العقاد وطه حسين.. اتفاق نادر!

من المرات القليلة، لا أستطيع الادعاء بأنها المرة الوحيدة، التى اتفق فيها العقاد وطه حسين، مع حفظ المقامات، على رأى وموقف واحد، كان ذلك فى أعقاب أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق.
وقد وقف الأستاذان فى صف حرية الفكر والعرض والطرح، وأن البحث الفكرى لا يستلزم رجاء من أحد ولا ينتزع حقه إلا بتفعيل البحث.
واللافت أن كلًا منهما ساند الكتاب وصاحبه من الشرفة التى يطل منها على قناعاته..
فالأستاذ العقاد الوفدى المتين وعى لضرورة تنحية الظنون السياسية مع الكتاب والبت فى حواشيه بما هو فكرى بحت، وإن كان موضوعه ملطخًا بالسياسة لكن إطاره الدينى يحتم فصل ما هو دينى تاريخى ثابت بما يتحرك من واقع سياسى وقتئذ.
فتجلى اتساق العقاد مع ما يعتقده حين انتقد فى عدة مقالات موقف زعيم الوفد سعد زغلول تجاه الكتاب، ولا يخفى على أحد أن العقاد كان من الداعمين، بل المتيمين بالزعيم التاريخى للوفد، لكن زغلول لعبها سياسة لا فكرًا، واستغل ضراوة الهجمة على الشيخ عبدالرازق الذى كان ينتمى لحزب الأحرار الدستوريين غريم الوفد، فضرب حزب الأحرار يُعتبر مكسبًا للوفد، هكذا فكر زغلول على عكس ما توقع العقاد والنخبة من نصرته لحرية الفكر المكتسبة من الدستور الذى كان أبرز حُماته زعيم الوفد، لكنه فضل المكسب الحزبى على التأسيس لبراح العقل، للدرجة التى جعلته يؤيد سحب شهادة العالمية من الشيخ القاضى المفكر.
والشىء بالشىء يذكر، فإن مناكفات السلطة والوفد توقفت قليلًا لتلاقى مصلحة الفتك بحزب الأحرار الذى يشوش على حلم استعادة الخلافة المقصوفة بتنصيب فؤاد الخليفة الجديد. كان العقاد أريبًا كفاية لكى لا يخيل عليه حيّات السياسة، فغلّب حرية الفكر وفصل الدين عن السياسة على الهوى الحزبى، واعتبر محاكمة عبدالرازق ذات هوى سياسى لا دينى كما صور المبلسون!
بينما الدكتور طه حسين يطل من شرفته ثابت القدمين لا يخالطه شك فى أن حرية الفكر والبحث كسليقة التقاط الأنفاس لا مساومة فيها البتة، لذلك ناقش طه حسين القضية من المنظور الذى أفنى فى سبيله حياته، ألا وهو الافتكاك من الكهنوت الدينى والسياسى على حد سواء، حيث قناعة العميد الراسخة بأن لا كهانة فى الإسلام، مؤسسة وأفرادًا، الفكر يواجه بالفكر، وليس بالنزع والسحب والحِسبة.
واجه طه حسين مثل هذه القضايا بالعلم تارة والحس الساخر تارة أخرى، ذلك الحس الذى كان بارعًا فيه ومُجيدًا له، ويتضح ذلك فى رسالة العميد للشيخ على عبدالرازق مؤيدًا إياه: «إيه أيها الطريد من الأزهر، تعال إلىّ نتحدث ضاحكين عن هذه القصة المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك، وطردك من الأزهر، نعم سنضحك من كتابك، وسنضحك من الأزهر، ومن الذين أخرجوك منه. وآن لنا أن نجد هذه الهيئة التى أخرجتك من الأزهر، ما سلطتها الدينية؟ ماذا قلت فى الكتاب؟ قلت إن الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام، نعم كان أهل السنة، وما زالوا، يرون أن الخلافة ليست ركنًا من أركان الدين، وأن الشيعة فسقوا حين عدّوها كذلك، فلما قلت للناس فى كتابك ما أجمع عليه أهل السنة غضب عليك أهل الأزهر ورموك بالابتداع والإلحاد، وأخذوا يقولون إن الخلافة أصل من أصول الدين، هذه الهيئة أثر من آثار الاستبداد أنشأها عباس ولا تليق بعصر فؤاد مصدر الدستور، فسلام عليك أيها الطريد، وإلى اللقاء».