اعترافات سيد التفاوض.. كيسنجر: السادات سحرنى كأنه قرأ علىّ تعويذة فأصبحت تحت سيطرته الكاملة!

- باغت الجميع بعبور بارليف وخطب منتشيًا بنصره: «نُفضل احترام العالم لا تعاطفه»
- «CIA» كتبت تقارير كثيرة بأن «السادات» لن يُكمل مدته الرئاسية لكنه خدع الجميع
- بعد عدة أشهر من توليه الرئاسة أحكم سيطرته وأحرج كل منتقديه فى الداخل والخارج
فى عالم يسهل فيه إشعال الحروب ويصعُب جدًا إنهاؤها، وتصيب الجميع حيرة من جنون «الطرف الآخر»، تبرز الدبلوماسية والتفاوض، خاصة فى ظل ما نعيشه ما يسمى «الصراع الحاد»، الذى ينظر كل طرف فيه على أنه «الخير»، والطرف الآخر هو «الشر».
وهناك الكثير من الكتب التى تناولت فنونًا وطرقًا للتوصل إلى اتفاق مُرض فى محادثات سلام سابقة فى مناطق عديدة، سواء انتهت بتحقيقه أو فشلت فى ذلك، مستعرضة تاريخ شخصيات مركزية أسهمت فى حل النزاعات أو تعقيدها.
فى زاوية «ماذا يقرأ العالم الآن»، تسلط «حرف» الضوء على كتاب مهم فى هذا الإطار، هو الترجمة الإنجليزية للكتاب الفرنسى: «هنرى كيسنجر: صورة حميمة لسيد الواقعية السياسية»، لنتعرف كيف سحر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وزير الخارجية الأمريكية، هنرى كيسنجر، فى مفاوضات السلام مع إسرائيل، لدرجة جعلت الأخير يقول عنه: «سحرنى وكأنه قرأ علىّ تعويذة فأصبحت تحت سيطرته الكاملة».

تصدر الترجمة الإنجليزية للكتاب الفرنسى «هنرى كيسنجر: صورة حميمة لسيد الواقعية السياسية» أو «Henry Kissinger: An Intimate Portrait of the Master of Realpolitik»، عن دار النشر البريطانية «بروفايل بوكس» المتخصصة فى السير الذاتية والمذكرات والكتب السياسية، فى ٢٨ أغسطس الجارى، وهو من تأليف الصحفى الفرنسى الصاعد فى مجال السياسة الخارجية، جيرمى جالون، الذى سبق أن عمل محاميًا ودبلوماسيًا لدى الاتحاد الأوروبى، وترجمه إلى الإنجليزية رولان جلاسر.
واهتمت الصحف البريطانية، خلال الأيام الماضية، بالإعلان عن صدور ترجمة الكتاب الفرنسى، الذى صدر عن دار النشر «جاليمار» فى أواخر ٢٠٢١، وحقق نجاحًا ساحقًا فى فرنسا وقتها. الاهتمام جاء فى ظل حرب إسرائيل على غزة التى لم تهدأ، وصعوبة البدء فى مفاوضات لإنهاء الصراع الروسى الأوكرانى، ونزاعات أخرى دولية، حيث يتذكر الجميع واقعية «كيسنجر»، وزير خارجية أمريكا الأشهر، فى التفاوض حتى نهاية المطاف، والتى اعتبرت الخيار الأمثل وسط عالم ممزق.
ويرسم جيرمى جالون، فى كتابه الذى يضم بين دفتيه ٢٤٠ صفحة، صورةً مثيرةً للاهتمام لـ«سيد الواقعية السياسية»، مستلهمًا دروسًا من حياة هنرى كيسنجر، وأفعاله لاستكشاف سبل بناء سياسة خارجية أكثر تماسكًا ومرونة.
وتتناول فصوله مواضيع ولحظات وشخصيات شكّلت مسيرة «كيسنجر» المهنية، مثل سنواته فى جامعة هارفارد، ومركزية الواقعية السياسية، وحتى كرة القدم، وعلاقاته بشخصيات مثل نيلسون روكفلر، وريتشارد نيكسون، وأنور السادات، وتشو إن لاى، وتتضمن الطبعة الإنجليزية الجديدة التى تصدر الشهر الجارى، فصلًا إضافيًا يفصّل لقاء المؤلف بـ«كيسنجر» فى كونيتيكت بعد عشرة أيام من غزو روسيا أوكرانيا فى فبراير ٢٠٢٢.
ويهتم «جالون» برجل الدولة بقدر اهتمامه بشخصيته، متعمقًا فى جوانب حياته الأكثر بريقًا وحميمية، ومع ذلك لا يُخفى تناقضات «كيسنجر» والاتهامات الأخلاقية الموجهة إليه. ورأى أنه حتى بعد وفاته، لا يزال هنرى كيسنجر ركيزة أساسية فى العلاقات الدولية، ولا يزال الرأى فيه يشير إلى أمر أعمق، حيث استُشهد باسمه لتقديم أعلى درجات الثناء على الواقعية الحكيمة، أو لتقديم أقسى إدانة لتكلفتها الأخلاقية.

