السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حصاد العُمر

أحمد فؤاد درويش: هيكل نشر «أولاد حارتنا» فى الأهرام لتصوير نفسه أنه «حامى الثقافة»

أحمد فؤاد درويش
أحمد فؤاد درويش

 

- صدر قرار رسمى بإيداعى «مستشفى العباسية».. وثروت عكاشة قال: «الولد ده عبقرى مش مجنون»

- ضربت السحار فى مكتبه بحضور يوسف شاهين لأنه أحرق نيجاتيف فيلمى «وجوه من القدس»

- «السادات» أغلق مؤسسة السينما بـ«طلب من الأمريكان» كما فعلوا مع «المراجل البخارية»

8 سنوات كاملة قضاها فى دراسة السينما والاقتصاد، حتى تخرجه فى قسم السينما بأكاديمية الفنون بتقدير «امتياز»، عام 1967، قبل أن يتخرج بعدها بعام فى كلية التجارة بجامعة القاهرة، كانت كفيلة لأن تؤهله للعمل فى مكتب رئيس المؤسسة المصرية العامة للسينما، نجيب محفوظ، تحديدًا فى قسم «تخطيط الإنتاج السينمائى».

أتاح هذا العمل له أن يكون من المقربين لـ«أديب نوبل»، قبل أن يعمل فى مكتب ثروت عكاشة، وزير الثقافة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فيما بعد، لتتواصل بعدها تجربته الممتدة فى عالم السينما كمخرج وموزع موسيقى، والتى قدم خلالها إبداعًا فى فنون السينما والموسيقى والتشكيل، علاوة على تأليف العديد من كتب الأطفال، وأخرى عن السينما التسجيلية فى مصر، وروائع السينما الوثائقية، مرورًا بدوره فى التنشيط الثقافى، وتوعية المواطنين بالثقافة والفنون على مدى الـ15 عامًا الماضية.

إنه السينمائى والموزع الموسيقى والروائى وكاتب الرأى، أحمد فؤاد درويش، الذى كانت لـ«حرف» حوار معه، كشف فيه عن أبرز محطات هذه الرحلة الإبداعية الطويلة.

أحمد فؤاد درويش - عدسة: حسن مسعد

■ كيف التحقت بالمؤسسة العامة للسينما رغم تخرجك من الأوائل فى أكاديمية الفنون؟

- بعد أن تخرجت فى أكاديمية الفنون، عينت وزارة القوى العاملة العشرة الأوائل منا، وكنت الأول على دفعتى، وذلك لأننى كتبت سلسلة مقالات فى جريدة «المساء» بعنوان: «أزمة القيم فى وزارة الثقافة»، بدعم من المحرر الثقافى الكبير عبدالفتاح الجمل، وهو ما دفع عميد المعهد العالى للسينما بأكاديمية الفنون إلى رفض تعيينى مُعيدًا فى الأكاديمية.

ومن ثم عُينت فى مكتب رئيس المؤسسة المصرية العامة للسينما، وكان يرأس وقتها قطاع الإنتاج اقتصادى يسارى اسمه عبدالرازق حسن، من مؤسسى حزب «التجمع» فيما بعد، وقتها قال له نجيب محفوظ إننى درست السينما والاقتصاد، وبالتالى يمكنهم أن يستفيدوا منى فى تخطيط الإنتاج السينمائى، لأساهم بالفعل فى تخطيط أفلام مهمة مثل «المومياء»، و«الأرض»، و«شىء من الخوف»، و«الزوجة الثانية».

محمود المليجى من فيلم الارض

و«تخطيط الإنتاج» يعنى تفريغ سيناريو الفيلم، وتحويله إلى أرقام مالية، يمكن من خلالها الموازنة بين تكلفة مشهد معين وعائده الدرامى، فمثلًا فيلم «الأرض» تكلف ٨٠ ألف جنيه، و«المومياء» ميزانيته فى المرة الأولى كانت ٦٠ ألف جنيه، ثم أصبحت ٨٠ ألف بعد ذلك، قبل أن يدر ١٨ مليون جنيه، نظير بيعه إلى الخارج.

وفى مايو ١٩٦٨، وبشكل مفاجئ، انتصر «اليمين» على الرئيس جمال عبدالناصر، وجرى الإطاحة بجميع القيادات الماركسية واليسارية فى وزارة الثقافة، فُطرد كل من: حسن فؤاد، ومحمود أمين العالم، وعبدالرازق حسن، وسعد كامل، لذا ذهب ثروت عكاشة إلى «عبدالناصر»، وقال له إنه سيطردهم جميعًا، لكنه يطلب منك الإبقاء على نجيب محفوظ وعبدالرازق حسن، خاصة أن السينما المصرية وقتها كانت مدينة لبنك مصر بمليون جنيه، واستطاع «حسن» سدادها فى عام واحد فقط، نظرًا لصرامته الشديدة. لكن «عبدالناصر» رفض طلب «عكاشة»، وجرى تعيين عبدالحميد جودة السحار بدلًا منه، بتوصية مباشرة من عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام وقتها.

