الإثنين 06 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

منى سعيد الطويل تكتب عن رحلة العمر.. صلاح منتصر.. الزوج والصديق

صلاح منتصر
صلاح منتصر

- نقل ملكية شقته باسمى قبل أن يتم الزفافُ وكان يقول لى: «إن الثقة هى العنوان الأهم فى أى علاقة زوجية.. وأنا أمتلك ثقةً لا نهائية بك»

- غالبية أصدقائه من كبار الأطباء والشخصيات العامة كانوا من الرموز فى مصر والعالم العربى

- كان محبًا للبيئة المصرية والمحميات الطبيعية ومدافع قوى عنها

- كان بعد حمام الصباح يرتدى ملابس الخروج وكأنه ذاهب لمكتبه فى الأهرام أو فى أكتوبر ثم يجلس إلى مائدة الإفطار وبعد ذلك يدخل إلى مكتبه فى كامل لياقته وأناقته بالبدلة والكرافتة 

- لم يكن يسمح لأحد بأن يفرض عليه أى فكرة ولم يكتب أبدًا إلا ما يؤمن به

- توفى- رحمة الله عليه- فى مكتبه وفى صومعته وعالمه من حوله حيث آلاف الكتب التى جَمَعَها

صدر، حديثًا، عن دار الشروق كتاب «سنوات مع صلاح منتصر: الإنسان.. الزوج.. الصحفى المستقل»، بقلم زوجته السيدة منى سعيد الطويل، التى تقدم شهادة حية وثرية على مسيرة الكاتب والصحفى الكبير، وتتناول محطاته الإنسانية والفكرية، ورؤيته العميقة تجاه الواقع والمستقبل، فى صياغة أقرب إلى السيرة الفكرية.

«حرف» تنشر فصولًا من الكتاب الجديد؛ لنعرف معًا جوانب مختلفة فى شخصية صلاح منتصر الإنسان والزوج والصحفى.

 

فى صيف ١٩٩٢، لم أكن مستعدة لكى أُدخل إنسانًا جديدًا إلى حياتى، وأنا فى منتصف العقد الرابع زوجى الذى عشتُ معه فى السراء والضراء، توفى قبل عام واحد.. وولداى فى سِن الشباب.

هذا هو الوصف النظرى لحالتى فى هذا الوقت، عندما لمحت مؤشرات مودة وارتياح من صلاح منتصر تجاهى. قرأتُ كثيرًا عن الارتباط الثانى المبنى على الثقة والخبرة، يكون الإنسان حينها أكثر خبرة ومقدرة على فرز الطرف الآخر بسهولة. التقينا هذا الصيف عدة مرات عند نينى أختى وزوجها المهندس صلاح دياب فى منزلهما بشاطئ العجمى، ثم وصلنى عرض الارتباط منه بشكل مباشر، وشجعتنى أختى وزوجها فى الأمر نفسه. 

تأخر ردى كثيرًا، بل إننا - أنا وولدىّ عُدنا إلى كاليفورنيا فى نهاية صيف هذا العام، ولم أكن قد أعطيتُ صلاح أو عائلتى فى القاهرة ردًا بالموافقة أو الرفض. كنت مترددة وأقول لهم ولنفسى إننى لستُ جاهزةً بعد العلاقة جديدة، ويسألنى عقلى فى صمت ما موقف ولدىّ من هذه الخطوة؟ 

عدتُ إلى عملى فى التدريس بقيتُ هناك عامًا كاملًا.. كما انتظم ولداى فى دراستيهما الجامعية.

أما الاتصالات الهاتفية مع صلاح منتصر فلم تنقطع خلال هذه الشهور. تقرّبتُ منه، بل أصبحنا صديقين، مقربين، فهو يمتلك شخصية جذابة وبسيطة. أكثر ما شدنى إليه، كما أشرتُ فى المقدمة، حكاياته الصريحة والإنسانية عن حياته مع زوجته الأولى المرحومة نادية عبدالحميد.. أحسستُ بصدقه وهو يحكى عن معاناتها مع مرض «باركنسون» سنوات طويلة، إذ أصابها هذا المرض الخطير الذى يُصيب الدماغ، ويتسبب فى مشاكل فى الحركة والتنفس والنوم. شرح لى أنه كان يعرف جيدًا، بحكم قراءاته واستشارات الأطباء، أنه مرض لا شفاء منه، وأن غاية العلاجات والأدوية أن تخفف فقط من أعراضه الشائعة، وهى الارتعاشات والتقلصات العضلية المؤلمة وصعوبة الكلام.

قربتنى منه قصته مع مرض زوجته الراحلة.. هذا اعتراف أنقله هنا بكل أمانة وصدق. بعد كل هذه السنوات لم أشعر بالملل أو الغضب ولو لمرة واحدة وهو يحكى عن زوجيه نادية وحبه لها، وكيف تعرف عليها، وصولًا لمرضها ووقوفه إلى جوارها. كنتُ أجد فيه صدى لما قمتُ به مع زوجى المرحوم سمير نصار. 

شعرت أن هناك شيئًا مشتركًا يربط بيننا؛ وهو الوفاء للزوج فى محنته، لم أشعر يومًا أن سمير ومرضه عبء على، بل كنتُ أعرف أن هذا هو سلوك طبيعى فى مثل هذه المواقف الإنسانية، لكن كنتُ أعتقد أنه سلوك شائع أكثر عند الزوجات، إلى أن وجدت صلاح قد قدم لزوجته المريضة أكثر مما قدمت لزوجى - سمير، علمًا بأن مرض زوجة صلاح ومحنتها استغرقا وقتًا أطول بكثير.