ويشعر البعض اليوم بأن حرب إسرائيل على غزة حماقة تُشبه القصف الأمريكى بإشراف «كيسنجر» على كل من فيتنام وكمبوديا ولاوس فى سبعينيات القرن الماضى، ويستشهد آخرون بدبلوماسيته المكوكية الدءوبة بين عواصم الشرق الأوسط بعد حرب ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣ كنموذج لكيفية جمع الأطراف المتحاربة فى اتفاق، حيث بدت واقعيته فى نهاية المطاف الخيار الأمثل فى عالم ممزق.
ويبدو «كيسنجر» وكأنه رجل عاصر ثلاثة قرون، إذ امتدت حياته الفكرية والسياسية على نحو يتجاوز سنوات عمره. وكانت فترة توليه منصبَى مستشار الأمن القومى ووزير الخارجية فى عهدَى ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد «١٩٦٩- ١٩٧٧» مجرد لمحة من مسيرة حافلة، جسّد خلالها شخصية لا تلين: باحثًا فى جامعة هارفارد، ودبلوماسيًا بارزًا، وشخصية عامة مثيرة للجدل.
وتناول أول كتب «كيسنجر» نهاية الحروب النابليونية، متتبعًا التاريخ بعين حذرة، فيما اتجهت مؤلفاته الأخيرة إلى استكشاف الذكاء الاصطناعى، وكأنه يطل على حدود معرفية لم يُتح له سوى أن يلمحها لفترة وجيزة.
ويُعد كتاب «هنرى كيسنجر» مساهمة مترجمة فى عالم ما يُعرف بـ«علم كيسنجر»، كما أطلق عليه أحد المؤرخين، وهو حقل يتجاوز السير الذاتية التقليدية ليشمل دراسات نفسية، وروايات، ولوائح اتهام مثيرة للجدل تتعلق بمحاكمات جرائم حرب مقترحة، فضلًا عن كتب فى إدارة الأعمال تتناول صفقاته وتأثيره على مفاهيم القيادة.
وترك «كيسنجر»، الذى شغل منصب وزير الخارجية الأمريكى بين عامَى ١٩٧٣ و١٩٧٧ فى خضم الحرب الباردة، بصماته العميقة على التاريخ الدبلوماسى للولايات المتحدة.
ويتناول المؤلف بداياته، حيث وُلد فى ألمانيا ثم هاجر إلى الولايات المتحدة، ولم يكن يجيد الإنجليزية عند وصوله إلى نيويورك، وبعد بضعة عقود، رُسّخ اسمه كأحد أبرز وزراء الخارجية فى بلاده.

