الأربعاء 03 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أدب الطلاق المتوحش.. لماذا تحولت كُتب الانفصال من الرومانسية إلى الرحيل دون وداع؟

حرف

- شعرتُ بالوحدة والعزلة بعد الزواج.. وبدأتُ أفتعل المشاكل لأشعر بأننى مرئية

- حين غادر أعطيته أكبر حقيبة سفر لدىّ وجلست أشاهده وهو يحزم أشياءه

-أ ُفضّل الآن أن أشاهد نفسى كأننى الجمهور وأتعامل كما لو لم أتعرض لأى أزمة

-  تشاجرنا حول ديكور المنزل ورعاية القطط والإنجاب والعطلة وحتى ما نعده للعشاء!

-  قبل أسبوع من الذكرى الأولى لزواجنا كنت متأكدة من أننا لن نصل إلى الثانية!

الطلاق ليس موضوعًا جديدًا فى الأدب ومختلف الإصدارات المطبوعة، لكنه يشهد اليوم موجة متجددة من الكتب التى تتناول هذه التجربة من زوايا أكثر واقعية وعمقًا. فعند تصفُّح قوائم الكُتب الأكثر مبيعًا، نلاحظ تزايدًا لافتًا فى عدد الروايات والمذكرات التى تتناول الطلاق.

يقف وراء هذه الكُتب كاتبات شهيرات، من بينهن الصحفيتان هالى ملوتيك وسكاشى كول، ضمن اتجاه متصاعد يمكن تسميته «أدب الطلاق»، والذى يطرح تساؤلات حول اللحظة الثقافية التى تدفع النساء إلى إعادة كتابة قصة قديمة، لكنها لا تزال تلقى صدى واسعًا لدى القراء.

وعلى عكس نماذج سابقة مثل كتاب «طعام.. صلاة.. حب» من تأليف إليزابيث جيلبرت، الذى اختتم برومانسية جديدة، يتجه «أدب الطلاق» المعاصر نحو الواقعية، ويحتفى بالتحول الشخصى أكثر من الاحتفاء بالشريك الجديد.. فما الذى تغيّر اليوم مقارنةً بالأجيال السابقة من الكُتّاب؟ ولماذا باتت هذه القصص أقل ميلًا للنهايات الحالمة، وأكثر تركيزًا على إعادة اكتشاف الذات؟

نهاية الرومانسية.. قصتنا تحولت إلى أطباق مكسورة.. والروتين قضى على ما تبقى من الحب

صدرت رواية «No Fault: A Memoir of Romance and Divorce» أو «بلا خطأ: مذكرات عن الرومانسية والطلاق»، فى الربع الأول من الشهر الجارى، عن دار النشر «فايكنج» التابعة لـ«بنجوين راندوم هاوس» الشهيرة، من تأليف الكاتبة الصحفية هالى ملوتيك، والتى تطرح من خلالها أسئلةً عميقةً حول ماهية الطلاق، ولماذا تحتفظ مؤسسة الزواج بسلطتها؟

تجمع مذكرات «بلا خطأ» ببراعة بين القصة الشخصية للمؤلفة والاستكشاف الاجتماعى والأدبى بأسلوب ساخر وعميق، وتعد سردًا متأملًا لحالات الطلاق فى القرن الحادى والعشرين، وهى التجربة التى باتت شائعة بشكلٍ ملحوظ، ومع ذلك تظل فريدة فى تفاصيلها. 

تكشف الرواية الكثير عن المجتمع، وعن رغبات النساء فى العائلة والحب والصداقة، وتُقدّم نظرةً شاملةً على مؤسسة الزواج وأسرارها وطموحاتها، وما يعنيه الحب والعيش فى ظلّ الشكّ والخيانة والأمل.

الكتاب الذى اختارته مجلتا «فوج» و«فولتشر» ضمن قائمتهما لـ«أفضل كتب العام»، حتى الآن، يُعد سردًا واضحًا لإحدى أكثر العلاقات رومانسية وثورية: الطلاق، والذى شكّل تجربة مركزية فى حياة المؤلفة هالى ملوتيك.

«هالى» كانت فى طفولتها تستمع إلى جدتها المطلقة مرتين فى اليوم، وهى تروى قصصًا عن أزواجها. كما كانت ترد على هواتف والدتها فى مركز الوساطة والاستشارات الزوجية، حيث تعمل وتكتب أوراق الأزواج الذين يمرّون بمرحلة الانفصال.

