الأربعاء 10 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كنز الأرشيف الصحفى.. احتفاء خاص من حرف بمئوية المصور وروز اليوسف (2)

فى حَضرَة زعيم الهند الأكبر غاندى.. متى فكر فى استقلال بلاده؟

غاندى
غاندى

«ربعة القامة، نحيل الجسم، أسمر اللون، صغير الوجه، هادئ العينين، كبير الأذنين، حليق الذقن، خفيف الشاربين - هذا هو غاندى، زعيم الهند الأكبر كما رأيناه.

وهو كثير الابتسام، وإذا ابتسم افتر ثغره عن أسنانه كلها وقد فقد الأمامية منها ولم يستعض عنها بغيرها قانعًا بأضراسه.

وإذا ابتسم شعرت أن ابتسامته طبيعية، وأن الرجل الماثل أمامك طيب القلب، وقد أجمع الذين شاهدوه على أنه يضحك كالأولاد، وهو يحب الأولاد ويداعبهم ويلعب معهم، وقد كان هذا شأنه مع الأولاد الذين كانوا مسافرين مع أهلهم بالباخرة عينها».

كان غاندى جالسًا على مقعد من الخشب على ظهر الباخرة لما صعدنا إليها واتجهنا نحوه لتحيته وسماع حديثه، وقد جلست السيدة نايدو، زعيمة الحركة النسائية فى الهند، إلى يساره وجلست المس سليد الإنجليزية إلى يمينه يحيط بهم بعض أنصار الزعيم وأتباعه.

وما كدنا نطأ أرض الباخرة ونسير على ظهرها خطوات حتى وصلنا إلى المكان الذى كان غاندى جالسًا فيه، فلما لمحنا نهض واقفًا، ثم بسط لنا يده مسلمًا فصافحنا الرجل الذى سيغير تاريخ أعظم إمبراطورية فى العالم، ثم سلمنا على السيدة نايدو، وكانت السيدة هدى هانم شعراوى باشا قد تلطفت، فعرفتنا بها فى برلين، فى أثناء انعقاد المؤتمر النسائى الدولى فى صيف سنة ١٩٢٩، فقدمتنا حضرتها بدورها للمس سليد.

وكان غاندى عارى الرأس كعادته، كما أن صدره وظهره كانا عاريين أيضًا، ولم يستر من جسمه سوى الجزء الأسفل منه بمئزر مصنوع من القطن الهندى يصل حتى ركبته، ولم يلبس فى رجليه سوى خفين من الجلد، صنُعا بشكل «سندال» من الجهة الأمامية فقط، أما من الجهة الخلفية فكانا بدون «حاجز» (رفرف) فكانا أقرب إلى الشبشب العادى منهما إلى السندال.

وعلق الزعيم فى منطقته ساعة من النيكل كالساعات التى يحملها العمال فكان، منظرها فوق مئزره من أغرب المناظر، وقد كانت هذه الساعة الشىء الوحيد الذى يحمله إذا استشففنا نظارته، وقد صنعت من الفضة، وقسم زجاجها إلى قسمين: قسم يسهل لغاندى القراءة عن كثب، وقسم يمكنه من رؤية المناظر البعيدة بدون تعب، ولذلك تراه إذا أراد أن يطالع كتابًا أو جريدة حوّل نظره إلى الجزء الأسفل من النظارة، فى حين أنه إذا شاء أن يحدق بك نظر إليك من خلال الجزء الأعلى منها.

ويحيى غاندى زائريه من غير الهنود بمصافحتهم، أما الهنود فيحييهم ويحيونه على الطريقة الهندية القديمة، وذلك بأن يضم كل منهم راحتى كفيه الواحدة إلى الأخرى ويرفعها أمام وجهه، فيرد له الآخر التحية بالطريقة عينها، وقد كان بعض أنصار غاندى يغالون فى هذه التحية، فيضم الواحد منهم راحتى كفيه وينحنى إلى الأرض بين قدمى الزعيم، ثم ينهض تدريجيًا وهو يرفع يديه إلى أن تصلا إلى وجهه.

