الجمعة 31 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

عرّاب الثقافة.. د. خالد العنانى: رؤية جديدة لحماية التراث الثقافى ودعم الدول النامية فنيًا وتقنيًا للحفاظ على مواقعها الأثرية

خالد العنانى
خالد العنانى

- سأحرص على أن تكون كل البرامج والسياسات ذات عدسة إنسانية شاملة تراعى تكافؤ الفرص

- اليونسكو بحاجة إلى «إعادة إنعاش» لدورها العالمى من خلال تطوير آليات عملها وأدوات تنفيذها لتواكب الواقع الجديد

- أى مشروع للتنمية أو للسلام لا يمكن أن ينجح ما لم يكن قائمًا على إشراك المرأة والشباب بوصفهم شركاء فى صناعة القرار

- يجب أن تستعيد «يونسكو» دورها القيادى فى رسم سياسات التعليم عالميًا

- سأحرص على تعزيز الحوكمة والشفافية والإدارة الفعّالة داخل المنظمة

- سأعمل على تعزيز جودة التعليم وضمان وصوله للجميع دون تمييز

- تطوير آليات أكثر فاعلية لحماية التراث فى أوقات النزاعات والكوارث

- برامج مشتركة تجمع بين الفن والتعليم والتراث والإعلام لتعزيز دور المنظمة

فى لحظة تاريخية تعكس مكانة مصر المتجددة على الساحة الدولية، انتُخب الدكتور خالد العنانى مديرًا عامًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، بنسبة تأييد غير مسبوقة من الدول الأعضاء فى المجلس التنفيذى للمنظمة. 

هذا الفوز لم يكن مجرد انتصار دبلوماسى أو إنجاز شخصى، بل تتويجًا لمسيرة ممتدة من العمل الثقافى والعلمى، وتجسيدًا لثقة العالم فى قدرة مصر على قيادة واحدة من أهم المنظمات الأممية التى تعنى ببناء السلام عبر التعليم والثقافة والعلوم.

فى هذا الحوار، يتحدث الدكتور العنانى، بشكل شامل لأول مرة بعد إعلان فوزه، عن تفاصيل تلك اللحظة الفارقة، كاشفًا عن رؤيته الشاملة لمستقبل المنظمة وأولوياته فى قيادتها خلال المرحلة المقبلة. 

كما يتطرق إلى دلالات هذا الانتصار على المستويين العربى والإفريقى، ويطرح رؤيته لإصلاح المنظمة وتفعيل دورها فى دعم التعليم، وحماية التراث، وتعزيز الحوار بين الثقافات، مؤكدًا أن «اليونسكو يجب أن تكون أقرب إلى الناس وأكثر تأثيرًا فى حياة الشعوب».

■ بداية.. كيف تلقيتم تصويت المجلس التنفيذى لـ«يونسكو» لاختياركم لمنصب المدير العام للمنظمة خصوصًا بهذه النسبة غير المسبوقة؟

- تلقيتُ نتيجة التصويت بتواضعٍ وامتنانٍ عميقَين. كانت لحظة مؤثرة بكل المقاييس، ليس فقط لأنها تمثل ثقة استثنائية من الدول الأعضاء فى المجلس التنفيذى بنسبة غير مسبوقة، ولكن لأنها تعكس أيضًا إيمان المجتمع الدولى بالرؤية التى قدمناها لمستقبل المنظمة، وبالنهج القائم على الحوار، والتعاون، والتمثيل العادل.

هذا التصويت لا أعتبره فوزًا شخصيًا، بل هو تكليف ومسئولية كبرى أتشرف بحملها باسم مصر، وباسم الإقليمين العربى والإفريقى، وباسم كل من يؤمن بدور «يونسكو» كمنارة للفكر الإنسانى والتعاون الثقافى والتربوى والعلمى.

لقد كانت الحملة المصرية ثمرة جهد جماعى متكامل، ودبلوماسية نشطة استمرت أكثر من عامين، انطلقت من قناعة راسخة بأننا قادرون على تقديم رؤية جديدة لـ«يونسكو» تعزز فاعليتها، وتُقَرّبها أكثر من الدول الأعضاء ومن الشعوب على حد سواء.