نشأت «هالى» على شعور بأن الطلاق هو نتيجة للمقاومة والرغبة، محنة تُبشّر بغدٍ أفضل بعد مأساة. لكن حين تزوجت، ثم انفصلت عن الرجل الذى عاشت معه ١٢ عامًا، وتزوجته لمدة ١٣ شهرًا فقط، اضطرت فجأةً إلى إعادة النظر فى الفهم الموروث لجيلها حول مؤسسة الزواج. 

ينسج الكتاب ذكرياتها الشخصية عن طلاقهما، مع لمحات من تاريخ الطلاق ذاته، وأمثلة من الثقافة الشعبية، ونقد السينما، والتاريخ الاجتماعى والسياسى، والفلسفى، إلى جانب حكايات الآخرين وكتب سابقة، كاشفًا عن المعانى المتعددة التى يحملها الطلاق فى الثقافة المعاصرة. 

ومع ذلك، لا يقدّم الكتاب أى إجابات جاهزة أو نصائح مباشرة لمن قد يتطلعون إليها من القرّاء، بل يترك مساحة للتأمل والقراءة الحرة فى تجربة الانفصال، وهو ما تطالعونه خلال مقتطفات من الكتاب نستعرضها فى السطور التالية:

اليوم البارد

تزوجتُ فى يوم بارد من شهر ديسمبر، وبعد ١٣ شهرًا، انتقل زوجى للعيش فى مكان آخر. قررنا الانفصال فى نوفمبر بعد أن اتفقنا على قضاء العطلات مع عائلاتنا. أخبرنا بعض الأصدقاء فقط، ظانّين أن الأمر قد يكون مؤقتًا.

لكن الأسابيع التى تلت ذلك كانت مشكلة، مع مرور أكثر من عقد على الاحتفال بذكرى ليلة الربيع التى قبّلنى خلالها، فى مصعد الفندق ضمن رحلة مدرسية، والليلة التى قبّلنى فيها، فى غرفة معيشة والدته، حيث تبادلنا الخواتم ووقّعنا الأوراق.

لقد كنا معًا لـ١٣ عامًا، والآن، هل من المفترض أن نحتفل بالعام الذى بالكاد استطعنا فيه البقاء متزوجين؟ حسنًا، حجزنا العشاء، لم نكن نعرف ماذا نفعل أو أين نبحث، تحدثنا عما فعلناه فى ذلك اليوم، عن وظائفنا. حاولتُ توخى الحذر، لكننى لم أستطع منع نفسى من الإشارة إلى وضعنا.

سألتُه مبتسمةً: «ما الجزء المفضل لديك فى الزواج؟». تحدث عن زفافنا، وانتقالنا إلى مدينة جديدة، ثم سألنى نفس السؤال. قلتُ: «أن نكون عائلة»، وبكيت، ولكن قليلًا.

عدنا إلى المنزل. رأينا عائلاتنا، وتخاصمنا. كنا نعتنى بقطط صديق، بينما كان زوجى يقضى لياليه فى مكان آخر. كانت القطط قد كبرت مؤخرًا ولم تتأقلم بعد مع حجمها البالغ. كانت تركض وتلعب كما لو أنها لن تُسقط أكواب الماء أو تسحب أسلاك الكهرباء. كانت لطيفة، وأبقتنى مستيقظة طوال الليل.

فى الصباح، كان زوجى، زوجى الوسيم كما كنت أظنه أحيانًا عندما أراه، حتى بعد أن قررنا الانفصال، لأنه كان ولا يزال، يعود إلى المنزل ويطعمها، فتغفو على الفور... يا إلهى، كم كرهت تلك القطط.

فى أول يوم من العام الجديد، عدنا إلى شقتنا. وفى اليوم الثالث، كنت أعيش هناك وحدى.

يعيش كل جيل من سكان أمريكا الآن فى لحظة يتمتعون فيها بما يُسمى عادةً بـ«الطلاق دون خطأ»، وهو حل قانونى للزواج لا يتطلب سببًا سوى الاختيار. أولئك الذين عاشوا طويلًا بما يكفى ليعرفوا الفرق يدركون أهمية هذه الحرية، أولئك الذين لن يدركوا الفرق بينهما ورثوا سؤالًا عميقًا حول ماهية الطلاق، ولمن هو، ولماذا تحافظ مؤسسة الزواج على قوتها.

