السبت 23 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

عبدالوهاب عبدالمحسن: أنا الوحيد فى مصرالذى يمتهن «فن الجرافيك»

حرف

-سوق الجرافيك فى مصر غير ممهدة ما يدفع الفنانين إلى التصوير والنحت

-مقتنياتى فى 17 متحفًا حول العالم.. وجميعها «حفر على الأخشاب»

-عملى فى «قصور الثقافة» أكسبنى خبرات فى التعامل مع الأقاليم والفلكلور

-جماعة الإخوان مدعومة من إسرائيل وربنا يحب مصر لأنه أعطاها أعداءً أغبياء

من قلب محافظة الدقهلية التى ولد فيها، انطلقت مسيرة الفنان الدكتور عبدالوهاب عبدالمحسن، التى مرت بتحولات فنية كبيرة منذ أن التحق بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة فى جامعة الإسكندرية عام 1976، حتى أصبح واحدًا من أهم وأشهر الفنانين التشكيليين المصريين والعرب. ومنذ تفجر موهبته، بدأت علاقة استثنائية بينه والطبيعة التى احتضنته، فاستلهم منها أدواته ورؤاه، بدءًا من الحفر على أخشاب الأشجار بفعل ندرة الإمكانيات، وصولًا إلى استخدام الجرافيك والرسم بالرصاص وغيرها من الوسائط التعبيرية.

وأثمرت تلك التجربة المتفردة عن أعمال اقتناها ما يزيد على 17 متحفًا حول العالم، لتشكل سجلًا بصريًا لحس صوفى مفعم بالتجلى والسمو، مدفوعًا بجماليات البيئة المحيطة: بحر، وبحيرة، وساحل، ونخيل، ومزارع سمكية، وخُضرة آسرة.

ولأن الطبيعة لا تخذل من يتماهى معها، فقد كوفئ هذا العام بالفوز بجائزة الدولة التقديرية فى مجال الفنون لعام 2025، تقديرًا لإسهاماته البارزة فى إثراء الحركة التشكيلية المصرية. 

وامتدت تأثيراته إلى تأسيس قسم الجرافيك بجامعة الزيتونة الأردنية، وتولى مناصب متعددة داخل هيئة قصور الثقافة، فضلًا عن مشاركته فى عشرات المعارض الفردية المحلية والدولية، وعضويته فى لجان التحكيم الفنية. والتقت «حرف» عبدالوهاب عبدالمحسن فى حوار فتح خلاله باب الذاكرة والتأمل، حول رؤاه، ومحطات حياته، ومنهجه الفنى الذى جعل من الطبيعة حليفةً له.

■ أكثر من نصف قرن عمر تجربتك الفنية منذ تخرجك فى قسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية عام ١٩٧٦ وحتى فوزك بجائزة الدولة التقديرية لعام ٢٠٢٥.. رحلة طويلة من العمل لدعم الحركة الفنية وتفعيل الفن فى الحياة.. كيف تلخصها لنا؟

- منذ أن تخرجت فى كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية سنة ١٩٧٦ ومثل أى شاب دارس للتخصص لم يعرف تطبيقه إلا من خلال الكلية، وكان من المفترض لأنى كنت الأول على الدفعة ولم يتم تعيينى، أن أبحث عن تقنية أعمل بها فى المنزل من غير الاعتماد على إمكانيات الكلية، والفرصة الوحيدة التى مكنتنى من إنجاز ذلك هى الحفر على الخشب.