شهر العسل فى جنوب إفريقيا

حسمت القرار فى صيف ١٩٩٣، عدتُ للقاهرة بشكل نهائى، ووافقت على عرض الزواج، وتم زفافى على صلاح منتصر الأمر الذى شجعنى على ذلك أن ولدىّ تقبلاه بشكل طبيعى، وهو أحبهما وكأنهما ولداه اللذان لم ينجبهما. بدأت رحلة جديدة فى مشوار حياتى بالقاهرة، كنت قد تركت مصر لمدة ٢٥ عامًا، تخللتها زيارات سنوية لوقت قصير، استقر بى المُقام مجددًا فى مصر، ابتداء من ٢٩ مايو ١٩٩٣ وهو موعد عقد قرانى على صلاح.

حفل الزفاف ضَم مجموعة محدودة من الأصدقاء وأفراد عائلتينا. فى جو عائلى ممتع وحميم.

من هذا التاريخ، بدأ مشوارى إلى جواره واستمر لمدة ٢٩ عامًا بالتمام والكمال. وأنا هنا أقلد أسلوبه وتعلقه بالتواريخ والأرقام. تزوجنا فى مايو، وكانت نقطة النهاية فى رحلته مع الحياة كذلك، فى ١٥ مايو ٢٠٢٢. 

أصبح للحياة معه طعم مختلف تمامًا عما عشته من قبل. صلاح صحفى مشهور بأسفاره ورحلاته الصحفية والسياسية، أنتج كتبًا ومقالات عديدة عن رحلاته هذه. وأنا أيضًا، كما أشرتُ، سافرت مرات عديدة لدول أوروبية وللولايات المتحدة، لكننا أردنا أن نضع لأنفسنا رحلة مشتركة تكون هى البداية لنا معًا، أو رحلة شهر عسل مميزة، بحثنا طويلًا عن سفرية تصلح لهذا الغرض، كان شرطنا المشترك لذلك أن يكون المكان المستهدف جديدًا؛ أى لم نزره من قبل.. استقر بنا المقام على «جنوب إفريقيا».. وبالفعل، سافرنا إلى هناك لقضاء شهر العسل. وكانت بالفعل رحلة ممتعة جدًا. 

.. وفى مدينة جنيف بسويسرا

وفى السفر اكتشفت جوانب جديدة فى شخصية صلاح، خصالًا لم أكن أعرفها فيه من قبل.. كان مدير مصر للطيران فى جوهانسبرج صديقًا شخصيًا لصلاح، والرجل زارنا فى الفندق ودعانا للعشاء بصحبته فى أحد الفنادق بالمدينة. وفى الطريق، وجدتُ صلاح يشير إلى مضيفنا الذى كان يقود السيارة إلى الاتجاهات الصحيحة فى الشوارع يظنه، رغم أنه يزور جنوب إفريقيا للمرة الأولى، والنتيجة أننا قد ضللنا الطريق والرَّجُل اضطر للرد ولكن بأسلوب ضاحك، بأن زوجى كان سببًا فى ذلك. ضحكنا هذا اليوم من قلوبنا.

تأثيث بيت الزوجية

تعرفتُ على أصدقائه ومعارفه، وهو كذلك؛ صار قريبًا من عائلتى والمقربين منى لاحظت أن غالبية أصدقائه من كبار الأطباء والشخصيات العامة، كانوا من الرموز فى مصر والعالم العربى كله كان لديه الكثير من المعارف فى عالم الصحافة والإعلام.

ويذكر الأطباء، فإنَّ أصدقاء صلاح كانوا من تخصصات مختلفة، مثل المرحوم الدكتور إبراهيم أبوالفتوح والمرحوم الدكتور راضى سعد، والدكتور حمدى بدراوى، والدكتور ماجد الشناوى، والدكتور فاروق شاهين.

يوم الاحتفال بتوليه رئاسة المجلس الأعلى للصحافة 

لقد ظل الدكتور راضى سعد إلى جوار زوجى صلاح خلال مرضه الأخير، وكان هو من يتعامل مع الأطباء المعالجين، ويُنسقُ جهدهم، ويناقشهم فى بروتوكول العلاج، ثم يشرح لى الوضع بطريقة هادئة.. لا يمكن أن أنسى أبدًا طبيعة الجهد الذى بذله طوال ثلاث سنوات؛ هى فترة مرض صلاح. لقد اقتربت من زوجات هؤلاء الأطباء، وصارت بيننا علاقات صداقة متينة، وخاصة مع السيدة زوزا زوجة الدكتور إبراهيم أبوالفتوح، والسيدة منى زوجة الدكتور راضى سعد، والسيدة عُلا زوجة الدكتور حمدى بدراوى والسيدة هالة زوجة الدكتور ماجد الشناوى، والدكتورة سميحة فوزى زوجة الدكتور فاروق شاهين. أصبحنا جميعًا أسرة واحدة ونقضى معًا أحلى الأوقات.. وهؤلاء أطلق صلاح عليهم «شلة الدكاترة». 

