الأحد 13 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

على أعتاب الثمانين.. إبراهيم عبدالمجيد: أعيش بالكتابة.. ولا أفكر فى العمر أبدًا

إبراهيم عبدالمجيد
إبراهيم عبدالمجيد

- «الوهابية» لا تزال متمكنة فى مصر رغم تخلص السعودية منها

- المرض ينهكنى ويرهق جسدى.. فقط لأنه يؤخر جلستى للكتابة!

- أضع الكتب المكتوبة عن أعمالى جوارى فى السرير لأستمد منها الأمل

- بالكتابة أقيم الإسكندرية التى أحب وأعيش فيها من جديد

- حواسى تسكن فضاء كل الوطن وكتبت عن القاهرة كما الإسكندرية

بين الحب والعشق والرومانسية، وتجربة رجل عاش 79 عامًا، من النجاح ومتعة انتقاء عوالمه، مضت مسيرة ومحطات عُمر الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد، التى تنقل من خلالها بين الخيال والحلم والكتابة عن الواقع، وأضحكنا وأبكانا وأمتعنا بمتلازمات الفقد والحزن والاغتراب، وصرعة الهويات والتاريخ والجغرافيا، ونقل إلينا صورًا حية خالدة عن القاهرة والإسكندرية.

فى حواره التالى مع «حرف»، يتحدث الروائى الكبير الحاصل على العديد من الجوائز، من بينها «جائزة النيل»، والذى تُرجمت نصوصه إلى أكثر من لغة، عن مصارعة الواقع والاغتراب بقوة الخيال، والاستعاضة عن الألم بالسرد والحكى.

«عبدالمجيد» المولود بمدينة الإسكندرية، فى ديسمبر عام 1946م، يتحدث عن بعض محطات العمر، وجدوى الكتابة، وتأرجحه بين عشق القاهرة، وحزن دفين على ما آلت إليه الأحوال فى عروس المتوسط، مكان ميلاده أو عشقه الأبدى.. فإلى نص الحوار.

إبراهيم عبدالمجيد

■ كيف ترى لقاءك الأخير فى مكتبة الإسكندرية، فى ظل ما شهده من حضور كبير، وأنت الآن على أعتاب عامك الـ٨٠؟

- أنا لا أفكر فى العمر ولا أتذكره حتى عند المرض، أنا أتركه لله دائمًا. أدهشنى حضور جميع المشاركين، وهم من جامعات مصرية وعربية، وأجنبية من أمريكا إلى أوروبا والصين وغيرها، فضلًا عن كثافة الحاضرين من القُراء.

كانت سعادتى عظيمة بالحضور، والنقاش الذى امتد معى بعد الندوة، فى اليومين التاليين بالفندق، أو على العشاء فى مطعم «سى سايد»، المجاور لمطعم «النادى اليونانى» المُطل على الميناء الشرقى، وهو ما بقى مفتوحًا للبشر يطلون منه على البحر، الذى أخفته الكبارى والمطاعم والأسوار بطول الشاطئ!

أدركت ما تنسينيه أحيانًا الأيام، وهو أن ما كتبته عن المدينة لا يضيع، وتأكد لى فى اللقاء أن الحنين إلى المدينة يظل أملًا ولا يضيع، وبه تعيش الأرواح الحزينة على المدينة الضائعة.

■ ما تقييمك لصدى رحلة احترافك الكتابة على مدار ٦ عقود؟

- هذا ليس من عملى، متعتى كانت وما زالت فى الكتابة وبها أعيش، الأمر متروك للنقاد والقراء. أرى كثيرًا من الكتب عن أعمالى، آخرها الكتاب الرائع «سرديات ما وراء الكتابة» للدكتور أيمن تعيلب، وهو قراءة لكتابى «ما وراء الكتابة.. تجربتى فى الإبداع»، وصدر ضمن سلسلة «الدراسات النقدية» فى دائرة الشارقة الثقافية.