الصقر المصرى
يحتفى «جالون» بدور «كيسنجر» فى تحقيق الوفاق بين الولايات المتحدة والصين والشرق الأوسط، حيث أعاد التوازن لعلاقة أمريكا بالقوى العظمى وأسهم فى إنهاء حرب بين إسرائيل وجيرانها العرب، مُعزّزًا هذه الإنجازات بتبجيله لرجال الدولة الأوروبيين الذين حافظوا على توازن القوى بعد سقوط نابليون.
لكنه فى الوقت نفسه، يرصد مزاعم جرائم الحرب فى حرب فيتنام، ودعم الانقلابات والمجالس العسكرية، والتحريض على غزوات حلفاء أمريكا، وجميع تلك الاتهامات حصرها المؤلف فى فصل واحد بعنوان «غير قابل للدفاع عنه».
وتحدث المؤلف عن الصداقات الفكرية التى كوّنها الرجل، مع ثلاثة رجال هم فقط من اهتم بهم «كيسنجر» أكثر من غيرهم، وكانوا غير غربيين: محمد أنور السادات، الزعيم المصرى العظيم الذى وجد فيه أخًا حقيقيًا له، وتشو إن لاى، رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية بين عامَى ١٩٤٩ و١٩٧٦، ولى كوان يو، الأب المؤسس لسنغافورة.
وخصّص المؤلف أحد الفصول لرصد علاقة «كيسنجر» بـ«السادات» تحت عنوان فرعى: «السادات»، والذى وضعه المؤلف على رأس ثلاثة قادة أثاروا اهتمام الوزير الأمريكى طوال حياته، وأصبحوا من أقرب الأشخاص إليه.
ويرى المؤلف أن شعور «كيسنجر» هذا ينسف ما يُسمى «الغطرسة الغربية»، إذ إن الثلاثة غير غربيين، فليسوا من أوروبا ولا أمريكا، كما يشرح كيف لم يكن «كيسنجر» يتقبل «السادات» ويقلل من شأنه فى البداية، قبل أن يُدرك عظمته، وكيف انتهى بأن يجد فى الزعيم المصرى أخًا فعليًا «حسب وصف المؤلف»، وشيئًا فشيئًا، أصبح يفهم التاريخ المصرى ومنظور تصرفات «السادات»، وقرّب هذا الرجلين حتى تمكّنا من تحقيق السلام.

ويقول: «مع (السادات)، بدأت العلاقة فى البداية بعدم الفهم، لكن شيئًا فشيئًا، بدأ (كيسنجر) يفهم التاريخ المصرى وأفعال الرئيس المصرى، وأصبحا صديقين، وهذا ما قرّب البلدين، إلى درجة أن إدارة (كارتر) تمكّنت من تنظيم (كامب ديفيد) عام ١٩٧٨».
ويتابع: «عندما أصبح أنور السادات الرئيس الجديد لمصر فى ١٥ أكتوبر ١٩٧٠، لم يخفِ هنرى كيسنجر عدم تقديره للرجل، وعندما تحدث إلى جولدا مائير، وصف خلف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالمهرّج، وربما كان هناك الكثير من السياسيين يرون ذلك حينها».
«السادات» الذى وصف نفسه فى مذكراته بأنه فلاح ولد وترعرع على ضفاف النيل لم يكن بنفس الكاريزما الخاصة بسلفه، لكنه كان رجلًا وسياسيًا تكتيكيًا وليس استراتيجيًا وله لهجة سياسية مختلفة، وكان صديقًا لـ«ناصر» حيث شاركا الاثنان فى ثورة ٢٣ يوليو وكانا من مؤسسى حركة الضباط الأحرار.
وعندما توفى «ناصر» بالسكتة القلبية، اعتقد كثير من المراقبين أن «السادات» سوف يصبح رئيسًا انتقاليًا فقط، وأن أيامه على رأس الدولة معدودة، لكنه فاق توقعات الخبراء والمسئولين، وأول من التفتت إليه كان «السوفييت» الذين كان لهم نفوذ كبير فى البلاد وكانوا مقتنعين تمام الاقتناع بأن «السادات» سوف يحذو حذو «ناصر» وسوف يستمر حليفًا لهم، ولكن هذا لم يحدث.
وفى خطابه فى ٤ مايو ٢٠٠٠، فى جامعة ماريلاند، اعترف «كسينجر» بأنه لم يفهم «السادات» عندما أصبح رئيسًا لمصر فى البداية، لأن ذلك كان خطأ المخابرات الأمريكية التى كتبت تقارير كثيرة للإدارة الأمريكية تقول فيها إن «السادات» لن يكمل مدته الرئاسية، وإن هناك ٣ رجال آخرين سوف يكون واحد منهم رئيسًا لمصر بعد أشهر.

