الأربعاء 04 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يحيى حقى يكتب عن «حمام الملاطيلى» فى طبعتها الأولى عام 1971

يحيى حقى
يحيى حقى

ظهرت رواية «حمّام الملاطيلى» كطلقة مباغتة فى قلب المشهد الأدبى؛ رواية جريئة، حادّة، تتكئ على الواقع ولكنها لا تخجل من تعريته حتى نخاعه.. لم تكن عملًا عابرًا، بل نصًا أثار الجدل، واستدعى النقاش، وربما الصدمة.

وكان أول من توقف أمامها، وربما قارئها الأول الكاتب الكبير يحيى حقى، الذى كتب مقدمة لها، وفى مقدمته، لم يكتب يحيى حقى من موقع الوصىّ أو المعلم، بل من موقع القارئ المنبهر، الذى رأى فى هذا النص ملامح موهبة أصيلة، وقدرة لافتة على تفكيك المجتمع من الداخل، دون بهرجة، ودون خوف.

«حرف» تعيد نشر هذه الوثيقة الأدبية النادرة: مقدمة يحيى حقى للرواية، كما نُشرت أول مرة.

أعانتنى هذه الرواية على الاهتداء إلى السر الذى كنت أبحث عنه لأعرف من أين يتأتى لعمل دون بقية الأعمال الفنية الكبيرة أن يبلغ أقصى قدرة على الاستحواذ، على النفاذ، على الانتشار والتدفق فى الشرايين، معينًا لا ينضب للارتواء والشبع، للروح والعقل، على البقاء، على الاستمرار، على الكمون سباتًا فى أدراج خفية نضع فيه جواهرنا لننساها ونحن نحس طوال الوقت بتوهج أشعتها فى ضمائرنا وبأنها ضمان لنا من طارئ العوز والإملاق.

أصبحنا بعده غيرنا قبله، أفضل وأطهر، أذكى وأذكى، أشد انكشافًا للعواطف، أخذًا وعطاءً، أشد فهمًا للحياة والناس، أكثر تسامحًا وأشد هيامًا بالفن ولهفةً على الحب المقدس الذى يجمع الكون فى قبضته، بزينته وعوراته.

كنت أقول من قبل: لأن هذا العمل وليد مهارة حرفية فذة، عن مكر أزرق الناب خرج تصميم الهيكل العام جنينًا يتكلم فى بطن أمه، منتظمًا متناسقًا متزنًا معًا ليس فيه عوج، التفاصيل ملفوفة فى الكل مندسة فيه، والصقل مرة بعد مرة حتى يبلغ عين المطلوب منه، والقمة التى تؤول عندها آخر خطوة للصعود إلى آخر خطوة للانزلاق على الجانب الآخر، انتفع بدروس كل الأساتذة السابقين وتطلع أيضًا إلى بشائر أعراف الغد وأذواقه.

أو أقول لأنه كشف لنا خبايا كنا نجهلها وخالطنا بأشجان الإنسان وأشواقه- مذ كان- وحيدًا أمام القدر، أو أقول لأنه جهر بما نجمجم به، صارحنا بجرأة تأنف من النفاق والرياء والمجاملة، يقظة قد تكون قاسية مؤلمة ولكنها علة الشفاء، ثم رضيت أن أقول لأنه من عمل إنسان يخاطب الإنسان: يا أخى، إننى رغم الجبروت ضعيف مثلك، لا أجد بعد تجربة علم الطب الفاشلة رقى وتعاويذ تهدهد القلق، مصدر كربى واعتزازى، متى ينشق هذا الجو -هو وإن من هواء قضبان سجن- عن فرجة يبلغنا منها الهمس الذى ندرك به الحقيقة ونطمئن، يصل إلينا من علٍ، من فم رحيم، عالم بحالنا.