بحثتُ عن الإرشاد فى كل مكان إلا فى الحياة الواقعية. من خلال الخيال والأفلام، الثرثرة والمحادثات، البحث عن الماضى والتكهنات بالمستقبل، والأهم من ذلك كله من خلال العمل، العمل الدائم والكتابة الدائمة. لطالما فضّلتُ القراءة على الواقع.

فى القراءة، هناك إمكانية لأكثر من مجرد ما هو مكتوب على الصفحة أو الشاشة أو ما يأتى عبر الهاتف. عند قلب الأحداث، تصبح الحقائق مجرد تفاصيل، والأهمية مجرد تفسير. هذا مُراوغ، والأفضل من ذلك أنه مؤثر للغاية. أريدك أن تسألنى إن كنت قد قرأتُ آنا كارنينا. لا أريدك أن تسألنى ماذا كنت سأفعل من أجل الحب؟.

هناك بعض الأحداث التى تبدو الأكثر أهمية، وهذه تصبح القصة. أحيانًا يكون هناك خطر، دموع أو دماء. قصة عن أطباق مكسورة، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ هذا ما أريد معرفته. عندما قررا أنهما قد اكتفيا، أردتُ أن أسأل: وماذا بعد؟ هل ذهبا إلى الفراش، وإن كان الأمر كذلك، هل ناما فى السرير نفسه؟ كيف كان صباح اليوم التالى- هل أعدّا القهوة، أم ودعّا بعضهما قبل الذهاب إلى العمل؟ أُفضّل أن أشاهد نفسى كجمهور، أشاهد كما لو أن ما حدث لم يحدث لىّ. عندما أتذكر، أرى أن الأسوأ فى قصتى حدث مرتين، ربما ٣ مرات. ثم انتهى الأمر.

أُفضّل أن أُراقب مشاعرى أكثر من أن أشعر بها. هذا، كما أعلم، هو النوع السيئ من الرومانسية: أن تُؤمن بوجود معنى إذا استطعت أن تُحسن التفاصيل. بعض التفاصيل فقط مهمة، لكننى أُوليها جميعها نفس الأهمية. كل زواج يتطلب اتفاق الزوجين على جانب واحد على الأقل من القصة: النهاية.

شاهدتُ ذات مرة شخصًا يُحاول شرح أمر ما، وهو يُمسك بقلمه ويكتب. قالت: «هنا دائرة، وهكذا يختبر معظم الناس ذكرياتهم: كأحداث مترابطة فى رقصة دائرية، خطوط بين بداية وعيهم وفضاء ممتد أمامهم لم يُعش بعد». 

لكن كيف حدث ذلك، وكيف يُذكر كدوامة تبدأ منخفضة، ثم تتسع، وتدور وتدور، وتتلامس من حين لآخر، بينما ربما نتراجع أو نتأخر أو نكرر عادة سيئة أو نقضى وقتًا فى مرحلة ظننا أنها انتهت. هكذا أجد نفسى أحاول وصف هذه السنوات. ليس ذهابًا وإيابًا، أو صعودًا وهبوطًا، بل دورانًا ودورانًا ودورانًا مستمرًا.

أنا، مثل كثيرين، ورثت أولًا معرفتى بالطلاق من عائلتى. ثم جاء طلاقى. فى آخر يوم عشنا فيه أنا وزوجى معًا، أعطيته أكبر حقيبة سفر لدىّ، تلك التى استخدمتها كثيرًا خلال عام زواجنا، مسافرين للعمل بعيدًا عن منزلنا، ونادرًا ما استخدمتها طوال الـ١٢ عامًا من علاقتنا التى سبقتها، وشاهدته وهو يحزم أمتعته. غادرت قبل أن ينتهى.

استغرق الأمر عامًا آخر بعد ذلك اليوم قبل أن أخبر معظم أصدقائى وعائلتى وأحبائى. فى ذلك العام، تغيرت حياتى كثيرًا لدرجة أننى لم أعد أستطيع تمييزها، بينما كشفت أيام أخرى كثيرة فقط عما كان يجب أن أعرفه بالفعل. ربما كنت أنتظر حتى أتمكن من تمييز الفرق. ربما كنت أنتظر حتى أشعر بالاستعداد. فى الغالب، كنت أنتظر فحسب.