وقد لاحظنا أن بعض مستقبليه كانوا يقبلون على يد الزائر العظيم ويلثمونها، فكان هو بعدما يصافح كلا منهم يضم يديه إحداها إلى الأخرى ويرفعهما أمام وجهه وهو يبتسم للدلالة على شكره وامتنانه.

غاندى وسر احتفاظه بصحته

وقد كنا والمستر مرتن من مكتب «الديلى تلجراف» أول من صعد إلى الباخرة وقابل الزعيم الأكبر وحادثه، ولما كنا نعلم أن سائر الزملاء سيلحقون بنا بعد دقائق وينهالون عليه بوابل من الأسئلة، كان أول ما عملناه أن قدمنا له الدفتر الذى تسجل فيه خطوط العظماء الذين يتاح لنا مقابلتهم، ورجونا منه أن يخط عليه بعض كلمات بخط يده لنشرها على صفحات «المصور» كتذكار لمروره بالأراضى المصرية فتلطف وأخذ منا الدفتر وجلس على المقعد، ثم تناول القلم وكتب: «مع أطيب تمنياتى» وذيّل ذلك بإمضائه، فاسترددنا الدفتر شاكرين له رقته ولطفه.

■ وسألنا غاندى بعد ذلك هل شعر بتعب فى أثناء رحلته؟

- فقال: «كلا، لحسن الحظ فقد كان البحر هادئًا بوجه الإجمال».

■ فسألناه: «وهل لا تخشون البرد فى المساء وأنتم لا تلبسون ما يدفع شره عنكم»؟

- فابتسم وقال: «إن المسألة مسألة عادة، وعلى كل حال إننى أضع هذا المشلح على ظهرى وصدرى على المقعد، فإذا به عبارة عن شال كبير أبيض اللون مصنوع من القطن، فقلنا:

■ وإلى أى شىء تعزون قوة بنيتكم واحتفاظكم بنشاطكم؟

- فقال: «إلى دأبى على المشى الطويل وإلى إمساكى عن أكل اللحم وشرب الخمر وامتناعى عن التدخين، ولو كنت قد فطنت إلى أهمية الرياضة وأنا فتى، لكانت صحتى أحسن الآن، ولكننى لما كنت فى سن الفتيان لم أكن أقوم برياضة ما، غير أننى صرت أرى بعد ذلك أنه يجب على المربين أن يعنوا بتربية الفتى البدنية كما يعنون بتربيته العقلية». وهنا سكت غاندى لحظة، ثم قال وهو يبتسم: «وعلى كل حال إننى لست ضعيفًا كثيرًا كرجل عمره واحد وستون سنة»، فضحك السامعون، وتمنينا له دوام الصحة والعافية.

■ متى فكر فى استقلال الهند؟

- وقلنا لغاندى بعد ذلك: «عندنا سؤال نطمع فى طرحه عليكم ولكننا لم نعلم إذا كنتم ترومون الإجابة عليه فى الوقت الحاضر»، فقال: «وما عسى أن يكون هذا السؤال»؟

■ فقلنا: هل لكم أن تخبرونا متى فكرتم فى استقلال بلادكم لأول مرة؟

- فقال: «منذ كنت تلميذًا فى العقد الثانى من عمرى، فإن أحد زملائى حرّضنى على أكل اللحم، ولكى يغوينى قال إن اللحم يغذى كثيرًا ويقوى كثيرًا، فترددت فى الانصياع له: لأننى كنت أعلم أن شريعتى تنهى عن أكل اللحم، ولكننى لما سمعت أن اللحم يغذى كثيرًا ويقوى كثيرًا، قلت إذا أكلت أنا لحمًا وأكل مواطنى اللحم كذلك فإننا نصبح أقوياء وبذلك يمكننا أن نتغلب على الإنجليز ونخرجهم من بلادنا»، وهنا ابتسم غاندى وهو يعيد لنا تلك الذكريات القديمة، ثم قال: «غير أننى شعرت بعد ذلك أنه إذا علم والداى أننى أذوق اللحم فإن حزنهما يكون عظيمًا، ولما كنت شديد التعلق بهما لم أشأ أن أسبب لهما هذا الكدر، فأمسكت عن أكل اللحم، ومن ذلك الحين لم أذق اللحم بتاتًا، ومن حسن الحظ أنه تبين لى بعد ذلك أن إخراج الإنجليز من الهند لا يتوقف على أكل اللحم».