بعد هذه الرواية أصبحت أقول وأنا سعيد كل السعادة لانكشاف السر بفضلها: السبب أن هذا العمل نابع من اشتعال حب متسلط متغلغل عميق صادق بكنه الفنان لموضوعه، التحام الفنان، ثم فناؤه فيه، وإذا كان الحب مثل هذا الحب فلا بد له أن يعدى، فإذا بك تحب العمل طواعيةً وقهرًا معًا.. وإذا بك كما تحب العمل تحب الفنان نفسه حبًا كبيرًا. تتمنى لو تلثم يده، لن تسأل بعد ذلك -وإن كانت موجودة- عن أصول الحرفة أو جسامة القضايا أو بلاغة نطقها ونفع مغزاها، تضاءلت مصابيحها رغم بهائها أمام نور شمس وهاجة.. هذا هو السر فى الدفء الذى يشع من الحجر. من لوحة قماش، بل يخيل إلى أحيانًا أنه يشع من الورق قبل أن تفض عليه غلافه.

يحيى حقي

فمؤلف هذه الرواية عاشق، مغرم صبابة متيم، ولهان، مسحور مخبوط كالمجذوب يحب آثارنا الإسلامية فى حى الجمالية، جامع قلاوون.. الأب والابن، جامع الغورى، جامع برقوق، جامع المردانى، جامع محمد بك أبوالدهب، جامع الأقمر، جامع أينال اليوسفى، والأسبلة أيضًا، سبيل الناصر «سبيل خسرو باشا».. هى عنده جواهر كريمة فريدة، لم يكن لها قبلها مثيل ولن يكون لها من بعدها مثيل، تتلألأ بالحسن، تتألق بالجمال، بالظرف والجلال معًا، ما أصعب الجمع بين هاتين الصفتين، المهابة وخفة الدم، الجد والانشراح، العظمة والسماحة، تحنى لها رأسك ولكن بلا انسحاق أو شعور بمركب النقص، لا تتعالى عليك كأعمدة الأقصر -إننى أتكلم عن العمارة لا عن النحت الفرعونى الذى أحنى له رأسى إجلالًا- بل تمد لك يدًا تألفها يدك، إنها لا تنتسب إلى إنسان أنت فى نظره حشرة حقيرة لا حساب لها عنده، تدفن أنت فى حفرة، أما هو ففى هرم ضخم يناطح السماء قائم على بحر من دماء الضحايا، العمال المستعبدون الذين هرسهم عبء بنائه، بالأسنان والأظافر، بل بناه وزخرفه إنسان آخر مثلك، حسبة لله وخشوعًا له، يحبك ويبتسم لك، ولكن يا له من إنسان، إنه رسول الفن إليك، يقبسه لك من شعلته المقدسة ثم لا ينزل على فؤادك إلا بردًا وسلامًا، فيسر منك العيش ويبهج القلب وينعش الروح، عريقة من ناحيتين، لشرف أصالتها ولتعاقب أجواء طاهرة عليها بلا انقطاع، تتردد فيها الصلوات وآيات سحر البلاغة فى كلام الله، قف تحت قبة برقوق أو قلاوون، وافتح عينيك ونوافذ قلبك وأبوابه لتصيبك فتطهرك هزة الطرب والانشراح للجمال، الجمال الأنيس الظريف، ستجد الرقم الذهبى فى الهندسة والزخرفة، الزجاج الملون زينة علوية وعجب، الخشب دانتيلا والمرمر دب فيه دفء الحياة، كأنما رفعت عنه للتو يد الفنان الذى حنا عليه ومشطه وسواه.. من هو؟.. ليتنا نعرف من هو.. ولأنه مجهول فهو أعز لدينا ممن تركوا لنا توقيعاتهم.