الطلاق بلا خطأ

كان رونالد ريجان حاكمًا لولاية كاليفورنيا عندما وقّع أول قانون لـ«الطلاق دون خطأ» فى الولايات المتحدة، وكان ذلك بعد أيام قليلة من عيد العمال عام ١٩٦٩.

قبل ذلك، كان الطلاق يتطلب إثبات سبب قانونى، مثل الخيانة أو الإهانة النفسية والجسدية أو التهديد، وغيرها من المبررات، وقد استغرقت بقية الولايات وقتًا طويلًا للحاق بهذا التغيير؛ إذ لم تُفعّل ولاية نيويورك، آخر ولاية تتبنى هذا النموذج، قانون «الطلاق دون خطأ» إلا فى عام ٢٠١٠، أى بعد أكثر من ٤ عقود مقارنة بكاليفورنيا. 

كان ذلك متأخرًا بما يكفى لدرجة أن القانون لم يكن قد دخل حيّز التنفيذ بعد، عندما خاضت الكاتبة إليزابيث جيلبرت تجربة طلاقها الباهظة، التى أصبحت لاحقًا الدافع وراء كتابها الشهير «طعام.. صلاة.. حب».

اللكمة المؤلمة.. رحلتى من «أقاطع والدى لأجلك» إلى «زواجنا لن يصل إلى عامه الثانى»

انضم كتاب «Sucker Punch» أو «اللكمة المؤلمة» إلى عدد من الكتب الحديثة التى ألّفتها كاتبات نساء تناولن قضية الطلاق، منذ أن صدر فى الربع الثانى من العام الجارى، عن مطبعة جامعة «سانت مارتن»، من تأليف الكاتبة الأكثر مبيعًا سكاشى كول.

تتحدث «كول»، فى كتابها الجديد، عن تجربتها الشخصية، مستعرضة تفاصيل «ما قبل» و«ما بعد» الزواج الفاشل، والنضالات التى خاضتها مع والديها وزوجها السابق وأصدقائها، والغرباء على منصات التواصل الاجتماعى الذين يحكمون عليها، إلى جانب ما خاضته مع نفسها أيضًا.

الكتاب الأول لـ«كول» كان عبارة عن مجموعة من المقالات الجريئة والعميقة والمضحكة، تتناول قضايا: العرق وصورة الجسد والحب والصداقة، ونشأتها كابنة مهاجرين كنديين من أصول هندية. وعندما حان وقت كتابة كتابها التالى، افترضت أنها ستُحدّث قصتها بمقالات عن حفل زفافها المُعقد الذى استمر ٤ أيام، واستقرارها فى نعيم عائلى، ومواصلة جدالاتها التى لا تنتهى مع والديها. لكن بدلًا من ذلك، ضربت جائحة «كوفيد- ١٩» العالم، وانهار زواجها، وفقدت وظيفتها، وشُخّص مرض والدتها بالسرطان.

ويضم كتاب «اللكمة المؤلمة» مجموعة مقالات تنبض بالغضب والشعور بالذنب والحزن والندم، والضحك فى كثير من الأحيان. وتصف من خلاله تجربة طلاقها بأنها «مُربكة». لكنها فى الوقت نفسه، وفّرت لها أيضًا إطارًا لإعادة التفكير فى كل شىء: علاقتها بالرجال وعائلتها وصراعاتها ونفسها.

ويحاول الكتاب معرفة ما يحدث عندما تتغير الحياة التى ظننت أنك ستعيشها جذريًا، ويتغير كل ما ظننت أنك تعرفه عن العالم وعن نفسك، ويتطلب منك البدء فى طريق جديدة. واختارت المؤلفة لفظ «اللكمة» للتعبير عن شعورها، بعد حفل زفافها الباذخ والمكلف، أن زواجها كان خطأً فادحًا!

فبدلًا من انتصار الحب، تحولت علاقتها العاطفية بزوجها إلى ساحة معركة. والأسوأ من ذلك، أن جائحة «كوفيد- ١٩» أجبرتهما على عزلة مشتركة. وفى هذه الأثناء، علق والد «كول» فى الهند بسبب قيود السفر، وكانت والدتها معها فى أمريكا تعانى من عدة أزمات صحية خطيرة. وفى النهاية، انفصلت «كول» عن زوجها، ما زاد من توتر العلاقات فى عائلتها.. وفيما يلى مقتطفات من الكتاب:

قبل الزاوج

قبل أن أتزوج، لم أكن أفهم أبدًا عندما يدّعى الناس أنهم لا يعرفون سبب انهيار زواجهم. كان من غير المفهوم بالنسبة لىّ أن تعيش مع شخص ما كل يوم، ثم تعجز عن التعبير عن مشاعرك عندما تصبحان غريبين. كنت أعرف مزاج زوجى من طريقة إدارته لمقبض باب شقتنا، ولم أكن أعتقد أنه من الممكن أن أصبح منعزلة إلى هذا الحد.