وبالتالى بدأت تجربتى فى «Wood Cut» أو الحفر على الأخشاب لفترة استمرت حوالى من ٣٥ إلى ٤٠ سنة، وهى تجربتى الأساسية أو ركيزة تجربتى الإبداعية. وجربت فى فن الجرافيك وشاركت فى كل المحافل الدولية، حيث عرضت فى معظم البيناليهات والتريناليهات حول العالم؛ وبالتالى حصلت على عدة جوائز، ولى مقتنيات فى نحو ١٧ متحفًا على مستوى العالم وجميعها أعمال «حفر على الأخشاب»، ومن ثم بدأت أمارس أشياء أخرى من خلال الرسم بالقلم الرصاص، و«الفيديو آرت»، والنحت، واستمرت التجربة الأخيرة بين الجرافيك «النحت على الأخشاب» والرسم. فى الوقت نفسه، مارست العمل العام من خلال الهيئة العام لقصور الثقافة، حيث توليت رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية، وهو ما أكسبنى خبرات فى التعامل مع الأقاليم والفلكلور المصرى فى كل أقاليم مصر، كما اكتسبت خبرة فى تنظيم المهرجانات والفعاليات، وبناء عليه أقمت ملتقى البرلس لكى أخدم بيئتى من خلال نشر الفنون فى الشارع بدلًا من تواجدها فى الجاليريهات. وكنت قد عملت فى بداية حياتى فى أقسام الفنون التشكيلية فى «قصور الثقافة»، وحصلت على درجتى الماجستير والدكتوراه، وانتقلت للجامعة ودرّست فيها لنحو ١٣ سنة كأستاذ تصميم و«جرافيك آرت».

تجربتى مبنية على استلهام الطبيعة والتعبير عنها؛ لأننى أعيش فى بيئة ممتدة، ولم يحدث أن انقطع التواصل فى حياتى بين الطبيعة التى أعيش فيها، وبالتالى فإن الطبيعة هى الملهم بالنسبة لى وهى التى تُجيب لى عن كل الأسئلة من خلال معطياتها، من خلال اللون والشكل والإيقاعات والإلهام والأفكار والخيال.

■ ماذا عن عودة «ترينالى الجرافيك» هذا العام بعد سنوات من التوقف ومشاركتك فيها بلوحات من عالم «كلاب الشوارع»؟

- أعتبرها فرصة رائعة لإحياء فن الجرافيك بعد أن كان قارب على الاندثار والتهميش، وأعتبرها خطوة محمودة لوزير الثقافة د. أحمد فؤاد هنو، ود. وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية أن يعيدا لنا «ترينالى الجرافيك» هذا العام والفعاليات الكبرى.

ومن المفترض على مسئولى الثقافة فى مصر أن يعلموا جيدًا أن لهم ريادةً على مستوى الوطن العربى، وبالتالى عليهم ألا ينسوا هذا الدور أو هذا التوجه، وبالتالى فالحفاظ على الأعمال الكبرى والمهمة لا بد أن تكون هدفًا وغايةً لهم، على أساس أن مصر رائدة طول عمرها، خاصة وأن لدينا ٦ كليات فنون جميلة فى مصر بها أقسام للجرافيك وأعضاء هيئة تدريس، وبالتالى فإن خريجى هذه الكليات لا بد من أن يجدوا فعاليات لهم ومعارض نوعية.

وفى هذا العام تم تكريمى فى «ترينالى الجرافيك»، وأعتقد أن لىّ الشرف فى هذه السن أن أكون الوحيد فى مصر ممن يعمل فى «فن الجرافيك»، وبالتالى أعتبر ذلك نموذجًا للشباب أن يقتدوا به وأنه من الممكن أن يعملوا فى «الجرافيك» طوال حياتهم، وبالتالى تحقيق ذواتهم من خلال هذا الفن.

■ رسالتك للماجستير كانت بعنوان «فن الجرافيك المعاصر بالإسكندرية».. حدثنا عن ذلك؟

- كان الهدف من رسالتى للماجستير بحث ملامح فنون الجرافيك فى الإسكندرية ومصادر الإلهام، والسمات المشتركة بين فنانى الثغر؛ وبالتالى كانت فرصة رائعة أن أتعرف إلى أساتذتى ومصادر إلهامهم ومراجعهم، وأختبر أيضًا تأثير ذلك علىّ.