انتهى شهر العسل، وبدأت شهورُ الحياة والاستقرار. وكان تأثيث بيتى الجديد فى القاهرة أهم تَحَدَّ فى هذه المرحلة، تلقيتُ دعمًا كبيرًا من والدى ووالدتى وأختى وزوجها.. وفى هذا الوقت كان لصلاح صديق عزيز بمواصفات خاصة جدًا، كان بمثابة الأخ له، ولم يكن من مجموعة الأطباء أو السياسيين.. الصديق الذى أقصده هو رجل الأعمال الكبير المهندس نبيه برزى صداقة صلاح معه بدأت فى ظروف تقليدية جدًا، متعلقة بالصحافة والنشر، لكن العلاقة بينهما استمرت واستقرت، وكان لنبيه شقةٌ على النيل فى شارع أبوالفدا بالزمالك، وأراد أن يبيعها للانتقال إلى بيت آخر، وعرض على صلاح أن يشتريها منه، كان ذلك فى الفترة السابقة لزواجنا مباشرة.. ففوجئت بأن هديته الأولى لى عبارة عن كتابة شقة الزمالك باسمى. لم أطلب منه ذلك. لقد فوجئت بالأمر أنا وعائلتى، لكننى قدرت هذا الموقف بشكل عظيم.

زوجى الجديد الذى تعرفتُ عليه قبل شهور معدودة ينقل ملكية شقته باسمى قبل أن يتم الزفافُ، وكان يقول لى: «إن الثقة هى العنوان الأهم فى أى علاقة زوجية.. وأنا أمتلك ثقةً لا نهائية بك».

صلاح منتصر مع زوجته الأولى نادية

رحلات إلى آخر العالم

المهم فى علاقتنا بنبيه برزى أنه كان محبًا للسفر والمغامرات، بل يفوق صلاح فى هذا المجال بكثير. وبصحبته مع أصدقاء آخرين، زرنا كل قارات العالم تقريبًا فى رحلات بحرية «كروز». اتضح لى أن هذه هى أجمل وسيلة لمشاهدة كنوز العالم هنا وهناك ومن الرحلات البحرية الفريدة، تلك التى انطلقت بنا من نیوزیلاند، وطافت بنا السفينة السياحية على جزر جنوب المحيط الهادئ؛ هى مناطق بكر تمامًا وغير مأهولة بالسكان تقريبًا. وهذه الرحلة كانت فى عام ١٩٩٦، وكان أبى وأمى رحمة الله عليهما، قد حرصا على القدوم بصحبتنا أنا وصلاح وباقى الأصدقاء.

الحياة على المركب السياحى ممتعة ومسلية. هناك برامج ثقافية ومحاضرات وسينما ورياضة، إضافة إلى حياة السهر، بما فيها من تسلية ومتعة. اشتهرت هذه الرحلات فى أوساط رجال الأعمال، ربما بسبب حكاياتنا المثيرة عنها، ولكن الأهم هو كتابات صلاح عنها فى مقالاته بعموده «مجرد رأى» فى الأهرام أو فى أكتوبر، أو فى الكتب التى أصدرها عن رحلاته بعد ذلك.

زاد الطلب على رحلات نبيه برزى السنوية. كان التوقيت هو نهاية ديسمبر، حيث إجازات الكريسماس ورأس السنة، وتمتد كل رحلة إلى ستة أسابيع. كان زوجى صلاح منتصر قد ترك دوامة العمل اليومى بعد أن استقال من رئاسة مجلس إدارة دار المعارف ورئاسة تحرير مجلة أكتوبر، ما ساعده وساعدنى فى تنفيذ هذه الإجازات دون قلاقل.

ومن الرحلات التى لا تُنسى تلك التى قصدنا فيها أمريكا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية، وجاء انطلاق الرحلة من لوس أنجلوس، انطلقنا. من الجانب الشرقى للمحيط الهادئ، وبعد فترة طويلة كانت النقطة التالية هى أحد الشواطئ فى شيلى، حصلنا هناك على استراحة معقولة ورحلة سياحية فى المدينة. وجهزنا للمرحلة الأصعب؛ وهى الاقتراب من القارة القطبية الجنوبية «أنتاركتيكا»... هذه الرحلة من أجمل الذكريات التى عشتها مع صلاح؛ تضمنت مشاهد جديدة لم أكن أحلم يومًا أن أحققها أو أصل إليها. فالكتل الثلجية والهدوء التام مبهر تمامًا. حملتنا السفينة السياحية إلى المحطة التالية وكانت الأرجنتين، وكل بلد ننزل فيه، نعيش رحلةً جديدةً من الاستكشاف والمتعة.

أصعب الرحلات جاءت فى شتاء ٢٠١١. كنا نستعد لعبور قناة بنما، وفوجئنا باندلاع ثورة يناير، كنا فى السفينة السياحية شبه منعزلين عن العالم الخارجى. سعينا للوصول إلى معلومات لنطمئن على الأهل والأصدقاء فى مصر. بدأت الأخبار والصور والفيديوهات تصلنا تباعًا. وأتذكر أن إدارة السفينة عملت على تخصیص غرفة خاصة للمصريين وزودتنا بشاشات حديثة وأجهزة استقبال متصلة بالأقمار الصناعية، تتيح قنوات ومحطات إخبارية مهتمة بالأوضاع فى مصر. وفوجئنا بتعاطف معنا ومساندة لا نهائية.. وقررنا جميعًا أن نقطع الرحلة ونعود مباشرة للقاهرة.

