الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ناصر عاشور يكتب: الْخَمْسِينِىُّ

رجل خمسينى
رجل خمسينى

بعد أن اعتاد الخروج من منزله مضبوطًا كالساعة منتظمًا فى خطواته كقطارٍ، جادًا وعابثًا كممثلٍ تراجيدى، فوجئ اليومَ باستدعاءِ المدير له، وأخبروه بالاستغناءِ عنه.

للمرة الأولى تراه شمس الظهيرة ويراه العابرون وصاحب عربةِ الفولِ وبائع الجرائد والمارة، وشرطىّ المرورِ، وذرات التراب وللمرة الأولى يزاحم أبواق السيارات وأصوات الباعة. 

«رجلٌ خَمْسِينِىٌّ صالحٌ تمامًا للعرضِ فى الفاتريناتِ الكبرى لهواةِ اقتناءِ متعلقاتِ المشاهيرِ الشخصيةِ يمكنكم التوجهُ إلى سراى ٢ صالة ٢ .. البيع بالمزاد العلنى». 

أصبحت أيامُه أطولَ مما يعتاد. جربَ نومَ النهاِر بأكمله؛ فأصبح الليل طويلًا جدًا.. أطول مما اعتاد، وما استطاع أن ينفق ساعاتِ النهارِ بعد أن نام الليلَ بأكمله؛ فصارتْ ثوانى النهارِ أطولَ مما تخيلَ.

خرج للتسوقِ بدلًا عن زوجته؛ فضاقتْ روحُه من سماجةِ البائعين وعاد منهكًا. دخلَ المطبخَ، فسأم، فشل واحتد على أبنائه عندما حاول أن يذاكرَ لهم ولو كبديلٍ اقتصادى فى ظرفِه الجديدِ. 

جرب بدعةَ الفيس بوك ولم يسترح؛ شعر أنه جرى لكيلومترات وهو جالس مكانه. اصطحب كتابًا إلى الشرفةِ المطلةِ على شارعٍ جانبىٍّ ولم يسترحْ إذ دفعته ألفاظٌ نابيةٌ صادرةٌ عن النافذةِ المواجهةِ إلى مغادرةِ مكانِه، عدَّل من موضعه ولكن السيدةَ الشابةَ التى تزوجت حديثًا تنتظر زوجَها أمامَ المرآةِ وتستعدُ له تمامًا والنافذةُ على مصاريعها. تذكر أيامه الأولى مع زوجته قبل أن تكون زوجته، كيف كان يكتب القصائدَ لها على أوراقٍ ورديةٍ وكيف كانت تتغنى بقصائده وتتراقص على موسيقاها.

«الْخَمْسِينِىُّ يحمل اسمًا رنانًا جذابًا يمكن ترخيمه لأىِّ اسمٍ أيضًا، ويمكن استبدال اسمه عن رضا، فهو حقيقة لم يختره ولم يك راضيًا عنه أبدًا رغم أن الكثيرين قد أثنوا عليه، يذكرُ أنه ناجحٌ جدًا فى الصمتِ وكتومٌ، ولديه مهاراتٌ خاصةٌ اكتسبها عبر حياتِه. يجيد العملَ تحتَ ضغطٍ ويقبل بفترةٍ للتجريبِ». 

فكر لو قضى اليوم خارج المنزل مع أصدقاء أو حتى غرباء، ولكن لا أصدقاء لديه وأن حصيلةَ أعوامِه فى العملِ حفنة من العداءات والأحقاد، ولا أصدقاء قدامى، ولا مقربين من العائلة، ولا حبيبة قديمة ولا مكان خاص لديه يحمل ذكرياتٍ خاصةً. 

فى صباحٍ جديدٍ قرر أن يبدأ حياةً جديدةً مع زوجته. عدَّل من هندامه، واستعاد ابتسامة كان قد وضعها لا يدرى أين؟! لكنها على كل الآن تحاول أن ترتسم على شفتيه فارضةً نفسها على تجاعيد جعلتها أشبه بالبكاء. حين واجهها، كانت تلف ساندويتشات الأولاد فى ورقةٍ ورديةٍ كان قد كتب عليها أول بيتَ شعرٍ لها.

«خَمْسِينِىٌّ متبرعٌ به لمن يقبل».