الصوت الحنون.. نجل محمود على البنا: أبى وُلد شيخًا

- تقليد الشعشاعى ومصطفى إسماعيل أظهر موهبته.. وفشل فى الالتحاق بالأزهر
- الإذاعة المصرية رفضت نقل تلاوته ثم اعتمدته أصغر قارئ فى التاريخ بعُمر الـ22 عامًا
- عبدالناصر أصدر قرارًا جمهوريًا بتسجيله القرآن الكريم.. والسادات وراء خروج نقابة القُراء للنور
«ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا».. رسائل من نور أنزلها الله، عز وجل، فى سورة التوبة، على رسوله الأمين سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، حين توارى وظله أبوبكر الصديق عن سهام أعين الكفار، خلال رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة.. رسائل طمأن بها الله قلب نبى الأمة ونبراسها، عبر الروح الأمين سيدنا جبريل. الرسائل تلك نقلها «جبريل»- عليه السلام- للنبى الكريم، وبعد مئات السنوات عاد مَلك آخر يسحر بها قلوب عباد الله المخلصين، ويطمئنهم ويهديهم سكينة الله ورحمته ولطفه وغفرانه.
«المَلك البشرى» هذا هو الشيخ محمود على البنا، الذى تحن القلوب إلى صوته الندى قبل الأذان، وهو يرسم بتجويده وترتيله لوحة نورانية لغار ثور، وفى جوفه نبى الله وخليفته أبوبكر الصديق، فى قراءة من ضمن قراءاته وفتوحاته الأشهر: «ثانى اثنين إذ هما فى الغار».
تجليات «إمام دولة التلاوة»، وصوته الحنون، لا تنشر السكينة بين قلوب العباد فحسب، بل أيضًا جاءت بالبُشرى، حين نقل الوعد الربانى للمؤمنين بخير الدنيا والآخرة، فى قول الله تعالى، فى سورة البقرة: «وتزودوا فإن خير الزاد التقوى»، ليجمع صوت «البنا» بين السكينة والبُشرى، الدفء والحنان، ويكتب قصة واحد مِن أعظم مَن تلا آيات الله البينات، الشيخ محمود على البنا. وفى ذكرى وفاة أحد كبار دولة التلاوة احتفت «حرف» بذكراه العطرة بحوار مع نجله الشيخ أحمد البنا، الذى سار على درب أبيه، ليكشف فى حواره عن سر الصُدفة التى قدمت عَلمًا من أعلام التلاوة لمصر وللعالم، كما تحدث عن العديد من الكواليس والأسرار فى حياة القارئ الكبير.

■ فى البداية.. ماذا عن عدد أبناء الشيخ محمود على البنا وترتيب حضرتك بينهما؟
- أنا الابن الرابع فى ترتيب أبناء الشيخ البنا، حيث تتكون الأسرة من ٩ أشقاء: ٥ أولاد ذكور، وبنتان، وتعود جذور الأسرة حيث وُلد الشيخ البنا- عليه رحمة الله- فى قرية شبرا باص مركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية فى العام ١٩٢٦.
■ الصدفة كانت لها دور كبير فى حياة الشيخ محمود على البنا ومسلكه.. كيف يمكن رصد تلك الصدفة؟
- الشيخ محمود على البنا وُلد شيخًا وصاحبه اللقب منذ ولادته، وإن كان من قبيل الصدفة فى البداية، حيث كان يعُانى جدى «على البنا»- عليه رحمة الله- من فقدان جميع أبنائه لحظة ولادتهم، أو أثناء فترة حمل جدتى فيهم، فحينها ندر الجد إن رزقه الله ولدًا سيوهب هذا الولد للقرآن الكريم وقراءة كتاب الله وكلماته، وبالفعل وُلد والدى «محمود على البنا» ولقبه حينها جدى بـ«الشيخ محمود».