وفى النسخة الأخيرة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، فى يناير الماضى، كتاب «المكان فى الرواية العربية» للدكتور محمد ماهر بسيونى، عن دار «الحكمة» فى القاهرة، أيضًا عن أعمالى.

كتب كثيرة ورسائل دكتوراه عن أعمالى. أحب أن أضع أى كتاب جديد منها جوارى على السرير عند النوم لعدة أيام، وأستمد منه الأمل وأكتفى بذلك.

أنا أعرف أن الزمن لن يتوقف عند أحد، وأن الكُتّاب ملء السمع والبصر، لذا تبقى متعة الكتابة هى الرافد الجميل للحياة، وبها تأتى الكتابة الجميلة التى تجذب القراء والنُقاد لتؤكد ذلك. ينهكنى المرض ويرهق جسدى لأنه يؤخر جلستى للكتابة!

■ ما بين الإسكندرية والقاهرة.. كيف ومتى وأين تسكن حواس الكاتب القدير إبراهيم عبدالمجيد؟

- حواسى تسكن فى فضاء الوطن. كتبت وما زلت عن القاهرة بعد أن صارت سرابًا كما الإسكندرية، صارت حلمًا ضائعًا. ما رأيته فى القاهرة، منذ استقرارى بها فى منتصف السبعينيات، ضاع أو تغير. حواسى مع الأحلام الضائعة التى جعلتنى أعيش الحياة الضائعة كحقيقة، ومن هنا يأتى الفن، فالخيال مهما استمد مفرداته من الواقع، إذا نظرت بدقة، ترى أن الواقع فيه خيال مُضىء فى أفق الفضاء.

■ ماذا يتبقى من «سكندريتك»؟ هل بالفعل أنت فى حالة خصام وحزن مما آلت إليه الأحوال فى مدينة المولد؟

- طبعًا أنا فى حالة حزن. مدينة كنت تمشى على أرضها تشعر بأن تحت قدميك تاريخًا للعالم، لا تستطيع أن تمشى بينها الآن وسط الزحام الذى يجعلك لا تشعر بما حولك ولا ما تحت قدميك من تاريخ، فضلًا عن تغير العادات بعد «الهجمة الوهابية»، التى جاءت منذ حكم «السادات»، فضاعت سينما ومسارح وملاهى المدينة وغير ذلك كثير.

أضف إلى ذلك الفساد الذى شوه شمال وجنوب وشرق وغرب المدينة، وجعلها عشوائيات فى البناء. رغم كل ذلك، تظل أجمل هدية من الله هى الكتابة، التى تجعلك تقيم المدينة من جديد وتعيش بينها!

■ كتبت كثيرًا عن «ترييف المدن»، وتحديدًا الإسكندرية.. كيف تفسر للقراء هذه الإشكالية؟ وما أسبابها من وجهة نظرك؟

- «الترييف» له جانب مقصود وآخر طبيعى. الجانب المقصود يرتبط بما ذكرته قبل قليل عن «سياسة السادات» فى فتح باب «الأفكار الوهابية»، ومنها مثلًا قراره بأن من يبنى مسجدًا أو زاوية فى عمارة يُعفى من مخالفات البناء، ما أدى إلى حدوث العشوائيات.

الناس تتصور أن العشوائيات مبان صغيرة غير منظمة، والحقيقة أن الأبشع المبانى العالية التى لا تحترم قانون البناء. قانون البناء، منذ عصر الخديوى إسماعيل، يجعل ارتفاع المبنى لا يزيد على مرة ونصف لعرض الشارع. شارع عرضه مثلًا ١٠ أمتار، يكون البناء ١٥ مترًا، أى ٥ طوابق، وشارع عرضه ٦ أمتار، يكون البناء ارتفاعه ٩ أمتار أى ٣ طوابق، وهكذا.

مع قرار «السادات» صارت العمارت ترتفع لـ١٠ أدوار وأكثر فى شوارع عرضها ٦ أمتار، فمُنعت الشمس والهواء عن الناس، وتحول الكثير منها إلى أوكار عصابات ومخدرات، علمًا بأن الأمر لم يشمل الإسكندرية فقط، بل كل المدن، واستمر حتى الآن.