وبالتالى، فإننى أستقبل هذه النتيجة لا كختام لمسيرة، بل كنقطة انطلاق لمسئولية جديدة نضع فيها كل خبراتنا، وإيماننا العميق بقيم «يونسكو» لخدمة الإنسانية جمعاء.

■ ما الذى يعنيه لكم هذا الفوز على الصعيد الشخصى، وللدولة المصرية على الصعيد الوطنى والدبلوماسى، وكيف تحقق هذا النجاح الكبير؟

- على الصعيد الشخصى، هذا الفوز يمثل شرفًا كبيرًا ومسئولية عظيمة. فهو تتويج لمسيرة طويلة فى خدمة التراث والثقافة والتعليم، ومسئولية جديدة فى خدمة المجتمع الدولى تحت راية «يونسكو». إنه أيضًا لحظة فخر وامتنان لكل من دعم هذه المسيرة وآمن بأن التعاون والحوار يمكن أن يصنعا الفارق.

أما على الصعيد الوطنى، فهو انتصار للدبلوماسية المصرية الرصينة التى عملت بصبر واحترافية بقيادة فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولجهود وزارة الخارجية وجميع مؤسسات الدولة التى آمنت بقدرة مصر على خوض هذا السباق العالمى بنجاح. كما أنه تأكيد على المكانة التى باتت تحتلها مصر فى المحافل الدولية، باعتبارها دولة قادرة على بناء الجسور وتعزيز قيم السلام والتفاهم بين الشعوب.

وعلى المستوى الدبلوماسى، هذا النجاح لم يتحقق بين يوم وليلة، بل كان ثمرة أكثر من عامين من العمل الدئوب، والحوار الصادق مع الدول الأعضاء فى كل القارات، والاستماع لتطلعاتها ومخاوفها، من أجل صياغة رؤية مشتركة لمستقبل المنظمة. لقد كانت حملة مصر حملة منفتحة تقوم على الشفافية والتعاون، وتؤمن بأن «يونسكو» بيت لكل الأمم، وصوت لكل الثقافات.

باختصار، هذا الفوز ليس إنجازًا مصريًا فحسب، بل رسالة أمل مفادها أن الدبلوماسية الهادئة والعمل الجاد يمكن أن يفتحا أبواب الثقة والتوافق، وأن مصر كانت وستظل دائمًا فى قلب العمل الدولى من أجل الإنسانية.

■ بصفتكم أول مصرى وعربى يتولى هذا المنصب، ما الرسالة التى تحملونها إلى العالم؟

- كونى أول مصرى وعربى أتولى هذا المنصب الرفيع فى تاريخ المنظمة، أحمل معى رسالة من قلب الحضارة الإنسانية الممتدة على ضفاف النيل، رسالة تؤكد أن الثقافة ليست جدرانًا تفصل الشعوب، بل جسورًا تجمعها.

رسالتى إلى العالم هى أن التنوع قوة، وأن الحوار هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات المشتركة التى تمسنا جميعًا— من التعليم والبيئة، إلى الثقافة والتراث وحرية التعبير.

أحمل معى رؤية تؤمن بأن «يونسكو» يجب أن تكون أكثر حضورًا وتأثيرًا فى حياة الشعوب، خاصة فى الدول النامية، وأن تكون المنظمة منارة للأمل، ومصدرًا للحلول القائمة على المعرفة والابتكار.

كما أوجه من خلال هذا المنصب رسالة فخر وانتماء إلى كل شاب عربى وإفريقى بأن موقعهم الطبيعى هو فى مقدمة المشهد الدولى، وأنهم قادرون على الإسهام فى صياغة مستقبل العالم بروح التعاون والاحترام المتبادل.

إنها ليست رسالة مصر وحدها، بل رسالة أمة بأكملها- عربية وإفريقية- تؤمن بأن العلم والثقافة والحوار هى الأدوات الحقيقية لبناء السلام.

■ فى هذا الشأن ما رسائلكم إلى: القيادة السياسية، وزارة الخارجية، حملتكم الانتخابية؟

- فى الحقيقة، هذا الفوز لم يكن فوزى الشخصى فقط، بل هو ثمرة عمل جماعى وجهد وطنى منسق على أعلى المستويات.

