الإثنين 01 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كليلة وهدى.. التناص الفنى وطبقات الرمزية

- كل شىء فى عصرنا الحالى وكل العلاقات صارت سلعًا ولها قيمة والخدعة لا تنفع فقط بالحروب

- المرأة رغم حريتها لا تمانع فى محاولات شتى لإثناء الابنة عن رغبتها فى دراسة الطب؟

مجموعة قصصية تبدأ بمقدمة وستة عشر قصة ولكن دون إهداء

وبما إن الكاتبة أكدت نوعًا من الترابط والتناص بين كليلة ودمنة وكليلة وهدى فى المقدمة فقد تشارك أيضًا تشابه غلاف القصة الأصلية المزينة بوجود حيوانات أما فى مجموعتها ففيه طائران: الببغاء والهدهد...

فى بعض الأساطير لغة الطيور كانت للتواصل مع العوالم الروحية أو الكائنات الخارقة، ورمزية الطيور فى الغالب تعبير عن الحرية والسلام والحكمة والنبوءة.

يشتهر الببغاء بقدرته الفائقة على تقليد كلام البشر وتكراره، وهو ما نراه حتى اليوم لم يتغير كسلوك، أما الهدهد فاشتهر عنه حسب ما جاء فى قصة سيدنا سليمان- النبى الذى علمه الله منطق الطير- أن له دورًا فى نقل الأخبار.

إذن الثرثرة المزعجة كانت فى القصة الأولى للمجموعة الببغاء الأحمق.. الذى ارتضى مهانة العبودية بالإرادة وضحى بالحرية بعدما ترك له مساحة للطيران والهروب، فى مقابل أنه اكتفى بالطعام والشراب، تقول الكاتبة «تمسك طفلى بالطائر جعل آلام بداخلى ترضى بوجود حبس داخل بيت أساسه الحرية» ثم عادت لتأكيد المعلومة بفقرة لاحقة قائلة: «ارتضيته ليكون جزءًا من بيتى الحر». 

وفى قصة قال الهدهد عاد الهدهد الغائب بتناص مع القصة القرآنية لكنه عاد بنبأ يحكى خيبتنا ناقلًا أخبار الإبادة فى فلسطين.

والخاتمة هنا رائعة جدًا وإسقاط رائع على أحوالنا حيال هذه القضية الشائكة، بالاختفاء وسد الأسماع والبعد عن محاولات الحلول، تقول الكاتبة «أنزلت الستارة على النافذة، حتى لا أرى الهدهد أو أسمع نقراته، اذهب حتى يقوم جن سليمان من نومه فأرسله معك»، لكن السؤال الذى يطرح نفسه هل هناك قيامة أخرى لذا استخدمت الفعل «يقوم» أم كانت تقصد معنى الفعل «يفيق»..

إن استخدام الزمان والمكان فى المجموعة القصصية غير معلوم، وربما غير مهم بالنسبة للقاصة، قد نجد بيتًا، قرية، منزلًا، كوخًا على الشاطئ، هناك إشارات ودلالات لكن ليس مكانًا بعينه فتصلح القصص عن أى دولة أو مدينة، أما الزمن فيستدل على حداثته بوجود التليفزيون والهاتف النقال والسيارات، وكأن محور الحكايا هو الأهم ولا يهم الكاتبة الزمان ولا المكان.

كليلة ودمنة قصص للفيلسوف الهندى بيدبا وترجمها للعربية عبدالله ابن المقفع، القاصة هدى النعيمى تناصت مع كليلة ودمنة بالعنوان، فهل قصدت كليلة إنها بطلة إحدى القصص وهى من بنات ابن آوى والمشهور عنها كداهية فى الأدب والعلم، أم قصدت ما يعنيه إحدى الديانات بالإكليل أو حلقة صغيرة من الآس لتستخدم فى الطقوس الدينية، أم قصدت كليلة كصفة الإعياء والتعب الذى يرافق الإنسان فى رحلته أو أنه مرافق هدى هو التعب فى كل مجازاتها وقصصها وإسقاطاتها.. القصص الأصلية الحيوانات كأبطال ترمز لشخصيات بشرية، أما فى المجموعة هنا فالقصص أبطالها حيوانات فى علاقة تفاعلية مع البشر.

