الإثنين 11 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

الترويسة الأخيرة.. هذا زمن «السوشيال ميديا»!

حرف

فى إطار عملها الصحفى والثقافى، تحرص «حرف» على استكشاف ومطالعة كل ما هو جديد فى ساحة النشر الدولية والإقليمية، فى توجه تنحاز إليه لتعريف القارئ المصرى والعربى بكل ما ينتجه العالم من معارف وثقافات وكتابات.

ومن خلال زاوية «ماذا يقرأ العالم الآن؟» تأخذ «حرف» قراءها فى جولة خاصة داخل أبرز المكتبات ودور النشر العالمية، لتعريفهم على المنتج الإبداعى الغربى، وأبرز الأعمال الجديدة الصادرة مؤخرًا، فى مجالات الرواية والسياسة والثقافة والسينما والمغامرة.

فى هذا العدد، نلقى الضوء على كتابين حديثين صدرا العام الجارى، عن صناعة النشر والكتب والصحافة والإعلام، هما «إمبراطورية النخبة» و«عندما كانت الأمور جيدة»، ويناقشان تلاشى مجد الصحافة المطبوعة فى الولايات المتحدة وكيف كانت قوية ومؤثرة فى العقود الماضية قبل ظهور مواقع التواصل.

Empire of the Elite.. مايكل جرينباوم: مستقبل أمريكا بلا مجلات بعد انهيار مجد «كوندى ناست» 

صدر كتاب «إمبراطورية النخبة» «Empire of the Elite» فى ١٥ يوليو الجارى عن دار نشر «سايمون آند شوستر»، وهو من تأليف الكاتب الصحفى المرموق مايكل جرينباوم، المتخصص فى الإعلام والثقافة. 

الكتاب، الذى تصدّر قائمة الأكثر مبيعًا فى فئة «النشر» خلال أيام من صدوره، يتناول تاريخ وأسرار شركة «كوندى ناست» المالكة لأبرز المطبوعات الصحفية والإعلامية الورقية فى الولايات المتحدة، وعلى رأسها مجلات «فوج»، و«فانيتى فير»، و«نيويوركر»، وغيرها.

ويركّز المؤلف على تأثير هذه الإمبراطورية الإعلامية التى أسهمت فى تشكيل ملامح أمريكا، خاصة خلال عصرها الذهبى الممتد من ثمانينيات القرن الماضى وحتى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، قبل أن تُحدث وسائل التواصل الاجتماعى انقلابًا فى المشهد الإعلامى.

ويكشف «جرينباوم» كيف أسهمت تلك المجلات فى صياغة عادات القراءة، والاتجاهات الثقافية، والمواقف الفكرية، والمعتقدات السياسية، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل فى مختلف أنحاء العالم.

ورغم أن قصة «كوندى ناست» لم تُؤخذ فى الاعتبار خلال ذروة ازدهارها، فإن كتاب «إمبراطورية النخبة» يعد أول عمل يوثّق تاريخ هذه المؤسسة التى أعادت مطبوعاتها الصحفية صياغة المفاهيم الأمريكية حول كل شىء: من المظهر والطعام والتزيين، إلى المواعدة والزواج، وحتى طرق التفكير. 

وأصبح محرروها أنفسهم من المشاهير، وكان مالكها الملياردير سى نيوهاوس، إلى جانب نخبة من المحررين والمصورين والكتّاب النجوم، بمثابة حراس الثقافة فى أمريكا، يقررون ما هو المهم ومن هو المهم، ويعرضون تلك الرؤى والاتجاهات على عشرات الملايين من القراء شهريًا، ليكونوا بذلك المؤثرين الفعليين قبل ظهور «السوشيال ميديا».

ويوثّق «جرينباوم» فى كتابه، الذى يقع فى ٣٦٨ صفحة، قصص الشخصيات التى سيطرت على أشهر المجلات الأمريكية، كاشفًا عن أسرار دار نشر وشركة إعلامية تعكس ثرواتها ثروات صناعة المجلات ككل. حيث أعادت «كوندى ناست» فى أيام مجدها تعريف الثقافة الراقية. 