طمأنتنى أمى بأن السنة الأولى من زواجنا كانت الأصعب. لكن ماذا عن الثانية؟ الثالثة؟ فى كل مرة كنت أشرح لها شجارًا بيننا- أحيانًا يكون خطأه وأحيانًا خطأى- كانت تضحك بمرح لم أسمعه منها من قبل، ثم تقول: «الأزواج يتشاجرون»، قبل أن تضيف عبر الهاتف: «أنا وأبيكِ نتشاجر كل يوم». كنت أسمع والدى الجالس على بُعد خطوات قليلة، وهو يقول: «نتخاصم، ثم نتجاوز الأمر. ستتجاوزينه أيضًا».

وأنا صغيرة، كنت أعتقد أن جميع العائلات مثل عائلتى، كانت عائلتى بأكملها صاخبة ومتسلطة وشديدة الصراخ. هكذا كنا نتحدث. كنا نوصل رسائلنا بوضوح، ربما بعنف، لكن لم يغفل أحد عن المغزى. لم أُعجب قط بالتظاهر الذى تتبناه العائلات الأخرى فى العلن. 

لماذا تتظاهرون وكأنكم لا تصرخون دائمًا فى وجه بعضكم البعض، بينما هذه هى الحقيقة؟ كنت أعلم- على سبيل المثال- أن والدىّ صديقتى كانا يتشاجران بتلك الهمسات الصاخبة والمضطربة التى أتقنها المتزوجون، لكنهما كانا أفضل بكثير فى إخفاء جوانب علاقتهما القبيحة وحوافها الحادة. لأى غرض؟ مَن المستفيد من هذا النوع من الخداع الممل؟

هذه الصراحة تُثير استياء البعض. عندما كنت متزوجة، كان زوجى يراقبنى أنا وعائلتى فى رعب. على الرغم من كونه ابنًا لأب مطلق، كانت الخلافات الكبيرة والصغيرة تجعله متوترًا. على عكسى، لم يكن يستمتع قط بمشاهدة الجدال أو المشاركة فيه.

عندما تجتمع عائلتى، فى عيد الميلاد أو عيد الشكر أو عيد ميلاد ابنة أخى، كنا نتشاجر. كان الإحباط الوحيد الذى شعرت به فى طفولتى بسبب الديناميكيات العدوانية لعائلتى، هو أننى كأصغرهم، لم تكن هناك فرصة للفوز فى الجدال، كنت دائمًا مضطرة للاعتذار، لتغيير موقفى، لأكون الخاسرة فى معركة مستمرة على التفوق العاطفى.

قضيت حياتى كلها أنتظر الجدال مع مَن أحب، لأكون قوية بما يكفى للفوز. عندما حصلت عليه، فقد أى جاذبية كانت له. لطالما كانت قصة زواجى، التى كنت أرويها لنفسى، قصة مثابرة، وتحدٍ لا يلين.

بدأنا المواعدة وأنا فى الـ٢٠ من عمرى فقط، وكان والداى ينتقدانه بشدة، غالبًا بسبب فارق السن الذى يبلغ ١٣ عامًا، لدرجة أن والدى لم يتحدث معى لمدة عام بعد أن أخبرته. لكن عنادى استمر. صمدنا مع عائلتى التى لا تُقهر، وانتصرنا.

بعد الزواج

بعد أسبوعين من زواجنا، انتقل زوجى من تورنتو إلى نيويورك ليبدأ بناء الحياة الجديدة التى كنت أتمناها. بعد ٣ أشهر، تمكنت أخيرًا من الانضمام إليه، لكننا تجاوزنا فترة شهر العسل تمامًا، وبدأنا فورًا فى المرحلة الحرجة من علاقتنا، مليئة بالمصاعب وسوء الفهم.