وأريد الإشارة هنا إلى أن محمد حسنين هيكل كان يحترم ثروت عكاشة ويقدره، لكنه يغير منه ومن طموحاته، لأن «هيكل» وقتها كان الفيلسوف الفاهم الذى يجلس إلى جوار «عبدالناصر»، وكان «عكاشة» يمثل العقبة الكبرى فى طريقه، نظرًا لثقافته الموسوعية، وهو ما برز فى مقالات «هيكل»، التى تعمد فيها تجاهل تسليط الضوء على ثروت عكاشة، فما كان من «عكاشة» إلا أن يرد على ذلك بشكل واضح، فى مذكراته «مذكراتى فى السياسة والثقافة».

عبدالحميد جودة السحار

■ وماذا عن تعامل عبدالحميد جودة السحار معكم فى مؤسسة السينما؟

- عبدالحميد جودة السحار ناصبنى العداء، رغم أننى كنت فى عمر ابنه، وقت رئاسته المؤسسة العامة للسينما، ويعود ذلك إلى أننى كنت بارزًا من أبناء دفعتى، سواء على بدرخان أو داود عبد السيد أو كريم ضياء الدين أو خيرى بشارة، وصورت آنذاك، فى يونيو ١٩٦٩، الفيلم الذى يعتبر الأهم فى السينما الوثائقية، وهو فيلم «وجوه من القدس»، الذى تناولت فيه الفنون التشكيلية الفلسطينية، مع بيانو مارسيل متى وموسيقى جمال عبد الرحيم، وكان أول فيلم وثائقى جمالى يظهر من دون كلمة واحدة، ومادته بعض الإنتاج المعاصر للفن التشكيلى الفلسطينى.

دفع هذا «السحار» لحرق نيجاتيف الفيلم، وهو ما دفعنى للهجوم عليه والاشتباك معه بالأيدى، فى مكتبه، لتقرر مؤسسة السينما إيداعى فى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، وذلك بخطاب رسمى ممهور بختم النسر، وموجه إلى الوزير المختص، ثروت عكاشة، وكنت حينها فى عمر ٢٢ سنة فقط.

ذهبت إلى مقر وزارة الثقافة بقصر عائشة فهمى فى الزمالك، لعرض الخطاب على الوزير، ومن ثم إيداعى «مستشفى المجانين»، لكنى تحدثت مع ثروت عكاشة لمدة ساعة كاملة، فأصدر تصريحه الشهير: «الولد دا مش مجنون... الولد دا عبقرى»، وقرر نقلى للعمل فى مكتبه الفنى بالوزارة، وحظيت برعايته واعتبرنى «ابنه الروحى»، أنا وشادى عبدالسلام، لتتفجر مواهبى.

ثروت عكاشة 

وخلال حديثى معه، قال لى ثروت عكاشة إن فيلمى «وجوه من القدس» هو فكرة لويس عوض، الذى كان أستاذى، فقلت له: «لا، ليست فكرته»، ليتصل «عكاشة» بـ«عوض» ويسأله، فما كان منه إلا أن قال له: «أحمد فؤاد درويش عبقرى، وهذه الفكرة فكرته».

وسألنى «عكاشة»: «ما الذى دفعك لتصوير هذا الفيلم عن الفن التشكيلى الفلسطيني؟» فقلت له: «بسبب أننا مهزومين وخايبين»، فعنفنى وقتها وقال لى: «اخرس»، ثم شرحت له أن الفيلم يتناول الفن التشكيلى الفلسطينى، بداية من الرسم منذ ١٩٤٨ حتى ١٩٦٨، ثم الحفر والنحت والجدرايات، فسألنى: «أين هذا الفيلم»، فقلت له: «عبد الحميد جودة السحار حرقه».

بعدها، سحب ثروت عكاشة ورقة وكتب فيها توجيهًا إلى «السحار» بـ«إعادة إنتاج هذا الفيلم بنفس المخرج، مهما كانت التكلفة»، فأرسل إليه «السحار» قائلًا: «هذا الفيلم يتكلف ٦ آلاف جنيه»، فوافق «عكاشة» على الفور، وهو ما دفعنى لتصويره مرة ثانية، وشاهده «عكاشة» وأعجب جدًا به، ثم قام برفتى من مؤسسة السينما وتعيينى فى مكتبه بالقسم الفنى.