ويبدأ السرد من مولد مؤسسها «كوندى مونتروز ناست» فى مدينة سانت لويس، حيث نشأ حفيدًا لواعظ وابنًا لأم عزباء بعد أن تركهما والده وهو فى الثالثة من عمره، وفى جامعة «جورجتاون» صادق «ناست» وريث دار النشر «روبرت كولير»، وفى عام ١٨٧٩ أصبح محررًا فى مجلة «كولير» الأسبوعية، حيث نشر أعمال كتّاب بارزين مثل جاك لندن وأبتون سنكلير. لاحقًا، تزوّج ناست وريثة واشترى جريدة اجتماعية متعثرة تُدعى «فوج» عام ١٩٠٩، ووسّع قاعدة قرائها من الأثرياء إلى جمهور أوسع من الطبقة الوسطى.

ويُطلق المؤلف على استراتيجية «ناست» التحريرية اسم «الحصرية الشاملة»، ويشرح كيف أنها كانت أكثر ربحية فى جذب أموال الإعلانات مقارنة بأساليب التسويق الجماهيرى، كما فى مجلة «ليديز هوم جورنال». 

ومن هذا المنطلق، جمع «ناست» بين مجموعة من المجلات التى اشتراها أو أنشأها، بما فى ذلك «هاوس آند جاردن»، و«فانيتى فير»، و«جلامور». وعند وفاته عام ١٩٤٢، كتبت مجلة «تايم» أنه كان الرجل الذى استلهم منه الملايين معظم أفكارهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، حول مستوى المعيشة الأمريكى المرغوب.

وبعد ١٧ عامًا، اشترى «نيوهاوس» الأب شركة «كوندى ناست» للنشر، وكان يمتلك حينها مجموعة من الصحف الإقليمية التى وفّرت له دخلًا مريحًا، مكّنه من العيش بين قصر فاخر فى جزيرة ستاتن وشقة دوبلكس فى بارك أفينيو. 

فى ذلك الوقت، كانت الشركة متعثرة، وقيل إن مجلة «فوج» لم تكن سوى لعبة فى يد زوجته «ميتزى»، لكن خلال سنوات قليلة انتقلت المجلة إلى يد ابنه المفضل «صامويل إيرفينج نيوهاوس»، المعروف بـ«سى نيوهاوس»، الذى وصف نفسه بأنه غريب عن عائلته، بعدما اضطر للالتحاق بجامعة «سيراكيوز» إثر رفض «هارفارد» و«كورنيل» قبوله.

وعندما توفى والده عام ١٩٦٢، تولّى صامويل إيرفينغ نيوهاوس، المعروف بـ«سى»، رئاسة مجلس إدارة «كوندى ناست»، التى كانت تُعرف ببذخها التحريرى وأناقتها الراقية، لكنها لم تكن مربحة بالقدر الذى توحى به صورتها العامة. 

فبحلول التسعينيات، لم يتجاوز هامش ربح الشركة ٥٪، فى حين ورث شقيقه الأصغر، دونالد، الصحف الإقليمية التى شكّلت المصدر الحقيقى للدخل، البقرة الحلوب التى أبقت الإمبراطورية واقفة. 

وبينما كانت صفحات الإعلانات الفاخرة فى مجلات «كوندى ناست» تُعد مصدرًا رئيسيًا للربح، ظل «سى» ينظر إليها بوصفها تجسيدًا للذوق والنفوذ، لا مجرد وسيلة اقتصادية.

لكن تحت قيادته، توسعت قائمة مطبوعات «كوندى ناست» لتشمل عناوين فاخرة مثل «أركيتكتشرال دايجست»، ونسخة جديدة من «فانيتى فير»، و«نيويوركر»، إلى جانب المجلات الأساسية مثل «فوج، وجى كيو، وجلامور».

وأنفق «سى» مبالغ طائلة سعيًا وراء النفوذ الثقافى، حتى أصبح نهج شركته فى الإنفاق أسطوريًا، ووضعت «كوندى ناست» نفسها كبوابة للحياة الراقية، حيث لا يُباع المحتوى فقط، بل يُباع الحلم.