رسالتى أولًا إلى القيادة السياسية المصرية هى رسالة امتنان وفخر. فلولا رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى ودعمه المستمر لملف الثقافة والتعليم ودور مصر الريادى فى المنظمات الدولية، لما تحقق هذا الإنجاز. لقد كانت توجيهاته واضحة منذ البداية: أن نخوض هذه المنافسة بروح التعاون، لا الصراع، وبثقة فى مكانة مصر ورسالتها الإنسانية.

أما إلى وزارة الخارجية المصرية، فأوجه خالص الشكر والتقدير على جهدها الدبلوماسى الدءوب، سواء من خلال وفدنا الدائم فى باريس أو من خلال بعثاتنا حول العالم. لقد كانت الوزارة العمود الفقرى للحملة، تدير التواصل وتنسق المواقف وتبنى التحالفات بروح احترافية ومسئولية وطنية عالية.

أما إلى فريق الحملة الانتخابية، فرسالتى هى كل الحب والتقدير والاعتزاز. لقد كانت هذه الحملة نموذجًا فى العمل الجماعى والانفتاح والحوار، حيث اعتمدت على التفاعل المباشر مع الدول الأعضاء، والاستماع إلى رؤاهم واحتياجاتهم، وليس فقط عرض رؤيتنا. كانت حملة إنسانية بقدر ما كانت دبلوماسية، تقوم على الثقة والاحترام المتبادل.

إننى أنظر إلى هذا الفوز كتكليف قبل أن يكون تشريفًا، ومسئولية مشتركة تستمر معنا جميعًا فى المرحلة المقبلة. فنجاح المدير العام المقبل لـ«يونسكو» هو نجاح لمصر، وللدبلوماسية العربية والإفريقية، ولكل من آمن بقدرة التعاون على تحقيق المستحيل.

■ ما الخطوط العريضة لأولوياتكم فى قيادة منظمة «يونسكو» خلال السنوات المقبلة؟

- رؤيتى لقيادة منظمة «يونسكو» خلال السنوات المقبلة تستند إلى قناعة راسخة بأن المنظمة يجب أن تكون أكثر قربًا من الدول الأعضاء، وأكثر تأثيرًا فى حياة الشعوب، من خلال التركيز على النتائج الملموسة والقياس الحقيقى للأثر على الأرض.

هناك أربع أولويات رئيسية سأعمل عليها:

أولًا- التعليم من أجل المستقبل:

الاستثمار فى التعليم هو الركيزة الأساسية للتنمية والسلام. سأعمل على تعزيز جودة التعليم، وضمان وصوله للجميع دون تمييز، مع التركيز على التحول الرقمى، وتدريب المعلمين، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل والمجتمع. كما يجب أن يكون لـ«يونسكو» دور ريادى فى دعم الدول الإفريقية والعربية فى إصلاح نظمها التعليمية، لضمان تعليم شامل وعادل ومستدام.

ثانيًا- حماية التراث الثقافى المادى وغير المادى:

سنعمل على تطوير آليات أكثر فعالية لحماية التراث فى أوقات النزاعات والكوارث، ودعم الدول الأعضاء فى إدارة مواقعها التراثية بأساليب مستدامة. وسأولى اهتمامًا خاصًا بإشراك الشباب والمجتمعات المحلية فى الحفاظ على تراثهم، باعتباره مصدر فخر وهوية وفرص تنمية اقتصادية من خلال السياحة الثقافية المستدامة.

ثالثًا- تعزيز حرية التعبير والوصول إلى المعلومات:

فى عالم متسارع التغير، تبرز أهمية الإعلام والمعرفة الموثوقة فى مواجهة خطاب الكراهية والأخبار الزائفة. ستواصل «يونسكو» دورها فى دعم حرية الصحافة، وحماية الصحفيين، وضمان وصول الجميع إلى المعلومات والمعرفة كحق أساسى من حقوق الإنسان.

