ميسرة صلاح الدين: إدوار الخراط جعل الكتابة أداة مقاومة
- ابن الإسكندرية كاتب شديد الثراء.. وتقديم كتاب عنه تحدٍ كبير
- الإبداع كان ولا يزال وسيظل ولا يُقاس بالمتر أو الأوقية
- عمل على كسر «الكلاسيكية الثقافية» السائدة فى الخمسينيات والستينيات
- لم يرضخ لظلم أو استعمار.. وعبّر عن عمق المجتمع بحوار فلسفى صوفى
فى أواخر نوفمبر الماضى أصدر الكاتب والشاعر والمترجم ميسرة صلاح الدين كتابه الجديد «إدوار الخراط: مغامرة الفكر وسيرة الكتابة»، عن سلسلة «تراث الإنسانية»، التابعة لمكتبة الإسكندرية.
الكتاب مثّل محفزًا للعودة إلى سيرة ومسيرة ومحطات، وحياة وموت، وفرح وبهجة وفواجع، واجهها الكاتب القدير الراحل إدوار الخراط، بالتزامن مع الذكرى العاشرة لرحيله، فى ديسمبر 2015.
فى الحوار التالى مع «حرف»، يتحدث ميسرة صلاح الدين، ابن الإسكندرية، عن أبرز المحطات الفارقة فى حياة ابن مدينته الراحل، الكاتب الكبير صاحب مقولات «الحساسية الجديدة» و«الكتابة عبر النوعية» و«الكتابة العابرة للأنواع»، والذى عمل على كسر «الكلاسيكية الثقافية» السائدة فى الخمسينيات والستينيات، ويمكن اعتباره أول «كاتب مصرى سكندرى مسيحى صوفى».

■ إصدار كتاب عن إدوار الخراط.. هل الفكرة مبادرة شخصية منك أم جاءت من مكتبة الإسكندرية؟
- كنت أتابع منذ فترة طويلة إصدارات مكتبة الإسكندرية بشكل عام، وسلسلة «تراث الإنسانية» الموجهة للنشء والشباب خاصة. بالنسبة لى، هذه السلسلة ليست مجرد منشورات بقدر ما هى مشروع ثقافى وتاريخى ضخم، يحمل رسالة معرفية مهمة فى لحظة زمنية صعبة مليئة بالتحولات والتحديات.
متابعة هذه السلسلة شجعتنى على تقديم مجموعة من الاقتراحات إلى مكتبة الإسكندرية. أردت أن أشارك فى هذا المشروع العملاق الذى جمع العديد من رموز الثقافة والفن والأدب فى مصر والعالم العربى، وكذلك شخصيات بارزة فى مجالات العلم والسياسة، وبعض الشخصيات العالمية المتميزة. ولحسن الحظ نالت اقتراحاتى موافقة إدارة المكتبة، والقائمين على السلسلة، ووجدت منهم دعمًا كبيرًا واحترافية عالية فى التعامل مع المشروع.
أردت أن أقدّم أعمال المستهدفين بطريقة يستطيع الباحث والمثقف فهمها والاستفادة منها، دون أن تكون سطحية أو مملة، وأيضًا دون أن تكون عميقة لدرجة الغموض. كان هدفى خلق توازن بين أن يظل المحتوى غنيًا وعميقًا، لكنه فى الوقت نفسه مقروء وجاذب للنشء والشباب والباحثين على حد سواء.
ركزت فى البداية على شخصية إدوار الخراط، وكان هذا تحديًا كبيرًا، فهو كاتب شديد الثراء الفكرى، شخصية عميقة، وصعب المراس. لكن هذا التحدى دفعنى للتعمق فى شخصيته وأعماله، ومحاولة تقديمه بطريقة واضحة وجذابة، تتوافق مع روح السلسلة والجمهور المستهدف.