ومع ذلك، كما يوضح مايكل جرينباوم فى كتابه «إمبراطورية النخبة»، فإن نجاح «كوندى ناست» فى الثمانينيات والتسعينيات لم يكن نتيجة التمسك بالثقافة الراقية وحدها، بل بفضل استعدادها لاحتضان الثقافات الشعبية الأخرى. 

وأدخلت المجلات نجوم البوب، وشخصيات التليفزيون، والقصص الشعبية إلى عالم النخبة، وأعادت بناء رأس المال الثقافى ليناسب حساسيات طبقات المجتمع الأمريكى الناشئة، تلك التى لم تكن تهتم كثيرًا بالباليه أو الأوبرا، لكنها تبحث عن معنى فى الموضة، والموسيقى، والقصص التى تشبهها.

وتبرز عدة مواقف مفصلية فى تاريخ مطبوعات «كوندى ناست»، حين يُنظر إليها بأثر رجعى، وتُظهر كيف قبل محرروها تدريجيًا الثقافة المحيطة بهم، بل ساهموا فى تشكيلها. 

ففى عام ١٩٨٤، نشرت مجلة «جى كيو» تقريرًا عن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مهّدت من خلاله الطريق لكتابه الشهير «فن الصفقة»، الذى صدر لاحقًا عن دار راندوم هاوس، وهى دار نشر أخرى تابعة لـ«سى نيوهاوس». 

وفى عام ١٩٨٩، ظهرت «مادونا» لأول مرة على غلاف مجلة «فوج»، فى لحظة رمزية جمعت بين الموضة الراقية والنجومية الشعبية، أما مجلة «نيويوركر»، فقد غطّت محاكمة أو. جيه. سيمبسون عام ١٩٩٤، فى خطوة أثارت جدلًا داخل المؤسسة.

كانت تلك التغطية جزءًا من رؤية تينا براون، التى تولّت رئاسة تحرير «نيويوركر» عام ١٩٩٢ بعد عقد من العمل فى «فانيتى فير»، وعبّرت براون عن فلسفتها التحريرية بقولها إنها أرادت «جعل المثير جادًا، والجاد مثيرًا»، وهو توجه أثار تذمر بعض المحررين المتشددين الذين رأوا فيه انزلاقًا نحو الإثارة المبتذلة. لكن كما يوضح مايكل جرينباوم فى كتابه، فإن «براون» لم تكن تُضعف من شأن «نيويوركر»، بل كانت توسّع نطاق العالم الذى تُطبّق فيه ذكاء المجلة، وتعيد تعريف ما يمكن أن يكون جديرًا بالاهتمام الثقافى.

وكان هذا التوسع التحريرى جزءًا أساسيًا من مهمة «كوندى ناست»، ونجح نجاحًا باهرًا فى إعادة تعريف الذوق العام، فقد رفعت مجلة «فوج»، بقيادة آنا وينتور، من شأن موضة الشارع، وروّجت لصناعة مصممى الأزياء وسفراء العلامات التجارية من المشاهير الذين هيمنوا لاحقًا على وسائل الإعلام المتخصصة فى أسلوب الحياة، لم تعد الموضة حكرًا على النخبة، بل أصبحت لغةً شعبيةً راقية، تُعبّر عن الهوية والطموح والسلطة الثقافية.

ويتحدث مايكل جرينباوم بإسهاب عن شخصيتين محوريتين فى هذا التحول: تينا براون، ابنة منتج أفلام، وآنا وينتور، التى كان والدها رئيس تحرير صحيفة «إيفنينغ ستاندرد» اللندنية. 

ويشير المؤلف إلى رغبتهما الشديدة فى الوصول إلى القمة، وهى رغبة تجسدت فى مسارات مهنية جريئة، ففى عام ١٩٨٣ انتقلت «وينتور» من مجلة «تاتلر» البريطانية للعمل تحت قيادة ليو ليرمان فى محاولة لإحياء مجلة «فانيتى فير» المتعثرة. 

وفى أول لقاء جمعها برئيسة تحرير «فوج» آنذاك، جريس ميرابيلا، سألتها وينتور، وكانت حينها محررة للموضة، عن الوظيفة التى تطمح إليها، فأجابتها بكل وضوح: «وظيفتكِ». 