نجيب محفوظ 

■ لماذا كان عبدالحميد جودة السحار يعاند كل من عمل مع نجيب محفوظ فى مؤسسة السينما؟

نجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار كانا صديقين بشكل كبير، وعندما بدأ «محفوظ» مشواره مع الكتابة، بدأ «السحار» فى تأليف الروايات مثله، رغم أن شقيقه الناشر «سعيد» كان يقول له: «إنت ما بتعرفش تكتب»، وفق ما كشفه لى مصدر وثيق.

عقدة عبدالحميد جودة السحار فى الأدب كانت نجيب محفوظ، وإن كانت عقدته الأكبر عداءه الشديد لشخص الرئيس جمال عبدالناصر، وأنا «ناصرى» تمامًا، لذا حاول فصلى من المؤسسة العامة للسينما، وقرر أن يعاند الشباب الثورى الذين تركهم له نجيب محفوظ فى المؤسسة، ومن بينهم رأفت الميهى، وكان يعتبرنى «رأس الأفعى» بينهم جميعًا، لكنه لم يفعل ذلك مع مصطفى محرم، الذى كان يميل إلى «الكاتب الإسلامى عبدالحميد جودة السحار».

و«السحار» جاءوا به من «مؤسسة الحراريات» إلى «مؤسسة السينما» لضرب التيار اليسارى فى السينما، فاكتشف أن وجودى يشكل «جيلًا يساريًا جديدًا» فى المؤسسة، وهو ما دفعه لأن يحرق نيجاتيف فيلمى، ودفعنى هذا للدخول عليه فى مكتبه وضربه، فى حضور المخرج يوسف شاهين، ومساعده أشرف فهمى، ومحمد رجائى، مدير عام الإنتاج بالمؤسسة، كما سبق أن ذكرت.

وفى هذه الواقعة، «السحار» ذُعر منى وظل يردد: «الواد ده معاه سلاح»، فما كان من يوسف شاهين إلا أن ضحك وهو يخلصنى منه، وكذلك أشرف فهمى، الذى أعجب بضربى له، لأنه «شخصية سادية»، وهو ما برز فى عناوين أفلامه التى أخرجها للسينما فيما بعد، مثل «القتل والدم».

بعد هذه الواقعة ظل أشرف فهمى يبحث عنى، وأخبرنى بأننى سأكون المنتج الفنى لفيلم «ليل وقضبان»، والذى كان من تمويل المؤسسة المصرية العامة للسينما، ويعد آخر الأفلام التى أنتجتها الدولة عام ١٩٧٣، لأن «السادات» أصدر بعدها أمرًا بعدم إنتاج المؤسسة أفلامًا أخرى، بسبب وجود «مخرجين شيوعيين» بها، مثل صلاح أبو سيف، ويوسف شاهين، والجيل الجديد من «الشباب الشيوعى» أمثالنا، لتُغلق المؤسسة نهائيًا، وهذا كان من «مطالب الأمريكان»، كما طالبوا أيضًا بإغلاق «المراجل البخارية»، التى كانت تنتج المياه الثقيلة، وهى نواة إنتاج الصناعات النووية.

■ كيف رأيت ثروت عكاشة من واقع عملك فى مكتبه؟

- ثروت عكاشة شخصية واثقة جدًا من نفسها، ولديه قدرة غير عادية على تقييم حديث أى شخص وانتقاده، ما عدا لويس عوض، فما يقوله «عوض» له كان لا يلقى أى مراجعة من قِبله، لأنه يعلم أنه مُخلص وليس مغرضًا، وأنه ليبرالى وليس يساريًا.

وأريد الإشارة إلى أنه تم إلقاء القبض على لويس عوض بالخطأ، فعندما عثروا على «نوتة تليفونات» محمود أمين العالم، وجدوا أنه يضع علامة حمراء حول رقم هاتف لويس عوض، فظنوا أنه «زعيم التنظيم الماركسى»، رغم أنهم سألوا «العالم» فقال لهم: «هو ليبرالى وليس ماركسيًا»، ومع ذلك ألقوا القبض عليه و«بهدلوه». وقتها ظل ثروت عكاشة يحاول الإفراج عنه، مع الرئيس جمال عبدالناصر، لمدة عام وربع العام، حتى أفرج عنه الرئيس.