■ وماذا عن الجانب الطبيعى فى «ترييف المدن»؟

- الجانب غير المقصود أقصد به الرحلة الكبيرة للمصريين إلى المملكة العربية السعودية، منذ بدأت سياسة «الانفتاح الاقتصادى» مع «السادات» أيضًا، عام ١٩٧٥، وارتفاع أسعار كل شىء منذ ذلك الوقت.

موجة الهجرة كانت كبيرة جدًا من الريف إلى السعودية، والطوابير كانت لا تنتهى أمام القنصلية السعودية فى القاهرة للحصول على تأشيرة السفر، قبل أن يعود هؤلاء بـ«الأفكار الوهابية»، وشجعهم ماعادوا به من أموال للاستثمار فى المدن، ولم يكن أمامهم إلا البناء العشوائى، ووجدوا فى الفساد الذى عم البلاد ما يساعدهم على ذلك.

الآن تخلصت السعودية من هذه الأفكار، لكنها تمكنت فى مصر. ليس مهمًا أنها فى الفكر والعادات، بل هى أيضًا شملت السلوك والملابس والموقف من المرأة وغير ذلك كثير جدًا.

■ لماذا تهاجم السادات دائمًا؟

- حين فتح «السادات» باب الديموقراطية سرعان ما عاد إلى إغلاقه، وقال عبارته الشهيرة: «الديموقراطية لها أنياب»، بالتزامن مع فتح سجونه أيضًا. هو الذى أطلق على نفسه «الرئيس المؤمن»، واختصر السلطة فى ذاته، وفتح الباب لبيع كل إنجازات عبدالناصر، فى التعليم والصحة والصناعة والزراعة وغيرها.

■ المخرج الأمريكى الراحل إيليا كازان سبق أن قال: «إنتاج الفنون لم يكن إلا لتسلية الجماهير والشعوب».. هل تتفق مع ذلك؟

- المتعة والتسلية مهمة جدًا، والأفكار الكبرى لا تأتى بشكل مباشر، بل يُترك أمرها لفهم الجمهور. الأفلام ليست دروسًا فى مدرسة، والمتعة طريق الفكر، وفى السينما عمومًا، هناك اتجاهات مختلفة بين الكوميدى والتراجيدى والخيال العلمى، وكلها للمتعة أولًا. أما الفكر فيأتى فى خلفية الأحداث وليس بشكل مباشر.

ومهما حدث فى العالم ستظل الفنون والآداب هى حارسه، ولن تنتهى أبدًا. هذه غريزة أودعها الله فى البشر منذ بنوا المعابد ورسموا الآلهة القديمة، وكتبوا القصص عن العدل والحب وغيرها الكثير. الفنون والآداب عابرة للحدود دائمًا، ووطن من ضاع وطنه.

وخلود أى من أعمال الفنون والآداب يحدده الزمن والقراء أو المشاهدون. لا يُعنى به عقليًا الكاتب أو الفنان، لكنه روحيًا موصول به، فهو يشعر بأنه يتجاوز بما يفعله ما استقرت عليه الأشكال الأدبية والفنية، وأنه موصول بالإلهام ويترك عليها لمسته ونبض روحه.

■ هل ينتهى حلم الكاتب أو الفنان بالخلاص مع الانتهاء من كتابة نصه؟

- الخلاص معنى لا ينتهى، وكما قال جابرييل ماركيز يومًا: «هناك عشرات الروايات يتمنى أن يكتبها لكن العمر لا يسمح». المهم أن يؤمن الكاتب بأنه ليس وحده فى هذا العالم، وأن الأجيال تتابع، فلا يدخل فى معارك تافهة.

الخلاص الوحيد هو الجنة أو المدينة الفاضلة، وهذه من صنع الله سبحانه وتعالى. أما الفنون فمن صنع الإنسان، وتظل مثالًا عابرًا للزمان، مثل المسلات المصرية التى ترتفع مُحدبة إلى السماء، وتشير إلى رحلة الصعود ليوم الحساب، ومثلها الأهرامات.