وبعد خمس سنوات فقط، حصلت «وينتور» على المنصب بالفعل، وتولت رئاسة تحرير «فوج» عام ١٩٨٨، لتبدأ فصلًا جديدًا فى تاريخ المجلة، وتُعيد رسم حدود الموضة والثقافة الشعبية.

ومن وجهة نظر المؤلف، بدا أن المحررين الذكور فى مجموعة «كوندى ناست» أكثر اتزانًا ومعقولية فى طموحاتهم، مقارنةً بنظيراتهم الإناث اللواتى اتسمت مسيرتهن بالاندفاع والتحدى، فقد وُلد جرايدون كارتر لعائلة من الطبقة المتوسطة فى أوتاوا، لكنه بحلول عام ١٩٩٢، حين خلف تينا براون فى رئاسة تحرير «فانيتى فير» بعد انتقالها إلى «ذا نيويوركر»، كان قد راكم سيرة مهنية لافتة، وكتب ملفًا شخصيًا عن دونالد ترامب لمجلة «جى كيو»، وشارك فى تأسيس مجلة «سباى» الساخرة، وأدار تحرير صحيفة «نيويورك أوبزرفر».

أما ديفيد رمنيك، ابن طبيب أسنان من نيوجيرسى، فقد دخل عالم الصحافة من بوابة الإنجاز الأكاديمى، إذ فاز بجائزة بوليتزر قبل أن تعيّنه براون كاتبًا فى «ذا نيويوركر» عام ١٩٩٢، وبفضل شخصيته المحبوبة ومهاراته التحريرية، أصبح لاحقًا رئيس تحرير المجلة عام ١٩٩٨، خلفًا لـ«براون».

وما يجمع بين هؤلاء المحررين، أكثر من مجرد صعودهم المهنى التدريجى، هو إتقانهم عملهم التحريرى؛ فقد امتلكوا رؤى قوية، وكانوا بارعين فى حشد المواهب وتنفيذ الأفكار، كما جسّدوا تحولًا جيليًا كبيرًا فى الثقافة الناطقة بالإنجليزية.

وينتمى هؤلاء المحررون إلى الجيل الذى وُلد بين عامى ١٩٤٥ و١٩٦٠، وهو أول جيل نشأ مع التليفزيون منذ الطفولة، ما منحهم حسًا بصريًا وثقافيًا مختلفًا، ومرونة فى التعامل مع الوسائط الجديدة.

وكان هذا أحد أسباب ارتياحهم لصيغة التحرير المتباينة التى أدخلتها تينا براون إلى «فانيتى فير»، حيث مزجت بين تغطية المشاهير والجدّية التحريرية، وهى الصيغة التى انتشرت لاحقًا فى بقية مطبوعات «كوندى ناست».

تميز الحرس الجديد من المحررين بانفتاحهم فى القضايا الجنسية، وسعيهم غير المقيد وراء الشهرة، دون اعتبار ذلك عيبًا أو تنازلًا، ورغم أن هذا التوجه أثار بعض الاستقالات عند تولّى «براون» رئاسة تحرير «ذا نيويوركر»، إلا أن معظم القراء ومسئولى المجلات باتوا يرونه اليوم جزءًا من التطور الطبيعى فى الصناعة.

لكن، كما يوضح مايكل جرينباوم، فإن مجد «كوندى ناست» بدأ يتلاشى فى القرن الحادى والعشرين، فبعد الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، بدت روح الاستحواذ التى ميّزت الشركة بعيدة عن الواقع، وخضع سجلها المتواضع فى قضايا العرق للتدقيق مع صعود حركة «حياة السود مهمة»، وفى الوقت نفسه، استحوذت وسائل التواصل الاجتماعى على أدوات التنظيم الثقافى، مقوّضةً سلطة صانعى الذوق التقليديين، ومغيّرةً قواعد اللعبة الإعلامية.