ضحكات تجمع صلاح منتصر وصلاح دياب وابنته شهيرة

سياحة داخلية.. وغرق

علاوة على الرحلات الخارجية، سعيتُ أنا وصلاح لاستكشاف كنوز بلدنا مصر. وهو محب للبيئة المصرية والمحميات الطبيعية، ومدافع قوى عنها. ومن الرحلات التى أتذكرها رحلتنا معًا إلى شرم الشيخ فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، وكانت للاحتفال بعيد ميلادى، وأنا أعشق البحر والمغامرات، وكنت أسعى لعمل «سنوركلينج»؛ أى الغوص تحت المياه. وقد شجعنى على هذه الخطوة وأبلغنى بأنه سيفعل مثلى وسيغوص تحت المياه. صعدنا بالفعل فوق المركب الذى يقلنا للمكان المقصود، حيث تنتشر الأسماك الملونة والشعب المرجانية الجميلة. ارتدينا المعدات المطلوبة للغطس، مثل: البدلة والزعانف والنظارات، وبدأنا الغطس، وما هى إلا دقائق معدودة حتى بدأت تظهر أعراض غريبة على زوجى؛ نوع من الهلع من الغرق، ويطلق عليه «أكوافوبيا» Aquaphobia، علامات الخوف بدت على وجهه، أنفاسه متلاحقة بشكل كبير، حدث له نوع من الذعر دون أى مقدمات. كنتُ وحدى إلى جواره بعد أن تحرك المركب الذى أوصلنا للمكان. وبمعجزة إلهية استطعتُ أن أمنع غرقه لدقائق، وبعدها فوجئنا بمركب كبير يقترب منا. بدأت فى جذب انتباههم ونحن فى المياه إلى أن اقتربوا منا وألقوا إلينا بطوق النجاة.. صعدنا فوق المركب وتلقينا مساعدة سريعة من الطاقم، وعاد صلاح لحالته الطبيعية بالتدريج. وما هى إلا دقائق معدودة، وبعد أن اطمأننتُ عليه وتأكدت أن نبضه وقلبه جيدان، وأن الهلع والقلق قد زالا عنه تمامًا، قلت له: «صلاح.. لو لم تنزل إلى المياه الآن وتنتصر على خوفك، فلن تستطيع أن تفعلها طوال عمرك. ستظل لديك عقدة من نزول البحر، ويلتصق الخوف بعقلك وأعصابك». 

السنة الأولى الجامعية

وهذه المرة، تلقى دعمًا من الطاقم، وهم تعرفوا على شخصيته بالطبع وساندوا اقتراحى له.. نزل إلى البحر، ولكن عَبْرَ سُلّم كبير لم ينفصل عن المركب، وكنتُ إلى جواره. وغطس بجسمه كله، بينما عوامل الأمان حوله وحولى، وعاد سريعًا إلى ظهر المركب آمنًا وسعيدًا. 

بعد ذلك كتب صلاح مقالًا عن تجربة الغرق والفزع هذه. كانت تجربة صعبة.. وكان الله منقذًا له ولى. 

كنا نحرص أيضًا على زيارة الأقصر وأسوان والغردقة والجونة، وأحيانًا ما كنت أشجعه على أن نذهب بالسيارة، حيث إننى أستمتع بالقيادة لساعات طويلة.. وذات مرة، نجحت فى إقناعه بأن نذهب إلى الجونة بالسيارة. جهزنا للرحلة جيدًا، وكانت كل الدلائل تقول إن الأجواء معتدلة ولا يعكر صفوها شىء. كنت بالقرب من الغردقة، واقتربت بالفعل من الجونة، ولم يتبق على موعد وصولنا إلا نصف الساعة. وفجأة، هربت الشمس من مكانها، وسلمتنا للظلام.. هبت عاصفة صحراوية غريبة، رعدها مؤذٍ ومخيف.. الرياح نقلت الرمال إلى الطريق. وما هى إلا دقائق وانعدمت الرؤية تمامًا أمامنا، كشافات السيارة لم تنفعنى فى شىء، لا أكاد أميز السيارات من أمامى أو من خلفى. الرمال على الطريق صعّبت من مهمتى فى أن أقود بسرعة، أو أتحكم فى السيارة بشكل طبيعى. عشنا ساعة كاملة من الرعب.

فى الأوقات التقليدية وفى الطرق الطبيعية، كان صلاح يحرص على أن يعطينى النصائح الدائمة حول القيادة الآمنة وضرورة الالتزام بالسرعة وتعليمات المرور. هذه المرة كان شبه صامت، لا يتدخل إلا لدعمى على مواصلة هذه الرحلة الخطيرة. لم يتحدث بشىء يُزعجنى.

الطريف فى هذا الموقف أننا كنا قد شاهدنا قبل هذه الرحلة بفترة بسيطة الفيلم الإنجليزى الشهير «المريض الإنجليزى»، الحاصل على عدة جوائز أوسكار، وفيه موقف مؤثر جدًا تذكرناه خلال هبوب العاصفة؛ حيث كان بطل الفيلم هو وآخرون قد ضلّوا طريقهم وهم فى رحلة بالمغرب خلال الحرب العالمية الثانية، وهبت عليهم عاصفة رملية، وحاولوا أن يحتموا بالسيارة التى كانوا يستقلونها، إلا أنهم حُبسوا فيها.. إلى أن جرى إنقاذهم بعد فترة.

ومن الرحلات المميزة خارج مصر، زيارتنا لأحد المنتجعات الصحية السياحية فى النمسا الذى يبتعد عن العاصمة فيينا بنحو الساعة بالسيارة، ويتميز بالمياه المعدنية للاستشفاء والراحة.