■ ماذا يعنى لك الكاتب إدوار الخراط على المستوى الشخصى والفكرى؟ وهل ترى تقاطعات أو نقاط التقاء بين مسارات أعمالك وأعماله؟
- العمل على كتاب «إدوار الخراط: مغامرة الفكر وسيرة الكتابة» كان حافزًا حقيقيًا لى على إعادة قراءة أعماله الفكرية والنقدية والإبداعية، والاطلاع على تجربته الذاتية بشكل معمق. ساهم ذلك بلا شك فى زيادة تقديرى لتجربته المغايرة، التى قامت على محاولة خلق تيار من الوعى، وكسر حالة الكلاسيكية التى سادت على أجواء الأوساط الثقافية المصرية فى فترتى الخمسينيات والستينيات.
كان «إدوار» ابن جيله، يعى اللحظة الفارقة التى يعيش بها، ويدرك أهمية النضال من أجل التحرر الفكرى والثقافى والاجتماعى، وهو ما جعله فى منطقة تخصه وحده. ولعل أبرز ما يميز أعماله، خاصة الإبداعية، هو قدرته على التعبير عن عمق المجتمع المصرى وتياراته بحوار فلسفى صوفى، ولعلها قدرة اكتسبها من معشوقته مدينة الإسكندرية، التى جمعت الأضداد فى تناغم فريد.
ربما لا تشبه تجربتى فى الشعر والمسرح تجربة «الخراط» فى الرواية والقصة. لكننى سرت على دربه فى التأثر بالإسكندرية، والتعبير عنها وعن تنوعها وثرائها الثقافى، وحاولت أن أتمرد بطريقتى على أشكال الكتابة السائدة، خاصة فى شعر العامية والمسرح، كمحاولة لأن أخلق لنفسى بصمة تشبهنى.
لقد كان «الخراط» ملهمًا على مستويات عدة، فقد كان عائلًا لأسرته فى مراحل شبابه، بعد وفاة والده تحديدًا، وكان أديبًا ذا رسالة، ومقاومًا للاستعمار، وهو ما يليق بمثال يُقدم لشباب مصر.

■ بعد مرور ١٠ سنوات على رحيل إدوار الخراط، ما الرسالة أو القيمة التى يجب أن نستخلصها من سيرته اليوم لتقديمها للنشء والشباب؟
- فكرة التحرر الشامل والنظرة الشمولية نحو المستقبل هى بالفعل مضمون رحلة إدوار الخراط ورسالته. لقد أعلن عن هذه الرؤية عبر كتاباته النقدية فى مصطلح «الحساسية الجديدة»، الذى يعنى ضرورة أن يكون الإنسان واعيًا بعصره وتحولاته، وقادرًا على مواكبة حاضره ومستقبله.
لقد كان «الخراط» متحررًا فى منطقه الفكرى، ومتحررًا فى كتاباته، ومتحررًا فى لغته، ولم يتقيد بالشكل التقليدى. وعلى الجانب الإنسانى، لم يرضخ لظلم أو استعمار، بل جعل الكتابة أداة للمقاومة.
كل هذه الصفات تشكل نموذجًا متكاملًا يجب أن ينظر له الشباب بعين التقدير، ويستلهمون منه ما يناسب عصرهم، من خلال مسيرة تجسد الوعى النقدى الجديد، الذى يجمع بين التجربة الفردية والأصالة التاريخية.
■ هل يمكن اعتبار الإسكندرية هى «المعشوقة» التى منحت تجربته الأدبية بُعدها الفلسفى الصوفى؟
- علاقة إدوار الخراط بالإسكندرية مصيرية ومحورية، فقد ارتبطت طفولته المبكرة وشبابه بالمدينة ارتباطًا شديدًا، وتحديدًا فى منطقة «غيط العنب»، وأمضى سنواته التعليمية فى مدارس الإسكندرية العريقة، بين «كرموز» و«غيط العنب» و«حى محرم بك»، وفيها ارتاد مكتبة البلدية فى صباه وشبابه.
هناك كان حبه الأول ووظيفته الأولى ودموعه الأولى، وهناك أيضًا بدأت رحلته مع الفن والإبداع. ولعل المصادفة المدهشة قادتنى، أثناء رحلة البحث، لاكتشاف أننا كنا من أبناء مدرسة واحدة، فكلانا حصل على شهادته الثانوية من مدرسة «العباسية الثانوية» العريقة، فى حى «محرم بك».
استطاع «الخراط» من خلال أعماله أن يوثق الإسكندرية، ويوثق حياته وأفكاره، بالمزج بين الواقع والخيال. لكن الأهم من كل ذلك أنه لمس روح المدينة «الكوزموبوليتانية» العميقة، فكان كاتبًا مصريًا سكندريًا مسيحيًا صوفيًا، يتحاور مع الجميع، ويهبهم من روحه وفكره، ويسمح لأبطاله بالتعبير عن الاختلاف وتقبله.

