو الآخر الذى يسافر هنا وهناك ويعود محملًا بالهدايا والعطايا والثياب الفاخرة؟
لم أحك أبدًا لحبيبتى طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة عن صراعات الكتاب الصحفيين وغير الصحفيين، والصحفيين الشعراء، والروائيين الصحفيين، والمثقفين الأيقونات والمفكرين العميقين النبهاء. ولم أحدثها أبدًا عن الأحداث التى أوقفت تساؤلاتى، وخنقت الطفل بداخلى مرة واحدة إلى الأبد. تلك الحوادث المضحكة التى جعلتنى أدخل عالم الأقنعة الواسع الجميل. كل ما فى الأمر أن الإنسان يحتاج فقط إلى أن يجعل جلده سميكًا بعض الشىء، ثم يتحدث عن المشاعر والأحاسيس. أن يرقع زميله الخازوق، ثم يتحدث عن المهنية والأخلاق. أن يسرِّب شائعة عن زميلته، ويجلس معها دامع العينين يطبطب على جراحها، أن يؤكد لها أنَّ الدنيا بخير وأنَّه سيساعدها ويجعلها أعظم محررة فى العالم، ثم يربت على ثديها فى حنان دون أن يقصد. أن يجعل مصلحة الوطن قبل أمواله وأولاده، ويبلغ الأمن عن زميله المعارض العاق. أن يعانق زميله ويقبله بحرارة، ويهمس فى أذن سكرتيرة رئيس التحرير بأنَّ الزميل ليس من أنصارهم.
لم تهبنى الطبيعة كل هذه القدرة لارتداء كل هذه الأقنعة. لم أرفضها أبدًا، ولم أتراجع عنها ترفًا أو ترفعًا. كل ما هنالك أننى لم أكن أتقن التمثيل، ولم أكن أمتلك قوة احتمال زميلى الذى ظل يعمل لمدة خمس سنوات فى صمت ورضاء وابتسام تحت إدارة زميل آخر. وعندما حان الوقت، قصفه بصاروخ أرض جو أطاح به إلى سلة القمامة، وجلس هو فى مكانه لينتقم من الجميع، ويعمل على تجديد المهنة وترسيخ أخلاقياتها برفدها بوجوه وطاقات جديدة.
اخترتُ قناعى الذى يناسب ولدًا كانت أمه تناديه بـ «الواد»، ويناديه زملاؤه بالأُسطى أو الأستاذ، حتى كاد أن ينسى اسمه. فهل هناك قناع أفضل من قناع الضحك: قناع السخرية؟ إنه القناع الذى يخفى كل الآلام والتجاهل والاحتقار، ويجرد صاحبه من الرغبة فى الانتقام، يقيه من هلاك الروح حتى إذا تحايل هنا مرة، ومَكَر هناك مرة أخرى، أو تنطع تارة على الدكتورة نجفة وابنها الدكتور وجدى، ونَصب تارةً أخرى على زميلة أو فتاة عابرة، أو لَقَّح جتته على بائعة جرائد أو قهوجى وغالطهما فى الحساب.
لكن لا توجد أىّ ضمانة فى ألا ينقلب إلى وحش فى أى لحظة، ويذهب إلى سوق الأقنعة ليختار منها الأجمل والأرقى والأكثر حساسيَّة وثقافة وأخلاقًا، ليخرج إلى العالم إما صحفيًّا مهنيًا عظيمًا يُربى الأجيال وبالذات البنات ويحررهن من استبداد المجتمع، أو كاتبًا مرموقًا بدرجة مخبر يعشق العادات والتقاليد ويعلم الفتيات كيف يكتبن، أو شاعرًا يدمن على الانتقام وينتظر دوره فى طابور العظماء والخالدين أو على الأقل فى مذكرات إحداهن العاطفية، أو عضو لجنة تحكيم فى جائزة محددة سلفًا، أو مثقفًا عضويًا يعشق الوطن والبرلمان والرئيس، أو مفكرًا وطنيًا يحب الاستقرار والانتظام فى طابور واحد بزى واحد، زى لون واحد، من أجل تقدم الوطن وأمنه واستقراره. لا ضمانة لأى شىء، ولا فى أى شىء. ضمانتى الوحيدة هى أن يوجد فى هذا العالم نساء مثل حبيبتى طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة التى تجمع اللوحات السريالية وتعلقها على جدران عيادتها وفى الحمام وعلى الأبواب، وتخفى بارًا عظيمًا يجمع ما لذ وطاب من خيرات الطبيعة فى غرفة الكشف، وترتدى معطفها الأبيض القصير جدًا فوق فستان السهرة الأسود القصير جدًا جدًا وتنتظرنى على أحر من الجمر، حتى أجىء إليها حاملًا الهدايا.
حبيبتى طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة هى طوق إنقاذ العالم. والضمانة الوحيدة لاستمراره بكل جنونه وطلسميته وحماقته. فهى أكثر منه جنونًا وغموضًا ومكرًا وإثارة. والأهم من كل ذلك، أنَّها تحبنى لا لشىء ولا لهدف إلّا لأننى ربما لا شىء أصلًا. أليست امرأة رائعة؟!