ذكرنى المكان بمنطقة عين حلوان التى كانت تستقطب السياح والمرضى وخارجها، وأتذكر أننى كنتُ أذهب إليها وأنا طفلة بصحبة جدتى من داخل مصر للنزول فى المياه الكبريتية، حيث نقضى أسبوعين فى هذه المنطقة كل عام، ثم نعود للقاهرة. 

استعدت هذه الذكريات وأنا بصحبته فى المنتجع النمساوى. اللافت هنا أن الشركة النمساوية التى تديره كانت تخطط لتطوير عيون حلوان الكبريتية «كابريتاج»، لكن المشروع تعثر.. هكذا أخبرنى بعدها. 

فى المنتجع النمساوى حمام سباحة، يستمد المياه من عين طبيعية للمياه المعدنية. التعليمات محددة وحازمة بألا يبقى الشخص فى هذه المياه أكثر من عشرين دقيقة فى المرة الواحدة.. ومن أراد أن يُكرّر الأمر، يمكنه ذلك، ولكن بعد فترة استراحة. هذه المياه قادرة على أن تغسل العقل والجسد، أحستُ براحة وهدوء وسكينة بعد هذا البرنامج، وخاصة مع نزولى لهذه المياه المعدنية، والمكان مزود بالساونا والمساج وأنشطة استشفائية أخرى.

استطعنا أن نستمتع بهذه الرحلة، والتزمنا بأن كل واحد عليه أن يستمتع بالإمكانات والأدوات الموجودة حسب اهتماماته على أن نلتقى فى نهاية اليوم على وجبة العشاء.

كانت رحلاته كنزًا صحفيًا له، لأن نسبة مهمة من مقالاته، وخاصة فى الصحف العربية والمجلات المتخصصة، خصصها لرحلاته حول العالم. كما أن له كتابين شهيرين جمع فيهما مقالاته عن السياحة والسفر، وهما: «رحلتى إلى آخر العالم»، ورحلاتى بين الماء والسماء».

«لاب توب» لصلاح

الكتابة هى حياة صلاح.. كان كثيرًا ما ينشغل بها عنى وعن الجميع. هى همه الأول وحبّه الأكبر. لقد فهمت ذلك جيدًا وتعايشت معه.. بل سعدت كثيرًا بما يكتبه. كنتُ قارئته الأولى وساعدته فى القضايا الاجتماعية الخلافية التى يتعرض لها، وكثيرًا ما يسمع مشورتى وموقفى.

صلاح يكتب مقالاته مستخدمًا الورقة والقلم، كما يحرص على تسجيل المعلومات والأفكار التى يريد الاحتفاظ بها فى أرشيف منظم للغاية. كان دقيقًا فى هذه الجزئية إلى حد كبير.. وما زلت أحتفظ بكل أرشيفه وأرتبه.. أشعر وكأنه ينتظر صاحبه للتقليب فيه كما كان يفعل. 

فى إحدى رحلاتى إلى الولايات المتحدة فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، كنت فى منزلنا هناك، فى مدينة بالو ألتو «Palo Alto». وهى مدينة تعتبر مركز الـ«سيليكون فالى Silicon Valley»، ومنها خرجت آبل ومايكروسوفت وجوجل وغيرها. كل آباء التكنولوجيا ولدوا وترعرعوا هناك، كانت فيها أيضًا جامعة ستانفورد.. وكنتُ مهتمة إلى حد كبير بالتكنولوجيا، وامتلكت أول جهاز آبل كمبيوتر فى ثمانينيات القرن الماضى، كان أخضر اللون، عشت تجربة الكمبيوتر من بدايتها.. وأنا فخورة بذلك. 

فى رحلتى هذه المرة وأنا زوجة لصلاح منتصر، فكرتُ فى أن أعود إليه بهدية مختلفة ومؤثرة. كان لا يمانع فى أن أسافر وحدى للولايات المتحدة لأبقى هناك شهرًا ونصف الشهر إلى جوار وَلدَىّ. كانت الهدية هى أحدث جهاز كمبيوتر فى السوق الأمريكية.. «سونى فايو». فَرِحَ بهديتى وشكرنى.. كان مجاملًا جدًا، لكنه سألنى بعد ذلك: ماذا سأفعل به فى هذه السن؟ لم أرد على هذا التساؤل حينها، بعد ذلك بأيام، فوجئت به يبدأ فى تعلم الكمبيوتر من البداية، وكأنه طالب صغير مجتهد، أخذ الأمر وكأنه نوع من التحدى لمواكبة لغة العصر.. وبعد أشهر معدودة انتقل إلى مرحلة جديدة فى حياته؛ حيث ودّع الورق والقلم وبدأ فى كتابة مقالاته على اللاب توب. كما تعلم طرق استخدام الكمبيوتر للبحث وتدقيق المعلومات. استفاد كثيرًا بهذه الخطوة.

فى كتاباته، كان يعتمد كثيرًا على الأرشيف الصحفى والمعلومات القديمة والحديثة، وقد سهل له الكمبيوتر هذا الجانب إلى حد كبير.