■ بالتأكيد نشأة الشيخ البنا فى ريف مصر وتلمذته فى كُتاب القرية أسهمتا فى تشكيل وجدانه وموهبته.. حدثنا عن تلك النشأة ثم الطريق إلى الشُهرة
- بدأ والدى حياته مع القرآن الكريم من كُتاب القرية، حيث حفظ كتاب الله على يد الشيخ «موسى المنطاش» وأتم حفظه وهو فى عُمر عشر سنوات، وحينها أراد والده إلحاقه بالتعليم الأزهرى؛ إلا أن صغر سنه منعه من استيفاء الشروط الخاصة بالالتحاق بالتعليم فى الأزهر، حتى اضطروا إلى إرساله إلى مدينة طنطا للدراسة فى معهد المنشاوى باشا فى طنطا، وهو معهد أزهرى خاص يقبل أعمارًا صغيرة، ومن هنا بدأت مسيرته مع القرآن الكريم، حيث بدأ يتابع محافل كبار المشايخ والقراء فى طنطا، كما كان يجيد التقليد بشكل متمكن وجيد جدًا، وبدأ يقلد الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى بعد الاستماع إليهما فى حفلاتهما ويحرص على تقليدهما حينما يجلس مع أصدقائه بعد ذلك؛ حتى احترف التقليد وبدأ أصدقاؤه يطلبون منه تقليد كبار القراء، وفى إحدى المرات، وحينما كان يقوم بتقليد أحد الشيوخ فوجئ بحالة من الهرج بين أصدقائه هربًا من الشيخ حسين وكيل المعهد، الذى كان دائمًا يسير ممسكًا جريدة نخل لفرض النظام وتأديب الطلاب، إلا أنه وبمجرد سماع الشيخ حسين له انبهر بصوته ونصحه بالتوجه على الفور إلى المسجد الأحمدى للقاء الشيخ «إبراهيم سلام» أستاذ القراءات للحصول على الإجازة فى القراءة، وبالفعل، وبمجرد أن استمع إليه الشيخ «إبراهيم سلام» وافق فورًا على تدريبه لمنحه الإجازات فى القراءة، لتبدأ انطلاقة الشيخ محمود على البنا مع قراءة القرآن الكريم، بعد أن نصحه الشيخ «سلام» بالتوجه إلى القاهرة وترك طنطا، حيث قال له: مصنع النجوم فى القاهرة وأنت بمثابة نجم يحتاج إلى التركيز وتسيلط الضوء عليه، وبالفعل ذهب إلى القاهرة وبدأ قراءة القرآن فى عدة محافل، حتى أعلنت جمعية الشبان المسلمين عن مسابقة لاختيار قارئ يكون خاصًا بالجمعية، ليتقدم الشيخ البنا للمسابقة وينجح بالفعل فى الاختبار ويصبح قارئ جمعية الشُبان المسلمين.

■ كيف ذاع صيته فيما بعد حتى أصبح الشيخ «محمود على البنا»؟
- خلال احتفال جميعة الشبان المسلمين؛ برئاسة صالح باشا حرب، بإحياء ذكرى رأس السنة الهجرية، أقامت الجميعة احتفالها السنوى، إلا أن الإذاعة المصرية التى كانت تنقل الحفل على الهواء مباشرة، رفضت حينها أن تُذيع تلاوة الشيخ محمود البنا، بحجة أنه قارئ غير معتمد فى الإذاعة، وحينها توجه «صالح باشا حرب»، رئيس الجمعية، إلى الإعلامى «محمد قاسم»، رئيس الإذاعة المصرية، آنذاك، ليخبره بأن «البنا» هو القارئ الرسمى للجمعية، ومن حقه أن تُذاع تلاوته على الهواء عبر أثير الإذاعة المصرية، إلا أن قاسم أخطره بصعوبة الأمر واقترح عليه أن تتم إذاعة الحفلة من الفقرة التى تلى تلاوة الشيخ البنا، وهو ما حدث بالفعل، إلا أنه حين استمع رئيس الإذاعة لتلاوة الشيخ البنا، طلب منه أن يتوجه للإذاعة المصرية على الفور للاختبار والحصول على الاعتماد الرسمى بعد انبهاره بصوته، وبالفعل اعُتمد الشيخ «محمود على البنا» قارئًا بالإذاعة المصرية فى العام ١٩٤٨ كأصغر قارئ فى تاريخها، حيث كان عُمره حينها ٢٢ عامًا فقط.

■ كيف سارت مسيرة الشيخ البنا بعد اعتماده فى الإذاعة المصرية؟
- بعد صدور قرار اعتماده رسميًا فى الإذاعة تم تعيينه قارئًا فى مسجد عين الحياة بمنطقة مصر والسودان، ثم عُين فى مسجد الرفاعى، ليصبح قارئًا فى مسجد الحسين فى فترة الخمسينيات، ثم يتم انتدابه فى مسجد السيد البدوى لمدة ٢٥ عامًا ليتحقق حلم والدته، قبل أن ينتهى انتدابه فى العام ١٩٨٠ ويعود لمسجد الحُسين.
■ ماذا عن حلم والدته الذى أشرت إليه؟
- حينما كان طفلًا كانت والدته تحرص على زيارة مسجد السيد البدوى فى طنطا باستمرار، وكانت تدعو الله أن يجعل ابنها خادمًا فى المسجد، ليتحقق توسل الأم بعد سنوات طويلة، ويصبح الشيخ البنا قارئًا فى مسجد السيد البدوى.