هدى النعيمى

التيمات المستخدمة هى ثنائية العبودية والحرية فى عدة قصص والدلائل كالتالى:

قصة الببغاء الأحمق وما جال بخاطرى من قول الشاعر أحمد مطر «كنا أسيادًا فى الغابة قطعونا من جذورنا قيدونا بالحديد ثم أوقفونا خدمًا على عتباتهم هذا هو حظنا من التمدن ليس فى الدنيا من يفهم حرقة العبيد مثل الأبواب».

قصة إلى أين أيها الكلب استدعت أيضًا الشاعر البرتغالى فرناندو بيسوا: «الحرية هى امتلاك العزلة، حر أنت إن استطعت الابتعاد عن الناس دون أن تجبر على اللجوء إليهم»، وأن إشارة القاصة للأديب هنا الذى اعتزل الناس ليكتب وهى جزء من الحرية، ولكأنه كان مؤمنًا بمقولة فرناندو أن «أنسب وسيلة لتجاهل الحياة هى الأدب!»، لكنه لم يستطع تجاهل انشغاله بوفاء الكلب.

قصة الغراب والدود: الحرية ورمزية تأثير الفراشات كرفرفة جناحيها هنا تشير إلى أن التغييرات الصغيرة قد تؤدى لتغييرات كبيرة فى المستقبل، فما يبدو لك تافهًا لم يكن تأثيره كما ظننت، وهذا لا يعنى أنها لم تدفع الثمن. 

قصة الدجاجة لم تعبر الشارع وتدجين الإنسان وتعويده على الارتباط بمأكله ومشربه كى لا يفكر ولا يبحث عن حرية

فى قصة الشهد الملكى يرمز النحل حسب الحضارة المصرية القديمة إلى الملكية والقوة، وتمثلت الحرية فى تمرد النحل على صاحبه، لأن النحلة حشرة نظامية مجتهدة من أهم مهماتها صنع العسل، فهى متخصصة جدًا وليس لتحريف دورها للحصول على جنيس ريكورد، وهى إشارة مهمة إلى نهاية نت يسىء استخدام النعم، وترمز إلى حرية النحل فى اختيار الطريق.

قصة كبد رطبة، حريتك التى تنتهى عندما تبدأ حرية الآخرين

إن إلقاء الحب والمبالغة فى عمل الخير كانت سببًا لإزعاج الغير وتعديًا على حقوق الجار، فالتطرف والمبالغة شىء غير محمود، والمبدأ لا ضرر ولا ضرار وهنا كان ضرر الجار بالغًا اضطره لمغادرة البيت.

وبالنظر لقصة الحمامة المطوقة ولكن هناك تشابهًا بين قصة الحمامة المطوقة وهذه القصة ففى كلتا الحالتين تم وضع الحبوب، لكن الحب كان خداعًا لصيد الحمام، أما هنا فكان القصد اتخاذ الأجر على حساب راحة الجار.

إن استخدام الكاتبة للونين الأصفر والأزرق فى قصة الفأر الذى لم تقتله الجبنة إشارة بارعة، فأشارت للكتب باللون الأصفر.. وكأن قراءة الكتب صارت مهمة هزيلة والثقافة مرضت حتى أتاها من يأكل أطرافها ويحرف ما فيها، وأن السم أزرق اللون إشارة إلى الفضاء الأزرق.. والذى لم يؤثر بالفأر.. هذا الفأر الذى استأثر بكتابى «ألف ليلة وليلة» و«الشوقيات» ودواوين أخرى لكنه لم يصل لرسالة الغفران لأبى علاء المعرى وهو الكتاب الذى قال عنه طه حسين هو درة الأدب العربى- الذى يصف رحلة تخيلية إلى الحياة الآخرة مليئة بالتأملات الفلسفية بأسلوب تهكمى ساخر- ولا إخوان الصفا الكتاب الذى يتحدث عن ٥٢ رسالة كتبتها مجموعة إخوان الصفا فى مدينة البصرة- وهى مجموعة علمية وفلسفية توفق بين الفلسفة اليونانية والمدارس الفكرية الإسلامية.