رابعًا- إفريقيا فى قلب أولويات «يونسكو»:

سأعمل على أن تكون إفريقيا محورًا رئيسيًا فى سياسات المنظمة وبرامجها، ليس فقط بوصفها مستفيدة، بل شريك فى صنع القرار وتنفيذ المبادرات. فالقارة الإفريقية، بشبابها وإمكاناتها، تمثل مستقبل الإنسانية فى مجالات التعليم والثقافة والعلوم.

إلى جانب ذلك، سأحرص على تعزيز الحوكمة والشفافية والإدارة الفعّالة داخل المنظمة، بحيث يتم توظيف الموارد بأفضل شكل ممكن لتحقيق نتائج حقيقية على الأرض.

إن طموحى هو أن تكون «يونسكو»، خلال السنوات المقبلة، منظمة قريبة من الناس، حاضرة فى الميدان، وقادرة على تحويل قيمها النبيلة إلى واقع ملموس يلمسه كل إنسان، فى كل مكان.

■ هناك من يرى أن المنظمة تحتاج إلى «إعادة إنعاش» لدورها العالمى.. ما الملفات التى تعتبرونها عاجلة لإصلاح وتفعيل دور «يونسكو» على المستويات التعليمية والثقافية والبيئية؟

- أتفق تمامًا مع الرأى القائل إن «يونسكو» بحاجة إلى «إعادة إنعاش» لدورها العالمى، ليس لأن المنظمة فقدت قيمتها أو رسالتها، بل لأن العالم تغيّر بوتيرة غير مسبوقة، وأصبح من الضرورى أن تتطور آليات عملها، وأدوات تنفيذها، لتواكب هذا الواقع الجديد.

هناك ثلاثة ملفات عاجلة ومحورية أعتبرها أساس أى عملية إصلاح وتفعيل حقيقى لدور المنظمة:

أولًا- إصلاح منظومة التعليم العالمى:

يجب أن تستعيد «يونسكو» دورها القيادى فى صياغة رؤية عالمية للتعليم، رؤية تتجاوز حدود التوصيات إلى العمل الميدانى. نحن بحاجة إلى تعليم يواكب التحولات التكنولوجية والرقمية، ويزرع فى الأجيال القادمة قيم التسامح والسلام والابتكار.

سأعمل على تعزيز الشراكات بين المنظمة والدول الأعضاء والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية، من أجل توفير حلول عملية للتعليم فى المناطق المهمشة والمتأثرة بالنزاعات، وخاصة فى إفريقيا والدول النامية.

ثانيًا- تجديد مفهوم الثقافة كقوة موحِّدة:

الثقافة ليست ترفًا فكريًا، بل هى أداة فاعلة لبناء السلام والتنمية. «يونسكو» يجب أن تلعب دورًا أكبر فى حماية التراث الثقافى المهدد، وتشجيع الصناعات الإبداعية، وتوسيع مفهوم «الدبلوماسية الثقافية» كجسر للتفاهم بين الشعوب.

وسأولى اهتمامًا خاصًا بتمكين الشباب من خلال الثقافة، وتشجيعهم على أن يكونوا فاعلين فى حفظ تراثهم وصياغة مستقبلهم الثقافى.

ثالثًا- مواجهة التحديات البيئية والمناخية عبر العلوم:

العلم هو لغة المستقبل، والبيئة هى مسئولية الحاضر. تحتاج «يونسكو» إلى تسريع برامجها المتعلقة بالعلوم والبيئة، خاصة فى ما يتعلق بإدارة الموارد المائية، وحماية التنوع البيولوجى، وتعزيز مفهوم «الاستدامة الثقافية» فى مواجهة التغير المناخى.

يجب أن تكون المنظمة منصة لتبادل المعرفة والتجارب بين الشمال والجنوب، من أجل إيجاد حلول قائمة على العلم وتخدم الإنسانية جمعاء.

وأخيرًا، فإن إصلاح المنظمة داخليًا شرط أساسى لإنعاش دورها الخارجى. وهذا يتطلب إدارة أكثر كفاءة وشفافية، وتوجهًا واضحًا نحو تقييم الأثر الميدانى لكل برنامج.

رسالتى هى أن «يونسكو» يمكنها أن تكون أكثر من منظمة دولية؛ يمكنها أن تكون حركة عالمية حقيقية من أجل التعليم والثقافة والسلام- إذا عملنا معًا بروح الشراكة والإيمان بدورها.