■ تحت عنوان «رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبى العلاء المعرى من خلال «فن الحفر» نلت دكتوراه الفلسفة فى الفنون الجميلة من جامعة حلوان ١٩٩٨.. ما العلاقة بين رسالة الغفران وفن الحفر؟

- «رسالة الغفران» تتضمن عمقًا فلسفيًا بالإضافة إلى الخيال، وقتها قمت بعمل نص بصرى موازٍ لرسالة الغفران مستلهمًا طريقة أبى العلا المعرى فى التفكير وفى الرواية وصوته الشعرى الذى اعتمد عليه فى كتابتها، كما اعتمدت على الرواية بالنسبة للون على السطح والإيقاعات، حيث قمت ببناء تجربتى من نفس المنطق الفلسفى لأبى العلاء المعرى ورسالته «الغفران»، وكأننا نرى الطبيعة من خلال خيالنا، ونرى العالم من خلال خيالنا، وبالتالى نضع رؤيتنا الخاصة من خلال موضوع الرسالة.

■ يدور حديث نحو الاستثمار فى القطاع الثقافى المصرى.. ما مقترحاتك فى هذا الصدد؟

- أرى أن ذلك من الممكن أن يتحقق من خلال زيادة منافذ البيع خاصة لأعمال الشباب؛ ومنها مشاريع تخرجهم على أساس أن هؤلاء الشباب يحتاجون للاستمرارية وللإنفاق على أعمالهم؛ من خلال تسويق أعمالهم من خلال تلك المنافذ، وبالتالى سيكون له دور فى رفع الذوق والذائقة، وتشجيع الشباب على بيع منتجاتهم بأسعار فى متناول الجميع، وعلى وزارة الثقافة أن تقوم بفتح منافذ لبيع الأعمال التشكيلية، وأن يتواجد فى كل قاعة من قاعات الدولة شخص متخصص فى التسويق، وأن تقوم الدولة بدورها فى التسويق لتلك الأعمال حتى لا يُترك الفنان «نهيبة» لبعض الجاليريهات أو لبعض تجار الفن، وبالتالى سيؤثر ذلك على استمرارية الفنان وتواجده طوال عمره.

■ كيف ترى مستقبل الفن التشكيلى المعاصر فى مصر؟

- أكثر ما يسعدنى فى الحركة التشكيلية المصرية أعمال الشباب الجدد؛ ومنها مشاريع تخرجهم التى أعتبرها من أجمل ما يمكن، وكذلك لا بد من أن نضع أعيننا على هذه الومضات التى تضىء ونقف بجوارها وندعمها ونكبرها، ولدى أمنية لهم أن يقوموا بعمل فن مصرى خالص ويمثلهم ويمثل بيئاتهم وشخصياتهم، وأتمنى من هؤلاء أن يكونوا على اتصال دائم بالقراءة حتى تتشكل تجاربهم الفنية استنادًا على ثقافة وخيال.

وأعتبر أن الحركة الشبابية فى مصر فى أرقى فتراتها وازدهارها، وبشكل شخصى أسعد كثيرًا بتجارب الشباب، وأفتخر بها وأرى دائمًا أن مصر ولادة، وأنا مطمئن على مستقبل الفن التشكيلى فى مصر، ولكن علينا التركيز أكثر على الهوية والانتماء والخصوصية، وبالتالى أرى أنه ستكون لدينا حركة طليعية فى مصر ينتقل تأثيرها للعالم.

■ شاركت فى مئات المعارض داخل وخارج مصر.. ما الفارق بينهما؟

- شاركت فى معارض دولية نوعية لـ«الجرافيك»، تتنوع بين «البالينهات» و«التريناليهات»، والفارق بين المعارض الدولية والمحلية المتعلقة بـ«الجرافيك»، نابع من كونه فنًا له علاقة وثيقة بالتقنيات الحديثة، وفى الخارج متفهمون أكثر لهذا الارتباط. أما سوق «الجرافيك» فى مصر فهى غير ممهدة، لذا يلجأ الفنانون هنا إلى التصوير والنحت، وهو أمر يجعل من عودة «الترينالى» فى مصر أمرًا مهمًا للغاية.