أدركت أنه عندما كنا مخطوبين، وكان والداىّ يعارضان زواجنا بشدة، كان لدينا عدو مشترك نتحد ضده. الآن، أصبحنا وحدنا معًا فى مكان جديد لم نفهمه. شعرتُ بالوحدة والعزلة عنه، وبدأتُ أفتعل المشاكل لأشعر بالتواصل معه، لأكون مرئية. كانت لدينا كل هذه الطاقة الزائدة التى كنا نوجهها نحو بعضنا البعض، وتشاجرنا بشراسة.

تجادلنا حول ديكور المنزل ورعاية القطط، وحول ما نعده للعشاء، ومَن منّا أكثر بغضًا. تشاجرنا حول إنجاب الأطفال أو عدم إنجابهم، وحول أين نذهب فى العطلة، وحول أفضل طريقة لتعبئة غسالة الأطباق.

كانت الفترة المُبهجة من عامنا الأول من الزواج قصيرة جدًا، لدرجة أننى لم أتجاوز أبدًا غرابة قول «زوجى» بسرور. بدلًا من ذلك، انغمستُ بسرعة فى غرابة قول «زوجى» بغضب: «زوجى متأخر على صديق»، أو «تشاجرتُ أنا وزوجى بشدة مع طبيبتى النفسية»، أو «لا تقلقى بشأن زوجى» عندما رن هاتفى فى المقهى ولم أكن أرغب فى العودة إلى المنزل بعد.

لم يجعلنى الجدال مع زوجى أشعر بالأمان أو أن صوتى مسموع كما كان الجدال مع عائلتى. أحيانًا تبدو شجاراتنا أكثر من مجرد شجار يا أمى، أردتُ أن أخبرها. أحيانًا أشعر بأن القتال معه يزيد الأمر سوءًا. أحيانًا أشعر بأننى لا أعرف ما الذى أتشاجر من أجله.

قضيتُ عمرى أشاهد والدىّ يتجادلان بشراسة حول الأمور الكبيرة والبسيطة، لكنهما كانا متوافقين تمامًا. لم يوجّه أبى لأمى أى كلام إلا ولديها ردّ عليه. لم يعترض طريقها قط. لم يكن عنيفًا أو مهينًا قط. 

كانت جدالاتهما عبارة عن سلسلة من الإهانات التى يتبادلانها على أمور لا تهم: كم عدد النباتات فى المطبخ؟ لماذا لا يفتح أحدهما هاتفه أثناء وجوده فى المركز التجارى؟ هل ٣٥ درجة مئوية درجة حرارة أساسية مناسبة للمنزل؟ شجاراتهما الأكبر والأكثر أهمية، إن كانت لديهما أى شجارات، كانت بعيدة عنى تمامًا.

لم يكن زوجى بارعًا فى الشجار، حتى عندما حاول. كان بإمكانه الحصول على بعض اللكمات الجيدة، لكن كيف له أن ينافسنى؟ لقد تبنّاه فى صراعنا، وأنا تأثرت به. يدخل فى شجار معى، منتصبًا، ويغادر منهكًا. لم أفهم الأمر. عندما كان والداىّ يتشاجران، كانا يصبحان ضخمين، لكنه كان يصغر شيئًا فشيئًا، حتى إننى لم أعد أشعر بثقل الفراش عندما ينام، بعد ساعات من نومى!

الذكرى الأولى

قبل أسبوع من الذكرى الأولى لزواجنا، كنت متأكدة من أننا لن نصل إلى الثانية. بالكاد التقينا لأيام، وبدا وكأن الحنان قد اختفى. لم يصدق كم أصبحتُ باردة، وكم كنتُ لا أكترث لمشاعره.

سألنى: «ألا تحبينى؟»، ولأول مرة منذ أن قابلته، عندما كنتُ صغيرة جدًا على استئجار سيارة، لم أكن متأكدة من الإجابة. عندما جمعتُ كل الطرق التى آذانى بها، لم أصدق أنه هو نفس الشخص الذى قطعتُ له كل تلك الوعود. 

ها هو هذا الغريب، هذا الرجل الذى عشتُ معه، والذى، قبل أيام قليلة، انحنى عندما رميتُ دفتر مواعيدى على رأسه، بينما كان يُكنس الزجاج الذى كسرته قبل ذلك مباشرة. جلستُ على الأرض فى ردهة شقتنا. كان جسدى ساخنًا لكن الأرضية باردة، فضغطتُ وجهى على الأرض لأخفض حرارتى. كانت عيناى متورمتين من البكاء ولم أستطع فتحهما. وضع المكنسة لينضم إلىّ على الأرض.