■ هل هناك ملفات محددة تعتبرونها عاجلة لإصلاح وتفعيل دور المنظمة على المستوى الدولى؟

- نعم، هناك بالفعل عدد من الملفات العاجلة التى أعتبرها أولوية لإصلاح وتفعيل دور منظمة «يونسكو» على المستوى الدولى، لأنها تمس جوهر رسالتها وتأثيرها فى حياة الشعوب.

أول هذه الملفات هو التعليم.

يجب أن تستعيد «يونسكو» دورها القيادى فى رسم سياسات التعليم عالميًا، مع التركيز على جودة التعليم، والتحول الرقمى، وإتاحة التعليم للجميع دون تمييز، وخاصة فى الدول الإفريقية والنامية. التعليم هو الأساس لكل تنمية مستدامة وسلام حقيقى.

الملف الثانى هو الثقافة والتراث.

نحتاج إلى رؤية جديدة لحماية التراث الثقافى المادى وغير المادى، خاصة فى ظل النزاعات والتغير المناخى. كما يجب أن تعود الثقافة لتكون أداة للحوار بين الشعوب، ومجالًا لتمكين الشباب، لا مجرد موضوع للنقاش الأكاديمى.

أما الملف الثالث فهو تعزيز دور العلوم والابتكار.

«يونسكو» مطالبة اليوم بدور أقوى فى دعم البحث العلمى، وتشجيع التعاون الدولى فى مجالات المياه، والمناخ، والذكاء الاصطناعى، بما يضمن أن يكون التقدم العلمى فى خدمة الإنسان والبيئة معًا.

وأخيرًا، هناك ملف الإصلاح الداخلى للمنظمة.

من الضرورى أن نعزز كفاءة الإدارة وشفافيتها، وأن نوجه مواردنا نحو البرامج ذات الأثر المباشر، مع تطوير آليات لقياس نتائج عملنا على الأرض.

إن الهدف ليس فقط إصلاح هيكل، بل إعادة تنشيط روح «يونسكو» كمؤسسة قادرة على إحداث فرق حقيقى فى التعليم والثقافة والعلوم، وفى تعزيز القيم الإنسانية التى وُجدت من أجلها.

■ كيف ترون مستقبل التعاون بين «يونسكو» والدول النامية، خصوصًا فى مجالات التعليم وحماية التراث؟

- أؤمن بأن مستقبل «يونسكو» يعتمد بدرجة كبيرة على مدى قدرتها على بناء شراكات حقيقية مع الدول النامية، تقوم على الإنصات لاحتياجاتها ودعم أولوياتها الوطنية، لا فرض برامج جاهزة من الخارج.

فى مجال التعليم، سأعمل على أن تكون «يونسكو» أكثر حضورًا فى الميدان، من خلال برامج عملية تركز على جودة التعليم، وتدريب المعلمين، وتوسيع فرص التعليم الرقمى، خصوصًا فى المناطق الريفية والمجتمعات المهمشة. التعليم فى الدول النامية ليس مجرد هدف، بل هو مفتاح التنمية والسلام، وأداة لتمكين الأجيال المقبلة من صناعة مستقبلها.

أما فى مجال حماية التراث، فسنواصل دعم الدول النامية فنيًا وتقنيًا للحفاظ على مواقعها الأثرية والتراثية، سواء تلك المدرجة على قائمة التراث العالمى أو المرشحة للإدراج.

وسأولى أهمية خاصة لتعزيز القدرات المحلية، بحيث يصبح أبناء هذه الدول شركاء حقيقيين فى إدارة تراثهم، لا مجرد متلقين للمساعدة. كما سنعمل على ربط حماية التراث بالتنمية المستدامة والسياحة الثقافية المسئولة، بما يعود بالنفع المباشر على المجتمعات المحلية.

إيمانى العميق بأن الدول النامية لا تحتاج إلى مزيد من الخطابات، بل إلى شراكات قائمة على الثقة والتكامل وبناء القدرات.

ولهذا، سأحرص على أن تكون «يونسكو» منصة لتبادل المعرفة والخبرة بين الشمال والجنوب، وأن تكون إفريقيا والعالم العربى فى قلب استراتيجيات التعاون الجديدة.