وينتهى الكتاب بنبرة حزينة، إذ ينعى «جرينباوم» تراجع الصحافة المطبوعة ونهاية حقبة الوفرة التحريرية، ويرى أن أمريكا والعالم ربما يواجهان مستقبلًا بلا مجلات، أو على الأقل بلا تلك المجلات اللامعة التى شكّلت الذوق العام لعقود. 

ويصف المرحلة المقبلة بأنها عصر الكيانات الإعلامية المجردة من الثقل، ودوامة بائسة من المواقع الإلكترونية، وقنوات اليوتيوب، والأسوأ من ذلك كله، المدونات الصوتية.

When the Going Was Good .. جرايدون كارتر: لم أستعمل مطبخى 5 سنوات بسبب البوفيهات المجانية لـ«تايم»

يتجلّى شعور مماثل لذلك الذى يطرحه كتاب «إمبراطورية النخبة» فى عمل آخر صدر حديثًا بعنوان «عندما كانت الأمور جيدة» «When the Going Was Good»، الصادر فى مارس الماضى عن دار نشر «بنجوين». 

يُعد الكتاب مذكرات شخصية لرئيس تحرير مجلة «فانيتى فير» السابق، جرايدون كارتر، ويستعرض فيه مسيرته المهنية خلال ما يعتبره العصر الذهبى الأخير للمجلات المطبوعة، واختاره النقاد ضمن أفضل كتب عام ٢٠٢٥ حتى الآن، كما تصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعًا فى «نيويورك تايمز».

ويروى «كارتر»، فى نحو ٤٣٢ صفحة، قصة زمن كانت فيه المجلات المطبوعة فى طليعة الثقافة الأمريكية، مستندًا إلى تجربته الطويلة كرئيس تحرير لمجلة «فانيتى فير»، التى أدارها بنجاح ملحوظ على مدى أكثر من ٢٥ عامًا.

وعندما عُرض عليه تولّى رئاسة تحرير «فانيتى فير» عام ١٩٩٢، كان يدرك حجم التحدى: كيف يُعيد تشكيل مجلة عريقة ومرموقة لتكون طوع رؤيته؟ ولم تكن المهمة سهلة، إذ واجه طاقمًا اعتُبر مواليًا للإدارة السابقة، لكنه تجاوز ذلك ليترك بصمته كمحرر يُعد من بين الأكثر موهبةً فى مجاله، باعتراف المتخصصين.

كانت قوة كارتر، كما يصفها، تكمن فى كونه شخصًا عاديًا، مقبولًا فى معظم الأمور، دون أن يكون بارزًا فى أى منها. بعد تخرجه فى المدرسة الثانوية عمل فى صيانة السكك الحديدية فى غرب كندا، وهى تجربة وصفها بأنها أشبه بالحياة العسكرية من حيث الانضباط وروح الزمالة، وبدأ العمل فى مجلة جديدة تُدعى «ذا كانيديان ريفيو» لتمضية الوقت خلال تلك المرحلة المضطربة.

وسرعان ما أدّى تغيير فى إدارة التحرير إلى تولّى «كارتر» رئاسة تحرير المجلة، وهو منصب لم يكن يحمل بريقًا كبيرًا؛ إذ كانت «ذا كانيديان ريفيو» مجلة أدبية بتمويل جامعى، يغلب على محتواها الشعر. 

ورغم انهيار الوضع المالى للمجلة لاحقًا، فقد تذوّق طعم النجاح الحقيقى حين بلغ توزيعها ٥٠ ألف نسخة، وهو رقم يُعد مرتفعًا فى كندا.

وبعد سنوات من العمل فى كندا، حيث وُلد ونشأ، انتقل جرايدون كارتر إلى نيويورك، ليبدأ فصلًا جديدًا من مسيرته المهنية فى عدد من المجلات البارزة مثل «تايم»، و«لايف»، و«ذا نيويورك أوبزرفر»، و«سباى». 

هناك، لفت انتباه سى نيوهاوس، رئيس مجلس إدارة «كوندى ناست»، الذى رأى فيه محررًا استثنائيًا وضمه إلى إدارة مجلة «فانيتى فير».