■ بصفتك أحد كُتَّاب الإسكندرية المقيمين فيها.. كيف تصف الحياة الثقافية فى المدينة حاليًا؟
- الإسكندرية لا يمكن إنكار كونها العاصمة الثانية لمصر، وعاصمة للثقافة العربية والمتوسطية على حد سواء، هى قديمة قدم التاريخ، وتزخر بجذور مصرية قديمة ويونانية ورومانية ما زالت تورق بالثمار. وككاتب ومترجم أجد متعة كبيرة فى العمل هنا، إذ توفر الحياة فى الإسكندرية فرصة عظيمة لصب الاهتمام كله على العمل والإبداع بعيدًا عن خلق العلاقات والاندماج فى «الشلل الثقافية» التى كثيرًا ما تميز القاهرة. التموضع البعيد عن المركز الثقافى فى القاهرة خلق مسارات إبداعية متفردة، تميزت بروح المدينة «الكوزموبوليتانية» العميقة، التى لمسها إدوار الخراط فى فنه، فقد كان وعيه بالمدينة مصدرًا لتحريره الفكرى. هو لم يكتب عن الإسكندرية كخلفية جغرافية وحسب، بل كفضاء وجودى ومرآة تعكس التعددية والتوتر الداخلى والإنسانى.
هذا المسار المغاير تجسد فى تجارب روادها الكبار، الذين أقاموا فيها أو انطلقوا منها، فإبراهيم عبدالمجيد نجح فى خلق كيان أدبى قوى له بصمته الروائية الخاصة، وهو مقيم فى الإسكندرية، وعزز مكانته بعد إقامته فى القاهرة لاحقًا. بينما يمثل الأديب الروائى الكبير مصطفى نصر مثالًا للتحدى والصمود، بعدما أصبح من أعلام الكتابة المصرية والعربية وهو لم يبرح مدينته، مُخلصًا لروحها الخاصة.

■ كيف يجد الأدب اليوم مساره بين المصير والعدم، فى عصر سيطرة المادة والآلة، وتزايد صراعات الهوية والمعتقد على حساب المعنى؟
- لا يمكن القول بأننى ككاتب وشاعر قد تفاجأت بعصر المادة والآلة، فقد بشّرتنا به عشرات الأقلام والفنانين من عقود عدة. بل ربما ساهم عملى فى مجال التكنولوجيا وتحليل البيانات بشكل كبير فى تعميق إدراكى لأهمية اللحظة التى نعيش بها وخطورتها فى آنٍ واحد.
يمكننا أن نستسلم للآلة ونترك لها تحديد المسار وقيادة الطريق، أو أن نتمسك بإنسانيتنا ونتمرد على ضعف إرادتنا وهشاشتها، وأن نلتزم بالمسار الذى رسمناه لأنفسنا بغض النظر عن دقة النتائج أو حتى تأثيرها.
المصير الإيجابى يكمن فى إدراك أن الإبداع كان إبداعًا وما زال إبداعًا وسيظل كذلك، فهو ليس أمرًا كميًا يُقاس بالمتر أو الأوقية، لكنه أمر لا مادى خالص، لكنه ذو تأثير ملموس وعميق على الوجود، ومن هنا ينبع خلود الكاتب، فالخلود لا يُقاس بالمبيعات، بل بقدرة العمل على تفكيك الزمن، وكسر القيود التقليدية التى نادى بها «الخراط»، فالعمل الذى يحرر لغته ورؤيته هو وحده القادر على أن يمتد عبر الأجيال متجاوزًا ضجيج عصره.
لو أثرت القصيدة فى شخص واحد، حتى لو كان كاتبها فقط، فقد نجحت وأصبحت عظيمة الجدوى. وعليه فإن الأدب يجد مساره بين المصير والعدم حين يرفض أن يكون مجرد أداة، ويتخذ من التجريب والوعى والإرادة الحرة موقفًا فلسفيًا ثابتًا ليعيد تأكيد خلوده فى زمن الآلة.