احترام الخصوصية

نجحت أنا وهو فى أن يحترم كل منا خصوصيات الآخر، ولا يتدخل أحد منا فى قضية أو مسألة تَخُصُّ شريكه إلا إذا طلب منه ذلك. لا أستطيع أن أسترسل فى شرح هذه الخصلة النبيلة وأنا أكتب هذه السطور.. لكن عندما أستعيد ذكرياتى معه، أجده حافظ على هذه الخصوصية بقدر محافظتى عليها.. وهذا أحد أسباب استقرار حياتنا معًا. كنت أجده إلى جوارى بأى وقت أحتاجه فيه، ولكن عندما يتعلق الأمر بشىء خاص بولدى أو عملى فى شركة العائلة، لا يتدخل ولا يسأل إلا إذا طلب منه المشورة أو الدعم.

عندما تزوجت صلاح، كان ابنى الأكبر تامر فى السنة الأخيرة من دراسته الجامعية، بينما أيمن فى السنة قبل الأخيرة. وعندما أنهيا الدراسة عادا لمصر بحماس لكى يتعلما من جدهما سعيد الطويل ويساعداه قدر استطاعتهما. وقرر الاثنان أن يعيشا وحديهما. كان سلوكًا غريبًا حتى على عائلتى، لكننى تفهمته. أعرف دوافعهما لذلك. شابان عاشا فى كاليفورنيا طويلًا، ثم جاءا بعد ذلك للاستقرار فى مصر.. فكان القرار طبيعيًا ومفهومًا بالنسبة لى، بل دعمتهما فى هذه الخطوة. ولداى تربيا وتعلَّما فى أمريكا، لكنّ جذورهما المصرية عميقة، يحترمان العادات والتقاليد المصرية جيدًا.. شجّعتهما كذلك على الاعتماد على النفس، لا الكسل والإحساس بالاطمئنان بأن وراءهما عائلة تساندهما. وفرتُ لهم بيتًا قريبًا من شقتنا بالزمالك، ليكونا مستقلين فى بيتهما، لكننى إلى جوارهما دائما. الشىء الجميل الذى راقبته ثم فرحت به جدًا، تلك الحالة من المودة والقُرب والحب التى جمعتهما بصلاح.. فى وقت قصير جدًا، استطاع صلاح أن يبنى معهما صداقة قوية، يلجآن إليه فى قضايا واستشارات عديدة. 

كان بالنسبة لتامر وأيمن بمثابة الأب الذى يحرص على أن يحقق الاستقرار لولديه فى بلدهما بعد سنوات من الغربة.. وكأم وزوجة، كنتُ سعيدة بهذه العلاقة، التى لم تكن لتتم لولا أنه رجل طيب القلب، وصادق فى مشاعره، وقادر على العطاء دائمًا. كان يعامل ولدىّ بنفس الطريقة التى يعامل بها أولاد شقيقه الراحل.

وعندما بدأت حياتى الزوجية معه، كان رئيسًا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسًا لتحرير مجلة أكتوبر، وظل كذلك إلى أن استقال من وظيفته مع بلوغه الخامسة والستين من عمره حينها، قال لى ولأصدقائه إنه اكتفى من المهام الإدارية.. قرر أن يركز على الكتابة فقط.. فهو يريد أن يعطى النموذج على مَنْحِ الفرصة للأجيال الجديدة فى المؤسسات الصحفية القومية.

الكتابة بالبدلة والكرافتة

توقعت أن أكون شاهدةً على تغيير جذرى فى حياته وفى سلوكياته بعد خروجه للمعاش فى أيام عمله كرئيس للتحرير، كان يُداوِمُ على الذهاب إلى مكتبه فى دار المعارف، ثم يعود لروتين حياته العادية، ومعظم الوقت بعد ذلك يقضيه فى مكتبه، لم يتغير الوضع كثيرًا بعد استقالته. 

استمر محافظًا على روتينه اليومى. بعد حمام الصباح، يرتدى ملابس الخروج وكأنه ذاهب لمكتبه فى الأهرام أو فى أكتوبر.. ثم يجلس إلى مائدة الإفطار، وبعد ذلك يدخل إلى مكتبه فى كامل لياقته وأناقته بالبدلة والكرافتة.

فى البداية، ظننتُ أن الأمر سيستغرق وقتًا ثم تتغير هذه العادة. كنت أقول إنه قد يُصاب بنوع من الكسل ويدخل مكتبه بملابس البيت بالبيجاما أو الروب.. ولم يحدث ذلك. وفى إحدى المرات، سألته: لماذا ترتدى ملابس الخروج وأنت لن تنزل إلى الشارع أو المكتب، وكذلك لن يزورك أحد؟! ففوجئت به يقول لى إنه تعلم هذه الخصلة من الأستاذ هيكل، وهذا أسلوب حياة، يساعده على الإنجاز، وفيه احترام لمهنته وقرائه. 

تفهمت منطقه واحترمته.. كنتُ أنزل لأعمالى هنا وهناك، وهو باقٍ فى البيت يقرأ ويبحث ويكتب.. وأكثر شىء حرص على متابعته والتدقيق فيه هو رسائل القراء، سواء بشكلها التقليدى القديم أو عبر الوسائل الحديثة، كانت تأخذ وقتًا عريضًا من حياته ويومه، وكان يخصص كذلك وقتًا كبيرًا للقراءة، وساعات محددة للكتابة. 

كنا نلتقى على مائدة الغداء.. وفى المساء، نخرج لمقابلة الأصدقاء أو حضور فعالية فنية أو ثقافية. 