منذ بداية رئاسته، كان «السادات» مدركًا لما يحدث من وراء ظهره وما يُقال، ولكنه كان يتحلى بثقة لا مثيل لها، وكانت طفولته وتربيته فى قرى مصر فى مجتمع محب وحنون وشجاع هى السبب فى شعوره بالتفرد والاستثنائية.
وبعد عدة أشهر من توليه الرئاسة كان قد أحكم سيطرته وأخجل كل منتقديه فى الداخل والخارج، وأصبحت الولايات المتحدة مندهشة منه، وفى ذلك الوقت وعندما طُلب من «كيسنجر» أن يتدخل لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى، قال إنه لن يتدخل أبدًا إلا إذا كان متأكدًا من نجاحه.
ولكن فى يوم ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣، باغت «السادات» الجميع وشن حربًا على إسرائيل لطردها من سيناء وتحرير الأرض، وتفاجأ «كيسنجر» ووصف «السادات» بالمجنون، حيث كان يتوقع أن الجيش المصرى لن يكون قادرًا على اتخاذ تلك الخطوة، ولكن الجنود المصريين عبروا قناة السويس ودمروا خط بارليف، ووقف السادات فى البرلمان المصرى منتشيًا بنصره قائلًا: «لقد شعرنا دائمًا بتعاطف العالم، ولكننا الآن نفضل احترام العالم».

إنقاذ هيبة أمريكا
وجد «كيسنجر» نفسه مسئولًا عن السياسة الأمريكية فى خضم انشغال «نيكسون» بفضيحة «ووترجيت»، وأصبح الرجل الذى لم يمض أسبوعين على حلفه القسم وزيرًا للخارجية، وقرر «كيسنجر» وقتها أن يصبح وسيطًا للسلام بين مصر وإسرائيل، وانتهز فرصة وجود جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، ووزير خارجية مصر إسماعيل فهمى، فى واشنطن.
وبدأ «كيسنجر» يفهم «السادات»، إذ قرأ شخصية الرجل الذى كان لا يمكن أن يجلس للتفاوض إلا إذا كان فى مركز القوة خاصة بعدنا نسف شائعات الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر، وعلى الجانب الآخر بدأ أيضًا المصريون يرون فى «السادات» بطلًا مصريًا غسل عار الهزيمة فى يونيو ١٩٦٧، واستعاد شرف بلادهم.
هذه كانت أرضية وخلفية أول لقاء بين «كيسنجر والسادات» فى القاهرة يوم ٧ نوفمبر ١٩٧٣، وتحدث الرجلان خلاله لمدة ٣ ساعات، وحاول كل منهما أن يسحر الآخر، ولكن «السادات» تفوق فى هذا اللقاء وفاز سحره على «كيسنجر»، الذى أصبح وكأنه تحت تأثير تعويذة ليدرك كم كان مخطئًا عندما أصدر أحكامًا مسبقة على الرئيس المصرى، حيث أصبح تحت سيطرته بالكامل.
واعترف بأنه منذ أول لقاء أدرك على الفور أنه يتعامل مع رجل عظيم، وليؤكد كل الاحترام والإعجاب الذى أصبح يُكنه لـ«السادات»، فكتب: «القائد العظيم هو مَن تكون له رؤية للمستقبل».

وكان الإعجاب متبادلًا حيث أعجب «السادات» بذكاء «كيسنجر»، وكان الأخير معجبًا أيضًا بالتاريخ وحضارة البلد التى أنتجت رجلًا مثل «السادات»، وهى تلك الحضارة والتاريخ التى بلورت شخصية الرجل وقراراته وتحركاته.
وبناء على اللقاءات بينهما، بلور الرجلان خطة من ٦ بنود يمكن أن تكون أساس المفاوضات بين مصر وإسرائيل، وأصبحت علاقتها الفريدة هى قائدة عملية السلام، واتفقا حينها على إعادة العلاقات المصرية الأمريكية التى كانت قد قُطعت فى عام ١٩٦٧.
ولفت المؤلف إلى حوار «السادات» مع مجلة روزاليوسف الذى قال فيه إن «قبل السادس من أكتوبر لم تكن الولايات المتحدة حتى تسمعنا، لكن الآن بعد أن عبرنا القناة وحكمنا خط بارليف أدركت أن أمنها القومى فى خطر، وأننا نمثل تهديدًا قويًا لنفوذها فى الشرق الأوسط».
ومهدت قوة مصر إلى زيارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون القاهرة فى يونيو ١٩٧٤، وبعد ذلك وتحت رئاسة جيرالد فورد، زار «السادات» الولايات المتحدة فى أكتوبر ١٩٧٥، وكان مهندس تلك الزيارات هو «كيسنجر» والذى لم يكتفِ بذلك، حيث أدرك أنه قد حان الوقت لإقامة معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، وزار «كيسنجر» «السادات» فى أسوان، حيث كان يفضل قضاء فصل الشتاء بها، واستمرت لقاءاتهما من أجل السلام.