كنا على وشك الانفصال نهائيًا، لكننا قلنا بدلًا من ذلك: «ما المشكلة؟ لنذهب فى إجازة سريعة». توجهنا شمالًا إلى «هدسون»، فى شمال ولاية نيويورك. إنها قرية صغيرة يسكنها بضعة آلاف من السكان، شارعان رئيسيان مليئان بأكثر الملابس قبحًا وغلاءً فى الولاية، وبعض المأكولات التى يصعب نسيانها.

شهدت «هدسون» أسوأ أيامى. نمتُ وحدى على الأريكة القابلة للطى فى مسكننا المستأجر هناك، ورفضتُ أن أعيش لحظةً واحدةً من الرصانة طوال عطلة نهاية الأسبوع.

فى ذكرى زواجنا، أهدانى نسخةً موقعةً من الطبعة الأولى لكتابٍ كنتُ أعشقه يومًا. كان ذلك دليلًا على أنه فى أفضل حالاته: شخصٌ مُفكر ومنتبه، من النوع الذى يسمعك تذكر كتابًا تُحبه عام ٢٠١٠، ثم يجده بعد عقدٍ من الزمان فى مكتبةٍ للكتب المستعملة. أهديته لوحةً تبدو الآن مُرعبةً: رجلٌ وامرأة، وجههما خفيّان، يرفعان ثعبانًا وزهرةً وتفاحةً فاسدةً. على الأرض بيضةٌ مكسورة.

فى ليلة ذكرى زواجنا، تناولنا العشاء فى مطعمٍ إيطالىٍّ مُروعٍ لكنه حسنُ التقييم، والذى حذّرنا منه جميعُ السكان المحليين. كان من الواضح أن المبنى مُصمم ليكون معرضًا فنيًا، لذا جلسنا على طاولة ذات سقفين فى النافذة الأمامية على منصة، بعيدًا عن رواد المطعم الآخرين، كما لو كنا نُعرض للبيع، كما لو أن زوجين يمران بجانبنا، ويشيران إلينا، ويقولان: «يا عزيزتى، أريد هذا».

لكن من سيرغب بنا؟ كنا فى حالة يرثى لها. كانت تلك الليلة الأولى منذ شهور التى يُضحكنى فيها. تحدثنا عن زفافنا، كيف يمكن أن يكون هذا العام طويلًا لهذه الدرجة؟ عن والدى وهو يتمايل على حلبة الرقص، ويربط ربطة عنقه، ويغازل ضيوفنا.

ضحكتُ على نكات زوجى السيئة، وعلى محاولاته الضعيفة للإمساك بيدى، ومحاولاتى البائسة للإمساك بيده. ضحكتُ عندما ركنت شاحنة إطفاء نفسها أمام النافذة، وأصبحنا محاطين بأضواء حمراء وامضة طوال وجبتنا. ضحكتُ عندما انطلقت صفارات الإنذار. التقطتُ صورة، كما لو أن هذا قد يكون يومًا ما، ذكرى طريفة نرغب فى استعادتها، وليس أسوأ عطلة نهاية أسبوع فى حياتنا.

فى نهاية الليل، انحنيتُ على مقعد، وشعرتُ ببرودة سبتمبر تملأ رئتى، وبكيت دموعًا حارة. تمنيت بشدة أن يلمسنى، لكن عندما فعل، أبعدتُ يديه عنى. جلس بجانبى صامتًا- هذا كل ما كان يفعله فى تلك اللحظة- خائفًا جدًا من أن ينطق بكلمة واحدة خشية أن تسوء الأمور.

كنتُ بارعة فى الشجار، وزوجى كان سيئًا فيه. وهكذا، طوال عطلة نهاية الأسبوع، انتظرتُ شجارًا آخر، لأنى كنتُ أعلم أننى أستطيع الفوز. لطالما فزتُ به طوال حياتى، مهما كان الثمن، ولأى سبب كان.

الهدف من الشجار هو الفوز، أليس كذلك؟ تجاهلتُ شعورى باختلاف هذا الشجار، وكم كنتُ منهكة من روتيننا فى الشجار، ثم التصالح حتى نشوب الشجار التالى. لكننى لم أعد أرغب فى الشجار. بدلًا من ذلك، أردتُ فعل شىء لم أفعله من قبل: أردتُ الاستسلام والانفصال!