وفى إشارة ذكية وضعت هذا السم الملون بالأزرق على جريدة وكأنها إشارة إلى إلغاء أهمية الجرائد الورقية بعدما أفسد الفضاء الأزرق حياتنا الذى أشارت له برائحته النفاذة الكريهة.

هناك تناص قرأنى «بقرة صفراء فاقع لونها» أن البقر تشابه علينا وكأنها استخدمتها إشارة لإسقاطات بعينها. فحين وقعت البقرة كثرت سكاكينها، وتم التقسيم، ولإخراس الألسن تم منح كل الناس قطعة منها، والرجل الغريب هو فقط من يعرف أهمية ما خسره لكونه مقدسًا!

فى ضفدع البحيرة طرحت الكاتبة موضوعًا صادمًا قد لا يلتفت له البعض.. إن المرأة رغم حريتها وتطورها ودفاعها عن حقوقها باختيار مستقبلها فإنها لا تمانع فى محاولات شتى لإثناء الابنة عن رغبتها فى دراسة الطب؟ ما يعنى أنه ما زال بداخلنا تلك النظرة المحدودة لقدرات المرأة أو حتى مهامها فى الحياة فليس شرطًا لدراسة الطب أن تنافس الرجل أو تتساوى معه.. لكن هنا الحرية الحقيقية فى اختيار المستقبل والإصرار عليه وهو ما وظفته الكاتبة فى كلمة «عنيدة».

فى قصة السلحفاة المقلوبة هنا رمزية العجز وعدم القدرة على التصرف.. الإشارة إلى التحكم بالمصائر وذكاء الكاتبة كان فى توظيف هذه القصة للإشارة إلى نهاية غير متوقعة وصعبة وهى الحرية. فمهما استخدم الإنسان قدرته وسلطته بالتحكم فى الآخرين حتى لو بالتعذيب أو بالمعاناة أو الاستخفاف بقدرة هذا الآخر على الخلاص فإنه مخطئ لأنها وحدها الفرصة الخادعة حين الاطمئنان لسكون وهدوء الضحية هى نقطة الانقلاب العظيم.

استنبطنا من القاصة الوعظ والحكمة رغم الاعتراض على تشابه بعض عناوين القصص مع النهايات فأصبحت كاشفة، وبعض النهايات كانت تحتاج إلى اختصار:

- الاستعباد وضريبة لقمة العيش.

- ضريبة التخلى.. حين يشتد عود الصغار.

- الوفاء المعروف لدى الكلاب ودرجة تعلقها بأصحابها وهو ما افتقده الإنسان المعاصر.

- حالنا المتردى والإسقاطات السياسية فى أوهن البيوت. 

- لا تصنع المعروف فى غير أهله- فى نطحة التيس.

- كل شىء فى عصرنا الحالى وكل العلاقات صارت سلعً ولها قيمة، والخدعة لا تنفع فقط بالحروب، ولكنها إحدى وسائل البشر للوصول للغاية المرتقبة، فى «سباق الهجن»، وفى «الرفاعى والثعبان».

بلغة سلسة استطاعت د. هدى النعيمى بذكاء داخل مجموعتها القصصية «كليلة وهدى» طرح قضايا إنسانية مهمة، وكيف توحش هذا العالم، فإما أن تعيش حرًا، وإما أن تبقى سجين نفسك وروحك.