وحين تحمّس «نيوهاوس» لـ«كارتر»، دعاه إلى شقته وعرض عليه رئاسة تحرير إحدى مجلتيه: «فانيتى فير» أو «ذا نيويوركر»، واختار «كارتر» الأخيرة، براتب ابتدائى بلغ ٦٠٠ ألف دولار، أى ما يعادل نحو ١.٤ مليون دولار اليوم. 

وفى الأسابيع التالية، وضع خطة طموحة لإعادة صياغة المجلة خلال ١٨ شهرًا، لكن كما هى العادة فى «ذا نيويوركر»، لم تخلُ عملية الخلافة من دراما اللحظات الأخيرة، باستثناء أولها عام ١٩٥١، حين توفى المحرر المؤسس أثناء خضوعه لعملية جراحية، فتسلّم نائبه القيادة بسلاسة.

وفى صباح اليوم الذى كان من المفترض أن تُعلن فيه البيانات الصحفية عن تعيين «كارتر»، تلقى اتصالًا غيّر مجرى الأمور.

تختلف الروايات حول من أصر على ماذا، لكن النتيجة كانت اتفاقًا بين «نيوهاوس» وتينا براون، رئيسة تحرير «فانيتى فير» آنذاك، على أن تتولى «براون» رئاسة «ذا نيويوركر»، تاركةً «فانيتى فير» لـ«كارتر»، الذى لم يُخفِ خيبة أمله.

رغم ذلك، شرع «كارتر» فى تحويل «فانيتى فير» إلى مركز نابض للفن والثقافة والسياسة، جامعًا تحت سقفها نخبة من الكُتّاب والمصورين، ومصطحبًا القراء إلى موائد الغداء والعشاء مع كبار الشخصيات فى أمريكا وبريطانيا وأوروبا. 

حتى مع صعود الإعلام الرقمى، ظل «كارتر» وفيًا لصناعة الصحافة، موثقًا العاملين فيها بحب وعاطفة عميقين، من صحفى صغير إلى مؤسسة مرموقة فى نيويورك، تُوّجت بفترة رئاسته التى امتدت ٢٥ عامًا، أسس خلالها حفل «فانيتى فير» الشهير لما بعد جوائز الأوسكار.

مذكراته عن تلك الحقبة تجعل أى صحفى اليوم يشعر بالغيرة وربما بالمرارة، إذ يصف زمنًا كانت فيه حسابات النفقات بلا حدود، وجلسات التصوير باهظة، والرفاهية جزءًا من يوميات العمل. 

يكتب عن أول وظيفة له فى مجلة «تايم» فى منتصف سبعينيات القرن الماضى، ويقول ساخرًا: «كان هناك بوفيه فى نهاية كل ممر فى مقر المجلة، حتى إننى لم أشغّل فرنى المنزلى لمدة خمس سنوات».

وكانت المجلة بمثابة نادٍ للشباب الطموحين من خريجى الجامعات العريقة، حيث تجوب عربات الطعام الممرات محملة بالعشاء والنبيذ، وتنقل سيارات الشركة الموظفين إلى منازلهم، أو فى الصيف، إلى منازلهم المستأجرة فى لونغ آيلاند.

ويقول «كارتر» إن مجلة «فانيتى فير» كانت تملك ميزانية بلا سقف، وكانت تأتى بامتيازات قد تجعل حتى محرر مجلة «تايم»- التى عمل بها محررًا فى بداياته- يشعر بالخجل.

وكشف عن أن شركة «كوندى ناست»، المالكة لمجلة «فانيتى فير» التى ترأسها لمدة ٢٥ عامًا والمالكة لعدة مجلات شهيرة أخرى، كانت تقدم لرؤساء تحريرها قروضًا سكنية دون فوائد، ووفرت لكل محرر كبير مساعدًا، وكانت تُقل المحررين إلى منازلهم فى سيارات عندما يتأخرون فى العمل.

وكان يكفى إنجاز بعض المهام الصحفية الصغيرة سنويًا، أو مهمة رئيسية كل عامين، لتغطية الإيجار، أما بالنسبة للمحررين الشباب فقد كانت المجلات مؤسسات أبوية حقيقية، تقدم الدعم داخل مقر المجلة وخارجها.