■ هل تواجه أى صعوبات فى توفير خامات «الجرافيك»؟

- أؤكد أنها متوافرة تمامًا، لكن ما يؤخذ على سوق «الجرافيك» المصرية أنها فى حاجة إلى رواج، بحيث يُقبَل المُنتَج بشكل جيد، وهو أمر يحتاج إلى تمهيد وعى المتلقى لاستقبال هذا المُنتَج، ويمكن فعل ذلك من خلال دعم المؤسسات، عبر شرائها أعمال «الجرافيك» بدلًا من نسخ التصوير.

على هذه المؤسسات، سواء وزارات أو بنوك أو فنادق، شراء الأعمال الفنية الأصلية، خاصة أنها بمثابة أصول تنمو مع الزمن. لكن للأسف، هذه المؤسسات تعمد إلى شراء «المستنسخات» وليس الأعمال الفنية الأصلية، خاصة مع محدودية الميزانيات. وأؤكد أنه لو أُحسن تنظيم اقتصاديات فن «الجرافيك»، سيساعد ذلك فى انتشار هذا الفن، ونمو الذائقة الجمالية الفنية عند الجمهور، علمًا بأن الحكومة تشترى «مستنسخات» من الصين، فى إهدار للمال العام، لذا أدعو لشراء أعمال الفنانين المصريين لتشجيعهم على الاستمرار.

■ ألم تفكر فى كتابة مذكراتك لتوثيق مسيرتك الفنية التى تتجاوز ٥٤ عامًا عن قرب؟

- انتهيت من كتابة مذكراتى بالفعل، ويُنتظر أن تصدر عن دار «بتانة» للنشر، ضمن إصداراتها فى النسخة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، وهى تتضمن سيرتى الذاتية، بداية من النشأة والطفولة وحياة القرية، ثم انتقالى إلى المدينة فى عمر ١٢ عامًا، وإقامتى لوحدى بعيدًا عن الأهل، ثم تعليمى الثانوى فى بلقاس، ومنها الذهاب للدراسة فى كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، وتفوقى الدراسى وحصولى على الطالب المثالى ثم تخرجى. وتتضمن مذكراتى الشخصية كذلك مرحلة ما بعد التخرج، ووقوف الدكتور أحمد ماهر رائف أمام تعيينى، ثم دراستى الماجستير والدكتوراه، وتعيينى فى الجامعة بعد عملى فى الثقافة الجماهيرية، قبل العودة للعمل مرة أخرى فى قصور الثقافة، ثم خروجى على المعاش فى عام ٢٠١١، وتفرغى للفن فى مرسمى، وتدشين ملتقى البرلس الدولى للرسم على المراكب، الذى نُظمت ٩ دورات منه عبر مؤسستى للثقافة والفنون التنمية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعى.

■ ما الذى تعلمته من الطبيعة؟

- أعتقد أننى من الفنانين المرتبطين بالهوية والبيئة، وحريص على ذلك دومًا، كما أشرت سابقًا أننى من خلال الطبيعة أحاول أن أجيب عن الأسئلة التى تدور فى عقلى، وأن لدىّ ثراءً وإلهامًا لا ينضبان ومتغيران يوميًا ويعطيانى طاقة للتمرد والتجريب، وهو ما يجعلنى أعيش فى حالة لها علاقة بالحس الصوفى والاستلهام، والتجلى، والسمو؛ وهو ما أستلهمه من الطبيعة التى حولى، والتى تتنوع ليس لها حدود بين البحر والبحيرة وساحل ومناطق نخيل ومزارع سمكية وخضرة، ولا يمكن للإنسان أن يتركها أو يعطى لها ظهره ولم يتخذها مصدرًا للإلهام الخاص به.