حياتى معه لم تكن مملة أبدًا، رغم الالتزامات العديدة التى ظل حريصًا عليها. فى أحيان كثيرة، كنا نتناول العشاء، ثم نمضى وقتًا أمام التليفزيون لمشاهدة عمل فنى مثل أى عائلة، وهذا هو الوقت المميز لكى نتناقش فى القضايا السياسية والاجتماعية التى تفرض نفسها على الساحة فى هذا الوقت.. كما كنا نتناقش فى الكتب التى يقرأها كل واحد فينا.. فقد كنتُ وما زلتُ أحرص على قراءة الروايات والقصص والصحف الأجنبية والمصرية. 

كان لا يتغير روتينه اليومى إلا لمتابعة مباريات كرة القدم المهمة. فهو يشجع الزمالك بغير تعصب.. أو بالأحرى كان متعصبًا، ثم عدل من مسيرته بعد ذلك وصار مشجعًا معتدلًا، وأحيانًا كان يبدو غير راضٍ عن أداء الفريق ووصول شخصيات بعينها إلى إدارة النادى، لكنه ظل محافظًا على تقاليده بعدم الانتقاد بشكل مباشر لأحد أو لجهة بعينها.

كرة القدم والمنافسة التقليدية فيها بين الأهلى والزمالك هى من أكثر المجالات التى كانت تجمع الأجيال فى عائلتى وعائلته.. كانوا فى المباريات المهمة يحدث بينهم هذا التلاقى العابر للأجيال، فمثلًا بينه وبين زوج بنت أختى محمد هانى طلعت الذى يصغره بسنين كثيرة.

«المكتب».. ممنوع الاقتراب أو التغيير

حرصت على أن أجدد شقة الزوجية وأؤثثها وفقًا لذوقى الخاص.. لكنّ هناك شرطًا وحيدًا له بهذا الخصوص. فقد طلب منّى صلاح ألا أقترب من غرفة المكتب؛ حيث عالمه وصومعته الخاصة، هو من قام بتنظيمها وترتيبها برؤيته واستدعى لذلك أحد النجارين المخضرمين، الذين سبق أن عمل معه فى مؤسسة الأهرام، وطلب منه تنفيذ الأرفف والأدراج والمكتب والكراسى وفقًا لذوقه. 

تدخلى بالمكتب كان عابرًا جدًا؛ حيث كنتُ قد شحنتُ معى من كاليفورنيا للقاهرة كنبة مريحة «شيزلونج»، واقترحت أن يأخذها للمكتب.. وقد وافق على ذلك. كان كثيرًا ما يستريح فوقها لمشاهدة التليفزيون أو ينام عليها ساعة فى مكتبه بعد الظهر. كنت أداعبه بالقول إننى استطعت أن أغزو صومعتك بإضافة بسيطة. 

وحجرة نومنا كانت هى صومعتى بالمقابل.. فى أحد أركانها، يوجد مكان نجلس فيه معًا للحديث، أو لمشاهدة أى عمل على الشاشة. كنت أقرأ فى هذا المكان مثلما هو يقرأ ويكتب فى مكتبه. 

مضت حياتنا بلا مشاكل أو أزمات تقريبًا.. كما قلت من قبل نحرص على خصوصيات بعضنا البعض، ونتعامل باستقلالية فى كل الأمور. لا أتذكر أنه قد ضغط علىّ فى مسألة أو قضية؛ لكى أغيّر موقفى من موضوع، حتى لو كان بسيطًا أو عابرًا.

كنت أقول لنفسى، وأحيانًا للمقربين منى، إنه ربما تكون هذه إحدى فوائد الزواج الثانى، أو فى سن كبيرة. بالفعل، الزواج بهذا الأسلوب كان مناسبًا لكلينا، وربما يكون نموذج صلاح منتصر هو السبب فى أن أعيش كل هذه السنوات وأنا فى استقرار وسعادة.

باختصار بقى رجل «جنتلمان»، يتمتع بالحيوية والشباب، ومستوعبًا لكل الأجيال، رغم أنه بحكم السن كان بعيدًا تمامًا عن عمر الشباب.

«شنيور الأفكار»

يُقسم يومه بشكل جيد للغاية.. معظم وقته يقضيه فى القراءة والكتابة، ومع هذا، كان شخصًا اجتماعيًا جدًّا، يحرص على حضور المناسبات الاجتماعية لأصدقائه وأقاربه، وهو موهوب فى التواصل الاجتماعى، وكنت أقول له إنك رجل علاقات عامة بمواصفات قياسية، ولم يكن يأخذ إجازة طويلة ويتغيب على القراء.. لم يفعل ذلك إلا نادرًا أو فى أوقات مرضه. وقبل أى سفرية، اعتاد أن يغلق الباب على نفسه ولا يخرج من مكتبه.. والغرض من ذلك هو كتابة عدد من الأعمدة لنشرها خلال فترة سفره، لكن فى الإجازات السنوية كان يفضّل أن يستأذن القارئ أو يكتب قبل إجازته أنه سيغيب عنهم لعدة أيام. وهو يحرص على أن يأخذ الإذن من قرائه. 

لم يكن يسمح لأحد بأن يفرض عليه أى فكرة. لم يكتب أبدًا إلا ما يؤمن به. كنت شاهدة على محاولات البعض أن يدفعوه كى يكتب فى موضوعات بعينها، أو يتبنى موقفًا أو وجهة نظر تخدمهم.. وذلك من المستحيلات عنده، حتى مع أعز الناس الذين يعرفهم ويثق فيهم.