إن مستقبل التعاون بين «يونسكو» والدول النامية هو فى الحقيقة مستقبل المنظمة ذاتها- لأن ازدهار هذه الدول هو الضمان الحقيقى لتحقيق رسالة «يونسكو» فى بناء السلام من خلال التعليم والثقافة والعلوم.

■ ما رؤيتكم لتعزيز تمكين المرأة والشباب؟

- تمكين المرأة والشباب ليس بندًا فرعيًا فى رؤيتى، بل هو محور أساسى فى فلسفتى للعمل داخل منظمة «يونسكو».

أنا أؤمن بأن أى مشروع للتنمية أو للسلام لا يمكن أن ينجح ما لم يكن قائمًا على إشراك المرأة والشباب بوصفهم شركاء حقيقيين فى صناعة القرار، لا مجرد مستفيدين من نتائجه.

بالنسبة للمرأة، هدفى هو أن تكون مشاركتها فى مختلف مجالات التعليم والثقافة والعلوم مساهمة كاملة ومتساوية. وسأعمل على توسيع برامج «يونسكو» الخاصة بتعليم الفتيات، وتمكين المرأة فى البحث العلمى، ودعم المبدعات فى مجالات الفنون والتراث والثقافة الرقمية. فالمرأة ليست فقط حاملة للثقافة، بل صانعة لها، وقائدة فى مجتمعاتها.

أما الشباب، فهم الطاقة الدافعة للمستقبل. رؤيتى تقوم على إشراكهم فى صياغة السياسات وتنفيذ المبادرات، وليس الاكتفاء بتقديم البرامج لهم.

سأعمل على إطلاق مبادرات جديدة داخل «يونسكو» لتعزيز ريادة الشباب فى مجالات الابتكار التكنولوجى، والتعليم الإبداعى، وحماية البيئة، وحفظ التراث، لتكون المنظمة منصة تُسمِع أصواتهم وتمنحهم الفرصة للتأثير فى مجتمعاتهم.

أؤمن بأن الاستثمار فى المرأة والشباب هو استثمار فى السلام، لأنهما معًا يمثلان الضمير الحىّ للعالم.

ومن هذا المنطلق، سأحرص على أن تكون كل برامج وسياسات «يونسكو» فى السنوات المقبلة ذات عدسة إنسانية شاملة تراعى تكافؤ الفرص، وتفتح المجال أمام الأجيال الجديدة لتقود التغيير بروح المشاركة والإبداع.

■ كيف يمكن تعزيز حضور المنظمة فى الدول النامية، لا سيما فى إفريقيا والعالم العربى، بما يضمن عدالة توزيع المعرفة وحماية التراث الإنسانى؟

- عزيز حضور «يونسكو» فى الدول النامية، خصوصًا فى إفريقيا والعالم العربى، هو أولوية محورية فى رؤيتى، لأنه لا يمكن أن تتحقق عدالة توزيع المعرفة أو حماية التراث الإنسانى ما لم تكن المنظمة قريبة من المجتمعات التى تخدمها.

أول ما يجب القيام به هو تحويل وجود «يونسكو» من مؤسسى إلى ميدانى.

أى ألا تقتصر أنشطتها على المقرات والمكاتب الإقليمية، بل تمتد فعليًا إلى المناطق التى تحتاج إلى الدعم. وسأعمل على توسيع شبكة مكاتب «يونسكو» الميدانية، وتزويدها بالموارد البشرية والتقنية اللازمة، لتصبح نقاط تفاعل حقيقية مع الحكومات والمجتمعات المحلية.

ثانيًا: تحقيق عدالة توزيع المعرفة.

يجب أن تكون برامج «يونسكو» التعليمية والعلمية مفتوحة وميسّرة للجميع، من خلال تعزيز التعليم الرقمى، وتوسيع مبادرات «الموارد التعليمية المفتوحة»، ودعم الابتكار المحلى. المعرفة يجب أن تكون حقًا عالميًا، وليست امتيازًا لدول أو مؤسسات بعينها.

ثالثًا: حماية التراث الإنسانى فى إفريقيا والعالم العربى.