ولعل من أهم دوافع هذا الحب عند المؤلف أن هذه التحف الرائعة أصبحت الآن تجللها المسكنة، تطأطئ رأسها فى انكسار، فالابن الأثير عنده هو العليل، اذهب إليها الآن مرة واذرف الدمع إن بقى فى قلبك إحساس بالجمال واعتزاز بالتراث وحق لبلدنا العظيم -القاهرة- وتاريخها الطويل، ستجدها فى أبأس حال، لا يصدق عليها إلا قولهم: أخنى عليها الدهر بكلكله، مهانة بعد عز، تراكم عليها التراب -يقاس عمرها الآن بطياته- كأنها حلقات النخيل، تدلق عندها القمامة، تربط عندها الخيول، وربما فك السائر عندها حصره، ليست هذه هى المصيبة، بل المصيبة أن كل هذه التحف تذوب بين أيدينا، نرى رؤى العين دبيب الفناء فيها، تشققت جدران بعض المساجد وبعضها أصبح فعلًا من الخرائب.

لقد رد المؤلف التهمة التى وجهها إلى القصصيين عندنا الأستاذ شارل فيال أستاذ الأدب العربى بجامعة إيكس بفرنسا -فى بحثه الذى كتبه بمناسبة عيد عاصمتنا الألفى بعنوان القاهرة فى الرواية المصرية الحديثة وتجد ترجمته منشورة فى مجلة المجلة- فقد اتهم هؤلاء القصصيين بأنهم كأنما يجوسون خلال مدينتهم الغنية بتنوع الملامح وعيونهم مغلقة، لم يستطع أن يفوز إلا بأمثلة قليلة عن وصف للأحياء والأمكنة التى تدور فيها أو حولها، ثم هو وصف غرير، لا تشفع له قيمته، بل ندرته.

وبسبب عنوان حب المؤلف لهذه الآثار -أرفض الاعتقاد بأن مهنته كمهندس معمارى هى التى قادته من يده كالأعمى حتى أزالت غشاوة بصره أو حتى يصبح الغشيم أسطى- فإنه لم يصفها وصف مهندس، يتكلم عن النسب والأبعاد، والمقرنصات والأفاريز، بل وصف شاعر حساس رقيق، وصفها بفيض من روحه، أن هذه الآثار حبات مسبحة غالية تعدها يده ليتلو بها ابتهالاته، إنه حب لا تفرضه المهنة، بل للقدر فيه دور، وللوراثة نصيب، وحجة النسب لا تحتوى على أسماء، بل أيام تمر فى تاريخ طويل لحضارة عريقة، من نفض ثيابها هذا التراب العالق بمساجده العزيزة، فالأهم الأهم أنه لم ير فيها آثارًا منفصلة، منعزلة، قائمة بذاتها، قد تكون قابلة لأن تنقل داخل متحف تركن فيه -لا فرق أن تكون التحف فى بلدها أو فى بلد غريب- بل يراها تعبيرًا حيًا عن الشعب وحضارته، عن صفاته الأصيلة وفضائله الثابتة رغم تعاقب الأجيال، حية كالخلية من خلايا جسد حى، ينعم بالصحة حينًا وينتابه المرض حينًا، التفاعل بين الخلايا دائم والمدد والاستمداد لا ينقطعان، من خلال حب المؤلف لهذه الآثار ندرك مقدار حبه لمصر، أمته، واعتزازه بالشعب الكادح الصابر الطيب القلب، العريق الحضارة، إذا ذكر فترات الصحة انتشى وإذا ذكر فترات المرض أن أنين الثكلى، والشهيد عنده فى هذا الحى لا أحد غير طومان باى.