ومما هو جدير بالذكر أنه لما قرر غاندى وهو شاب أن يذهب إلى إنجلترا وينتظم فى جامعة أكسفورد ليتلقى علومه العالية فيها ليدرس الحقوق، طلبت إليه والدته أن يقسم أمامها بألا يشرب الخمر ولا يذوق اللحم ولا يعاشر النساء طول مدة إقامته فى بلاد الإنجليز، فأجابها إلى طلبها، وأقسم أمامها بذلك وبر بقسمه، وقد أخبرتنا المس سليد أن المهاتما لا ينوى أن يغير شيئًا من نظام معيشته فى هذه الرحلة أبدًا غير أنه قد يضطر إلى زيادة ملابسه ليقى نفسه من برد إنجلترا.

البذل فى الحركات الوطنية

وانتهزنا هذه الفرصة لنسأل غاندى عن العامل الذى يعزو إليه نجاح الحركة الهندية؟

- فقال : «إذا أراد شعب أن ينجح فى حركة كالحركة التى قمنا بها، وجب عليه أن يؤمن بعدالة مطالبه وأمانيه، فإذا وجد هذا الإيمان كان النجاح محققًا، إن عاجلًا أو آجلًا، لأن مَن كان له إيمان فى شىء، فهو على استعداد للبذل فى سبيل هذا الشىء بدافع من إيمانه، والبذل فى الحركات الوطنية والقومية أساس النجاح، ونحن مؤمنون بعدالة قضيتنا، وقد كنا دائمًا على استعداد للبذل من أجلها.

■ وبهذه المناسبة ، سألنا المهاتما غاندى عن نصيحة للشعوب الشرقية التى تجاهد فى سبيل حريتها واستقلالها؟

-فقال: «إننى أنصح هذه الشعوب بالتذرع بالصدق وعدم التوصل بأعمال العنف، فإننى أمقت استعمال القوة وأستهجن التصرفات المبنية على العنف، فإن جميع الشعوب إخوة فى الإنسانية، وعندى أنه كلما سمت أخلاق شعب ازداد.. الواجبات الملقاة على عاتقه نحو الإنسانية».

ومضى زعيم الهند الأكبر فى حديثه، فقال: «ومن السهل أن ينفخ المرء فى بوق الثورة وأن يشعل نار الثورة، ولكن مهمة الزعماء الرئيسية تنطوى على تنظيم الثورة، وهذا أشق المهام وأصعبها، ولكنها مهمة لا مندوحة عن تحقيقها، إذا أريد إحاطة الثورة بعوامل النجاح».

ولما أردنا أن نودع المهاتما غاندى، قلنا له: «إننا ندعو لكم بالتوفيق والنجاح» فقال: «شكرًا، وإننى كذلك أتمنى لكم ولكل شعب شرقى أطيب التمنيات». 

وانهال الصحفيون على الزعيم العظيم بوابل من أسئلتهم، ولما اشتد الزحام حوله نصحت له الزعيمة نايدو بالوقوف على المقعد الخشبى كى يتسنى للجميع مشاهدته، فعمل بنصيحتها وخلع خفيه من قدميه وقفز إلى المقعد ووقف عليه يرد على تحيات المعجبين به وهو يبتسم ويحييهم ببساطة.. ولكنها بساطة العظمة الصحيحة والوطنية الحقيقية.

وبعد قليل أقلعت الباخرة تحمل «الرجل»، ليقول كلمته «للدولة».. فماذا تكون هذه الكلمة يا ترى؟.

حوار: كريم ثابت نشر فى 11 سبتمبر 1931