هذه المنطقة تزخر بتراث إنسانى فريد، لكنها أيضًا من أكثر المناطق تعرضًا للمخاطر- من النزاعات إلى التغير المناخى.

سأحرص على أن تكون هناك آليات طوارئ أكثر فاعلية للتدخل السريع فى حماية التراث، مع دعم القدرات المحلية فى الترميم والإدارة المستدامة للمواقع الأثرية.

كما أرى ضرورة ربط حماية التراث بالتنمية الاقتصادية، عبر تشجيع السياحة الثقافية المسئولة التى تعود بالنفع المباشر على المجتمعات المحلية.

وفى النهاية، فإن تعزيز حضور المنظمة فى الدول النامية لا يعنى مجرد زيادة مشاريعها، بل إعادة صياغة علاقتها بهذه الدول على أساس الشراكة الحقيقية والاحترام المتبادل.

يجب أن تستمع «يونسكو» أكثر، وأن تبنى سياساتها على احتياجات الدول الأعضاء وأولوياتها، لا العكس.

رسالتى أن إفريقيا والعالم العربى لا ينبغى أن يكونا هامشًا فى منظومة «يونسكو»، بل فى قلبها- لأنهما يحملان جزءًا أصيلًا من ذاكرة الإنسانية ومستقبلها فى آن واحد.

■ ما رأيكم فى مفهوم «الدبلوماسية الثقافية»؟ وهل يمكن أن تصبح «يونسكو» منصة للحوار بين الشعوب بدلًا من مجرد هيئة أممية؟

- أؤمن بأن «الدبلوماسية الثقافية» ليست مجرد أداة مكملة للسياسة الخارجية، بل هى أحد أنبل أشكالها، لأنها تقوم على بناء الثقة لا على فرض المصالح، وعلى التقريب بين الشعوب لا التنافس بينها.

الثقافة قادرة على تحقيق ما تعجز عنه السياسة فى كثير من الأحيان، لأنها تخاطب الإنسان فى جوهره، وتتجاوز الحدود واللغات والانتماءات.

من هذا المنطلق، أرى أن «يونسكو» هى المكان الطبيعى لتجسيد الدبلوماسية الثقافية فى أعلى صورها. فهى ليست فقط هيئة أممية تُعنى بالتعليم والثقافة والعلوم، بل منصة عالمية تجمع الدول حول ما يوحّدها بدلًا مما يفرّقها.

ما تحتاجه «يونسكو» اليوم هو أن تتحول من منظمة تُصدر التوصيات إلى جسرٍ حيّ للحوار والتبادل الثقافى والفكرى، وأن تُسهم بفاعلية فى بناء الثقة بين الشعوب عبر المعرفة والاحترام المتبادل.

وفى رؤيتى، ستعمل المنظمة على تعزيز هذا الدور من خلال برامج مشتركة تجمع بين الفن والتعليم والتراث والإعلام، وتمكّن الشباب والمبدعين من التواصل وتبادل الخبرات، ليصبحوا سفراء للقيم الإنسانية التى تمثلها «يونسكو».

إن «الدبلوماسية الثقافية» ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة فى عالم يزداد انقسامًا. فهى طريقنا لإعادة الإنسانية إلى مركز العلاقات الدولية، وجعل الحوار هو اللغة التى توحد العالم بدلًا من الصراع.

■ فى عالم يشهد تصاعد خطاب الكراهية ما الدور الذى يمكن أن تلعبه «يونسكو» فى ترسيخ قيم التسامح والاحترام المتبادل؟

- فى عالم تتسارع فيه التحولات وتتعمق فيه الانقسامات، يبرز دور «يونسكو» أكثر من أى وقت مضى كحارس للقيم الإنسانية المشتركة، وكمنبر للحوار لا للصراع. تصاعد خطاب الكراهية والتعصب هو تهديد مباشر ليس فقط للسلم الاجتماعى، بل أيضًا لجوهر عمل المنظمة التى تأسست على مبدأ أن السلام يبدأ فى عقول البشر.

من هذا المنطلق، أرى أن دور «يونسكو» فى ترسيخ التسامح والاحترام المتبادل يجب أن يكون عمليًا وتربويًا فى آنٍ واحد.