■ الشيخ إبراهيم سلام كان أحد المصابيح التى أنارت الطريق للقارئ الكبير حتى إنه حرص على إحياء ذكراه حتى وفاته.. حدثنا عن تلك العلاقة الوطيدة
- بالتأكيد، كان الشيخ إبراهيم سلام أول من أخذ بيده إلى طريق الشهرة حينما أشار عليه بالانتقال للقاهرة وترك طنطا بعد أن منحه الإجازة فى المسجد الأحمدى، ومنذ تلك اللحظة وتوطدت علاقة الشيخ البنا بشيخه إبراهيم سلام، حتى إنه ظل يحيى ذكراه فى مسجد السيد البدوى بعد وفاته، ويدعو لحضور الذكرى أشهر القراء ردًا للجميل، وكانت إذاعة القرآن الكريم تنقل الاحتفاء على الهواء مباشرة، فى تقليد يؤكد طبيعة شخصية الشيخ «البنا» وخصال الوفاء التى يتميز بها، كما أن صفة الوفاء تكررت مع العديد من أصحاب الفضل عليه، وعلى رأسهم الرئيس جمال عبدالناصر، الذى أصر أن يسجل الشيخ البنا المصحف المُرتل بصوته حينما أصدر قرارًا جمهوريًا بذلك، ما دفع الشيخ- عليه رحمة الله- أن يقوم بإحياء ذكراه كل عام عبر تلاوة آيات القرآن الكريم.

■ على ذكر الرئيس جمال عبدالناصر.. ما كواليس القرار الجمهورى الذى منح البنا فضل تسجيل القرآن الكريم بصوته؟
- فى فترة الستينيات، ومع افتتاح إذاعة القرآن الكريم، بدأ كبار المشايخ، وعلى رأسهم مصطفى إسماعيل، ومحمود خليل الحصرى، ومحمد صديق المنشاوى، فى تسجيل المصحف بصوتهم، ما عدا الشيخ البنا، حتى توفى والد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى العام ١٩٦٦، وحينها ذهب كبار المشايخ لإحياء عزاء والد عبدالناصر، وحينما سمع الرئيس الشيخ البنا وهو يتلو آيات الذكر الحكيم، توجه إليه وشكره، وسأله عن سبب عدم تسجيله القرآن الكريم بصوته وأبدى استغرابه، وهو ما رد عليه الشيخ بأنه لم يستدعه أحد، وكان رد عبدالناصر: إن شاء الله خير، ليجد الشيخ «البنا» اتصالًا من عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام حينذاك، فى اليوم التالى، يخبره بصدور قرار بتسجيله القرآن الكريم بصوته، ليأتى من هنا سر مودة الشيخ البنا للرئيس جمال عبدالناصر، التى جعلته يذهب كل عام لإحياء ذكرى الرئيس فى منزله مع أسرته بالمجان ودون مقابل.

■ هل شهدت علاقته مع الرئيس أنور السادات نفس المودة التى جمعته مع الرئيس عبدالناصر؟
- بالتأكيد، حيث كانا ينتميان إلى محافظة المنوفية، وكانت تلك العلاقة سببًا فى إنشاء نقابة حافظى القرآن الكريم فيما بعد لكى يحفظ كرامة القراء ويحمى مستقبلهم ويضمن لهم حياة كريمة، حتى إنه حينما تعثر صدور القانون فى مجلس الشعب، ذهب والدى- عليه رحمة الله- إلى استراحة الرئيس أنور السادات فى مدينة القناطر، وطلب مقابلة الرئيس دون موعد سابق، وبالفعل اتصل بالسيد فوزى عبدالحافظ، سكرتير الرئيس، الذى سمح لهم بالدخول وعرضوا أمر تعثر صدور القانون من مجلس الشعب، ليتفاجأ الجميع بدخول الرئيس السادات عليهم ويطلب معرفة حقيقة الأمر، وبالفعل بدأ مجلس الشعب بعد أيام فى إجراءات صدور القانون.

■ ماذا عن طبيعة المنافسة مع كبار قراء القرآن الكريم فى تلك الآونة؟
- المنافسة كانت موجودة طيلة الوقت؛ نظرًا لأن كلًا منهما له جمهوره ومستمعوه، إلا أنه ربطته علاقة صداقة بالعديد منهم، وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، كما كان صديقًا مقربًا من الشيخ كامل البهتيمى، حتى إننى رأيته يبكى يوم وفاته من شدة تعلقه به.

■ ننتقل إلى الشيخ على البنا الأب داخل المنزل.. هل كانت له هوايات بعينها؟
- فى فترة شباب الشيخ كان يهوى لعب المصارعة والملاكمة داخل جمعية الشبان المسلمين، كما كان حريصًا على مشاهدة مباريات منتخب مصر لكرة القدم، وكان يقضى أوقات فراغه فى زيارة البسطاء من أقاربه، حتى إننا كنا نذهب لزيارتهم فى أماكن يصعب وصول السيارة إليها.

■ هل كانت له مفارقات أثناء التلاوة تتذكرها؟
- الشيخ البنا زار دول العالم الإسلامى بالكامل، وقرأ القرآن فى المسجد النبوى والحرم المكى، وحينما قرأ القرآن فى المسجد النبوى غلبه البكاء ولم يستطع القراءة، خاصة أنه كان فى توقيت الحج، لأنه لم يكُن أن يتصور قراءته القرآن أمام سيدنا النبى، صلى الله عليه وسلم، حتى إنه أخبرنى باستئذان النبى قبل القراءة.