■ ما الذى يمثله لك خبر اختيار روايتك «بيت الياسمين» من قبل الكاتب عماد يوسف النشار لتقديمها سينمائيًا؟

- السيناريست عماد يوسف النشار يعيش فى الجنوب بعيدًا عن القاهرة؛ لذا أسعدنى جدًا اختياره ومتابعته أعمالى وغيرى، ونشرت الخبر راجيًا أن يهتم به صناع الأفلام والمسلسلات. أتمنى أن يحدث ذلك، ولا يستمر الأمر مع هذه الرواية العجيبة كما هو.

هى رواية عن شخص سميته «شجرة محمد على»، أُوكِلت إليه قيادة العمال فى شركة بالإسكندرية للقاء الرئيس السادات فى الشارع. عشت ذلك ورأيته. فى الطريق قال لهم: لو لم نذهب لن يعرفوا، خاصة أن الأوامر صادرة لكل الشركات.. خذوا نصف المبلغ المقرر لكل منكم، واذهبوا حيث تريدون.

وجد معه مبلغًا كبيرًا مما اقتطعه منهم، فقضى يومًا جميلًا فى المطاعم، وفكر هل يمكن أن يفعل ذلك دائمًا. لـ١٠ سنوات، هى أيام حكم «السادات»، ظل يفعل ذلك، وترتفع مكافأة العمال فيرتفع ما يقتطعه منها حتى اشترى شقة فى منطقة «الدخيلة» التى يعيش بها وتزوج.

للأسف يحدث معى ما فعله «شجرة»! بعتها إلى السينما ٣ مرات منذ صدورها عام ١٩٨٦، وحصلت على مكافأتى عن التنازل عنها من ٣ شركات، ومع ذلك لم تُنتج حتى الآن.

أتذكر ذلك دائمًا وأضحك، وأتمنى أن ينجح السيناريست الموهوب عماد يوسف النشار فى بيعها، خاصة أنه غيّر تاريخها ومكانها، وجعلها قبل يوليو ١٩٥٢ «حتى تمر». بالمناسبة هو وغيره أجروا معالجات فنية لأكثر من رواية لى، لكن للأسف للصُناع رأى آخر.

■ تتناول دائمًا المشهد السياسى والاجتماعى فى غالبية مقالاتك.. كيف ترى مستقبل العيش والحريات فى مصر؟

- الحرية والعدل والمساواة أمل البشرية منذ بداية التاريخ وتكوّن المجتمعات. «الروشتة» أو العلاج الوحيد هو حياة ديموقراطية، مع العلم بأن الديموقراطية هى درجات فى سلم طويل، والمهم هو أن نعود لصعود السلم التى بدأت فيه مصر بعد «ثورة ١٩١٩» وأوقفته «يوليو ١٩٥٢». كنا نمشى فى طريق «الليبرالية» وقتها، رغم أى ظواهر غير مُرضية. هل تعرف مثلًا أن الملك فاروق كان تقربيًا قد فقد كل مميزات الملك قبل ١٩٥٢. كانت الأحزاب وعلى رأسها «الوفد» هى التى تقود البلاد. بعد ذلك، توقف طريق «الليبرالية» فصرنا إلى ما نحن فيه. أكتب فى ذلك المقالات نهارًا لأرتاح، وأجعل الليل للرواية، فالفن بالنسبة لى روح أكثر منه عقلًا.. هكذا أعيش.

■ من واقع مطالعاتك وانفتاحك على كل التيارات الإبداعية.. كيف ترى المشهد الروائى المصرى والعربى؟

- المشهد عامر بالكُتاب والمبدعين فى كل العالم العربى، والأسماء كثيرة من الكُتّاب والكاتبات، وأعجز عن ذكرها كلها طبعًا، الحقيقة أن المشهد الإبداعى فائق الجمال.