وأود أن أؤكد أن ثروت عكاشة عَلامة وصاحب مشروع ثقافى للشعب، وهو ما يتجلى فيما أسسه وأقامه من ثقافة جماهيرية وفرق فنية، وبعثات خارجية ومنح تفرغ، ودعم كبير للسينما والمسرح والباليه؛ وغيرها من المنجزات التى مازالت قائمة إلى اليوم، إلى جانب موسوعاته الشهيرة مثل «تاريخ الفن فى العالم منذ بداية الخليقة».

الزميل حسام الضمرانى يحاور أحمد فؤاد درويش 

■ ما الذى تتذكره من «معركة» رواية «أولاد حارتنا» ونشرها مُسلسلة فى «الأهرام»؟

- وقتها كنت لا أزال طالبًا، وأرى أن نشر الرواية فى «الأهرام» بدعم من محمد حسنين هيكل يرجع إلى عدة أسباب، أبرزها أن «هيكل» كان يريد أن يعطى درسًا لكل من عبدالقادر حاتم وثروت عكاشة، وزيرى الإعلام والثقافة فى عهد «عبدالناصر»، مفاده أنه «حامى الثقافة والتنوير الأول فى مصر».

أعلن وقتها أنه سيصدر مجلة «الطليعة»، وقال إن «عبد الناصر» ينتهج التحول نحو اليسار، وإنه مع ذلك ويباركه، ثم بدأ فى تكوين «النخبة» بالطابق السادس بمؤسسة «الأهرام»، بضم كل من توفيق الحكيم ولويس عوض، وعمله على استقطاب نجيب محفوظ أيضًا، بعد انتهاء عمله فى مؤسسة السينما، بالإضافة إلى إعجابه برواية «أولاد حارتنا» وأحداثها بالطبع.

وأثناء دراستى فى الجامعة كان لدى طموح كبير، وهو ما دفعنى لزيارة مجلة «الطليعة» والاقتراب من لطفى الخولى، فقد كانت لدى بوادر مشروع، لكن لا أعرف من أين أبدأ، وأى شخص لديه طموح قد يكون لديه مشروع كبير، سواء كان مشروعًا حقيقيًا أو «فالصو».

مثلًا الكاتب عادل حمودة لديه «مشروع فالصو» لكنه شديد الطموح، لدرجة أنه يرى أنه أفضل من جمال عبد الناصر، وهو ما أشرت إليه فى مقدمتى لكتاب «خريف عادل حمودة.. أستاذ صحافة كرسى فى الكلوب» لمؤلفه السيد الحرانى.

وعادل حمودة عندما كتب يشتم «هيكل»، طلب منى كتابة مقدمة أو تعقيب، فكتبت له دون إساءة لأحد، على عكس محمد حسنين هيكل، الذى لديه مشروع يتمحور حول ذاته، قائم على أن يكون «الصحفى الأول فى الشرق الأوسط»، لذا استند على «عبد الناصر»، الذى دعمه لتأسيس «الأهرام فى ثوب جديد»، وهو «صحفى فلتة»، كان لديه مشروع للصحافة المصرية، لكنه ضد اليسار والإشتراكية، كان واضحًا فى ذلك.

الزميل حسام الضمرانى وأحمد فؤاد درويش 

■ مَن يُمكن اعتباره «أستاذ أحمد فؤاد درويش» فيمن عاصرهم؟

- أستاذى هو محمد سيد احمد، الذى تعرفت عليه فى مجلة «الطليعة»، عام ١٩٦٥، وكان عمرى ١٨ عامًا ونصف العام، ونشروا لى وقتها سلسلة مقالات بعنوان: «أزمة القيم فى الثقافة المصرية».

كما أن علاقتى بـ«مجموعة الدور السادس فى الأهرام» عرفتنى اتجاه الريح فى مصر، لكن ما أؤكده أن أكثرهم ثقافة وموسوعية هو محمد سيد أحمد، لدرجة أنه أكثر ثقافة من لويس عوض، حتى أنه كان يطبق علوم الرياضيات والفيزياء على السياسة.

لم أنس ما علمنى إياه، فى عام ١٩٧٠، عندما قال لى إن المخابرات الأمريكية لديها جامعات خفية تسعى لتأخير حركة التاريخ، حتى لا نصل إلى الاشتراكية الحقيقية، وأنهم قد يؤخرون حركة التاريخ لمدة ٢٠٠ سنة، من خلال تمكينهم لموظفين وظيفيين فى مفاصل الدول، يتولون هذه المهمة.

■ أخيرًا.. هل تنوى أن تكتب مذكراتك؟

- سأجعلك أنت من تسجلها لى وتكتبها، سنبدأ فيها قريبًا، وستكون بعنوان: «أيام درويش».