■ أنت شاعر وكاتب مسرحى و«دراماتورج» ومترجم وموثّق.. هل يمثل هذا التعدد «ثراءً» أم «تشتتًا»؟
- التعدد فى مسارات العمل الثقافى والفنى ليس «تشتتًا»، بل هو تجسيد عملى لفكرة التحرر الشامل، التى ورثناها عن رواد الحداثة. لقد بدأت هذه الرحلة الإبداعية بإصدار ديوانى الأول «أنا قلبى مش فارس» عام ٢٠٠٢، وتوالت بعدها الأعمال المسرحية والشعرية والترجمات.
لا أعد ذلك التنوع «تشتتًا» بأى حال، فالشعر والمسرح هما فى الحقيقة وجهان لعملة إبداعية واحدة. الشاعر يكتب نصًا مسرحيًا يخلص للقصيدة، والكاتب المسرحى هو شاعر يكتب نصًا متعدد الأصوات.
هذه التجربة بين الشعر والمسرح و«الدراماتورجيا» والتوثيق والترجمة تمثل إيمانًا عميقًا بمفهوم «الكتابة عبر النوعية»، فالأفكار الكبرى لا يمكن حصرها فى قالب جامد واحد، بل تنطلق فى مساحات مفتوحة لتحقيق أقصى درجات التأثير الشعرى والفنى.
■ ما المسار الذى تجد فيه سلوتك وخلاصك الإبداعى؟
- مع أننى قد أفضّل القصيدة أحيانًا، فهى شديدة الخصوصية والالتصاق بالذات، أحب أن أترجم لأتقمص حياة الآخرين وأتحدث بألسنتهم، وأحب أن أرى شخصياتى تتجسد وتدب فيها الحياة على خشبة المسرح. هذا التنوع يمنح الكاتب المعاصر المرونة اللازمة لمواجهة تطورات الحياة، والتعبير عن مفاهيمها الجديدة.

■ ما الدوافع المنهجية والفكرية التى قادتك للخوض فى مجال التوثيق تحديدًا؟
- أعمل فى مجال التوثيق بشكل منتظم منذ ٢٠١٢. بدأت رحلتى مع التوثيق لشخصيات من الذاكرة المصرية بمشروع «زجلوتير»، الذى عبّرت من خلاله بمقطوعات زجلية مصحوبة بـ«كاريكاتير» يمثل تلك الشخصيات التى أثرت فى الهوية المصرية، مثل فؤاد حداد ومحمود شكوكو وطلعت حرب وإبراهيم الرفاعى ويحيى حقى وغيرهم.
تطورت التجربة وأخذت شكلًا آخر فى مشروع «الأسطوات»، الذى صدر مؤخرًا على هيئة كتاب يجمع سيرة وأعمال ١٠ من شعراء الأغنية الذين شكلوا المشهد الغنائى المصرى فى عصره الذهبى بتياراته المختلفة.
عزز هذا التنوع فى الوسائط، والتنقل بين الزجل والكتاب والفيلم الوثائقى، إيمانى بأن التوثيق يجب أن يكون متاحًا عبر وسائط متعددة. لذا شاركت فى عدد من الأفلام الوثائقية للحديث عن الفن المصرى وتاريخ مصر الإبداعى.
أعتبر أن التوثيق نقطة ارتكاز يجب على المبدع أن يدرك أهميتها، فالإلمام بالتاريخ السياسى والاجتماعى مدخل أساسى لفهم الحضارة والتعامل بها، والإلمام بتاريخ الفن والحركة الفنية هو بوابة العبور لقراءة المشهدين النقدى والثقافى المعاصر.
هذا الوعى التاريخى والفنى هو ما يمنح الإبداع عمقه المنهجى، ويحميه من السطحية والزوال. والإلمام بسير الفنانين وعذاباتهم وآلامهم، وقصصهم بين الفشل والنجاح، هو الملهم الحقيقى والعزاء الأكبر فى رحلة الكاتب الذى يتعلم بالمثال.

■ كيف ترى حصادك الروحى والفكرى اليوم؟
- لا أظن أنى قادر على تقييم حصاد ما جنته يدى، وقياس مدى تأثير ما أفعله على من هم حولى. لكننى يمكننى أن أقيّم تأثير هذه الرحلة على نفسى. لقد منحتنى الكتابة والترجمة تجربة حياتية مثيرة وشديدة الخصوصية، استطعت من خلالها أن أجوب العالم، وأعيش عشرات الحيوات، من خلال شخصيات مسرحياتى وأبطال القصص والروايات التى ترجمتها.
استطعت أن أنظر بعينى كُتّاب كبار عاشوا منذ سنوات طويلة، قُدّر لى أن أترجم أعمالهم، وأنظر من زاوية رؤيتهم: هل للكاتب الحق فى الخلود؟ هل سينتصر الإنسان فى صراعه مع الآلة؟ هى أسئلة وجودية جدلية، لعل إنسان العصر الحالى لن يعيش ليشهد إجابتها.
المستقبل هو لعبة التوقعات، ونحن نتوقع أن الشعر والمسرح والإبداع ستبقى وتنتصر، فالإنسان منذ آلاف السنين فى احتياج دائم للأدب والفن، ولن يتغير احتياجه بمرور الوقت وتغير الظرف والمكان.