وكثيرًا ما كان يصيبه القلق فى المساء، وأجده يتقلب فى فراشه. مع الوقت، تعودت على هذه الحالة. كنت ألاحظ أنه يخرج من غرفة النوم، يتحرك وسط الظلام فى هدوء قاصدًا مكتبه. وكنت أسأله فى الصباح عن عدم نومه وانتقاله للمكتب، فيرد: «إنه الأرق ومزاحمة الأفكار على رأسى»، ويبتسم ويقول: «هناك شنيور كأنه يثقب رأسى، ولم تكن هناك وسيلة للعلاج إلا بالانتقال للمكتب والعودة للكتابة فى هذا الوقت المتأخر».

وتعبير «الشنيور» هو المزحة التى نستخدمها بعد ذلك مع انتقاله من وقت لآخر إلى غرفة المكتب فى وقت متأخر من الليل. ويشرح لى أن علاج الأرق فى حالته هو الجلوس على كرسيه المريح ليقرأ أو يكتب. تعلمتُ أن أقلد هذا السلوك منه. كنت بعد ذلك عندما يصيبنى الأرقُ، أبحثُ عن كتاب لأقرأ فيه نصف ساعة أو يزيد، حتى يأتينى النوم بعد ذلك.

كلمة «النهاية» وسط كتبه

استمرت بنا محطات الحياة هكذا، لم تكن هناك منغصات كبيرة من حولنا. حياة طبيعية، بل شبه مثالية .. ثم جاءت إرهاصات النهاية دون أى مقدمات كبرى. ظهرت الأعراض المرضية على جسده، كان ذلك قبل ظهور وباء كورونا مباشرة. 

بدأت رحلتنا إلى المستشفيات وكبار الأطباء فى مصر ثم خارج مصر. عرفنا التشخيص السليم، وسارعنا فى العلاج. كان كثيرًا ما يقضى أوقاتًا طويلة داخل المستشفى، لكنه فى هذا الوقت ظل حريصًا على الكتابة اليومية فى الأهرام، فى زاويته «مجرد رأى». 

لا أعتقد أن القُرّاء فى هذه المرحلة لاحظوا شيئًا متغيرًا على صلاح منتصر وأسلوب كتابته. 

لقد توقف فقط وبالتدريج مع تطور الحالة المرضية عن الكتابة فى صحف أخرى كان يداوم على الكتابة فيها، واكتفى بالأهرام. لم تكن هذه الفترة التى استمرت ثلاث سنوات سهلة، الجميل أن صلاح نفسه هو من كان يهون الأمر علينا.. كان متفائلًا ومقبلًا على الحياة، يسعى للعلاج، مدققًا وساعيًا إلى كل جديد فى عالم الطب والدواء.

كان يمتلك الأمل الكبير فى أن ينتهى مرضه بسرعة، وظل هدفه الأسمى هو العودة للقراء والكتابة الدائمة إليهم، والتفاعل مع همومهم واهتماماتهم. 

استمر المرض والمعاناة ثلاث سنوات، إلى أن توفى - رحمة الله عليه - فى مكتبه وفى صومعته وعالمه من حوله، حيث آلاف الكتب التى جَمَعَها، والأرشيف الضخم الذى جمعه بيديه، إضافة إلى آلاف المقالات التى كتبها على مدار سبعة عقود. 

كنت حريصة كل الحرص على أن تكون الأيام الأخيرة فى حياته وسط عالمه الخاص، فى شقته ومكتبه.

قبل الوفاة بأسابيع معدودة، أبلغنى الأطباء المشرفون على حالته، بأنه لا أمل فى شفائه، وأن أيامه فى الحياة معدودة، وأن بروتوكول العلاج فى هذه المرحلة يعتمد فقط على أدوية تقلل الألم قدر الإمكان، لكن لا تدخل لوقف تدهور الحالة أو منع الوصول لخط النهاية. شرحوا لى كل ذلك، وتلقيت هذه المعلومات بهدوء شديد. أعلم جيدًا أن للعلم حدودًا يقف عاجزًا عندها، وأن جسم الإنسان فى النهاية هو أحد إعجازات الخالق سبحانه وتعالى، وإذا كان قد حدد ساعة النهاية لهذا الجسد، فلا تَدَخُل فى إرادته.

تشاورت مع العائلة حول إعادة صلاح إلى منزلنا بهذه الحالة، على أن نهيئ له غرفة رعاية كاملة. جهزنا غرفة المكتب لهذا الغرض، وجاء معنا رامى ممرضًا مقيمًا بالمنزل. بعد يوم أو يومين، أحسست بأن صلاح قد تحسن كثيرًا. لا أعلم إن كانت هذه حقيقة، أو مجرد أمنية ورجاء فى داخلى.. لكن الذى شاهدته أنا وزواره من العائلة والأصدقاء المقربين أنه قد ارتاح نفسيًا بإعادته إلى بيته فى الساعات الأخيرة من حياته. مكتبه الذى أطل منه للعالم على مدار سنوات طويلة.. منه تكتب كلمة النهاية فى حياته كلها.

الحمد لله أننى فعلت ذلك.. استطعتُ أن أحقق له كل هذه السعادة. لم يمكث صلاح منتصر فى غرفة العناية، التى أقيمت بمكتبه، إلا أيامًا معدودة.. وتوفى بعدها يوم الأحد ١٥ مايو ٢٠٢٢.

رحمة الله عليه.. وأسكنه فسيحَ جناته.