إن أردت أن تقابل المؤلف فلا تبحث عنه فى أحياء وسط القاهرة حيث الحداثة فجة، والعمارة علب كبريت وكبر الجرن على فاشوش، والناس يتعذبون لأن مساكنهم وثيابهم مستعارة، غير مفصلة على قدهم ولا هى تعبير عن مزاجهم أو صالحة لأجوائهم، هذا هو صيت ولا غناء، وإنما اصبر على المشقة والمكاره ومرارة الامتعاض واسلك حوارى وأزقة ضيقة لولبية وخض فى خضم من لحم بشرى يكدح بصبر فى طلب الرزق حتى تبلغ فى أغوار حى الجمالية قهوة بلدية، منزوية، صغيرة، تقتحمها العين، لا يزيد عدد زبائنها عن أصابع اليدين، ستجده جالسًا على كرسى متضعضع، أصبح من أهل البيت من أول زيارة له إليها، الست المعلمة ألفته وارتضته، واحتضنته نظراتها ولم تفتح فمها، أدركت بوجدانها أنه ليس من المدعين، أو المتعالين بل هو عاشق متواضع جاء إلى كعبته ملتمسًا شفاء لغليله، جاء ليستريح، ليعيش.. لقد أطلت الحديث عن هذه الآثار -أعترف بهذا- لأنها هى الخلفية التى سيتحرك عليها المؤلف وأبطال روايته، لولاها لما فهمناهم وأحببناهم، إنها كما قلت مدخله إلى حب الشعب وفهمه، والاعتزاز به وبفضائله، وعلى هذه الخلفية أقام حمامه الشعبى، وهو أيضًا من الآثار التى لم يلفت إليه نظر الكُتاب، ولعل المؤلف هو أول من تنبه له ونفذ بنا إليه فوصفه لنا وكشف لنا عن أسراره ودخائله، وحين وقع اختيار المؤلف على الحمام الشعبى مجتمعًا لأبطاله ولقاء بينهم، تهيأت له فرصة ثرية بالوعود، تلقفها المؤلف جميعًا، فالمكان فذ، والبيئة لها طابع خاص، وهذه الخصوصية هى التى تجذب إليها خيوطه فتتشابك وتنعقد وتنحل عندها بلا افتعال أو تهاويل خيال، وأصبح كل ما يقوله جديدًا.. لماذا لا ينفتح للقصاص عندنا مثل هذا الباب الذى بقى مغلقًا؟.. عندنا عشرات من الأمكنة والبيئات لها مثل هذه الخصوصية.. التى تعتبر منجمًا ثريًا للقصاص، حقًا إن رقعة الرواية عندنا تحتاج إلى مزيد من الاتساع.

نفذ بنا المؤلف إلى حمام شعبى أثرى، لا ليرينا عرى الأجساد فحسب، بل ليرينا قبل كل شىء عرى الأرواح، عرى الجسد رمز لعرى الروح.. سنكشف جراحها وشذوذها وعاهاتها المتكتمة، عاهات أصحابها غير مسئولين عنها، إنها قدرهم الذى لا فكاك لهم منه، وأصحاب العاهة الواحدة يتقاربون دفعًا للخوف أو الخجل من الشعور بالتوحد، بخطر النفى أو البتر إذا افتضحوا، هيهات أن تعرف نقطة الضعف التى انكسرت عندها استقامتهم واستواء غرائزهم، ولا متى، هم مجتمع من الضائعين فى يد قدر أريد لهم.

فبينهم ابن البلد والأجنبى والمثقف والشريد والبلطجى، يستعرضهم بطل الرواية وهو فى نجوة منهم، ولكنه يحتويهم جميعًا فى قلبه، والعجيب أن لأغلبهم نداءً كأنه أنين موجه إلى الأم، غائبة أو ميتة.

فى هذه الرواية كلام عن الأمومة من أجمل ما قرأت.

ثم يحوم حول هذا المجتمع فتاة مومس. لعلها أقل أشخاص الرواية قدرة على الإقناع، حقًا لقد زهقت من كثرة اللجوء فى قصصنا إلى الفتاة المومس إما متخذة رمزًا لمصر وإما مثلًا لطهارة الباطن وإن فسد الظاهر، إنها دائمًا أقدر الناس على الوفاء والتضحية.

وقبل أن تنتهى الرواية تكون قد قدمت لنا مثلًا يمس شغاف القلب للجرى وراء البريق الكاذب ثم إذا به ينكشف عن زيف ودمامة بشعة.. ويدوس البطل وهو يجرى على مخلوق كان فى يده رفعة من الإثم إلى التوبة ويجد عنده ملاذه.

والمؤلف يكتب بنبضات كأنها من مس سلك مكهرب، الجمل قصيرة، والأسطر منفردة، فدانت له لغة تختص به، ويختص بها.. فما أكثر جوانب الخصوصية فى هذه الرواية.