التغفيلة الكبرى.. كيف خدع أشرف مروان الجميع فى إسرائيل؟

- كشفنا براءة مَن قال عنه السادات «لولاه ما انتصرنا» قبل «يديعوت أحرونوت» بـ9 سنوات
- سمع السادات يخبر ملك السعودية بموعد الحرب فقال للإسرائيليين: «مصر أجلت الهجوم»
- إسرائيليون يعترفون: كلنا كنا تحت تأثير «تنويمه المغناطيسى» قبل الحرب
- ثبط عزيمتنا وجعلنا نعتقد أن لدينا «جهاز تنصت فى دماغ السادات»
- مارس المصريون من خلاله أكبر تضليل فى التاريخ ضد إسرائيل
صدمة كبرى داخل إسرائيل فجرها تحقيق مطول أجراه كل من رونين برجمان ويوفال روبوفيتز، ونشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية فى ملحقها «7 أيام»، عن المصرى أشرف مروان، وكيف خدع «الموساد» لسنوات طويلة، خاصة قبل حرب السادس من أكتوبر.
التحقيق يستند إلى آلاف الوثائق السرية التى لم تُكشف بعد، ومحادثات نادرة مع أشخاص شاركوا فى العملية، ويكشف أن «مروان» المُلقَب بـ«الملاك»، كان رأس حربة خطة الخداع المصرية قبل وأثناء وبعد حرب أكتوبر، ونجح فى ذلك نجاحًا يفوق كل التوقعات، مقابل سلسلة من الإخفاقات والغطرسة من جانب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وسط تلك الحقيقة المدوية، والاعتراف الإسرائيلى الأول من نوعه، الذى يؤكد بطولة ووطنية أشرف مروان، وكونه أحد أكثر العملاء المصريين فتكًا بإسرائيل، فى واحدة من أهم المراحل فى تاريخ الصراع العربى «المصرى» الإسرائيلى، تنفرد «حرف» بنشر مقتطفات من كتاب قيد النشر يحمل عنوان: «أنا والملاك: براءة أشرف مروان»، من إعداد وتأليف هالة أمين.

المؤرخ الإسرائيلى أهارون برجمان: سبب انتصار المصريين فى 6 أكتوبر
بدأت رحلتى فى البحث عن براءة أشرف مروان منذ دخولى مجال الصحافة، لكن عام ٢٠١٦ كان نقطة الانطلاق نحو هذا الهدف، فمن منا لم تراوده أفكاره لتبرئة رجل الأعمال المصرى صهر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بكل الطرق؟ من منا لم يبذل جهدًا لإظهار الحقيقة التى زيفها المؤلف الصهيونى يورى بار جوزيف، فى كتابه «الملاك»، الذى صدر بالعبرية عام ٢٠١٠، وبالإنجليزية فى ٢٠١٦، وحولته منصة «نتفليكس» إلى فيلم سينمائى يحمل نفس الاسم، فى ٢٠١٨.
والحقيقة أن بار جوزيف أخذ الخيط الذى نسج منه ادعاءاته، من كتاب للمؤلف الإسرائيلى أهارون برجمان يحمل عنوان «تاريخ إسرائيل»، صدر فى عام ٢٠٠٢، ويتحدث عن «جاسوس لإسرائيل» أعطاه لقب «الصهر»، وأدعى أنه «تطوع بنفسه فى الموساد»، دون أن يفسر السر وراء ذلك، وهو ما استغله «جوزيف» فى كتابه «الملاك».
ظل «برجمان» يشعر بالذنب لأنه هو من جعل «جوزيف» يبنى روايته الزائفة التى روجتها إسرائيل بشكل واسع، ومن بعدها «نتفليكس»، ما دفعه لإصدار كتاب جديد فى ٢٠١٦ تحت عنوان: «الجاسوس الذى سقط على الأرض: علاقتى بالعميل السرى الذى هز الشرق الأوسط»، فسر فيه السر الذى جعل أشرف مروان يذهب إلى «الموساد»، وهو الخداع الاستراتيجى الذى قاد إلى نصر السادس من أكتوبر ١٩٧٣، باعتباره كان «جاسوسًا مصريًا خالصًا».
وقتها كنت أعمل محررة فى قسم «الشئون الخارجية» بجريدة «البوابة»، تحت قيادة الدكتور محمد الباز. ذهبت إليه وكنت متخوفة وأنا أقترح كتابة موضوع للصفحة الأخيرة عن كتاب «برجمان» سالف الذكر. لكن، وكعادته التى تنبع من حسه الصحفى رفيع المستوى وإيمانه الراسخ ببراءة أشرف مروان، تناقش معى فى الكتاب، الذى حصلنا على نسخة PDF منه، ثم طالبنى بكتابة مختصر له، نُشر بالفعل تحت عنوان «براءة أشرف مروان»، فى يوليو ٢٠١٦.

مر عامان، وعرضت «نتفليكس» فيلم «الملاك» المأخوذ عن كتاب يورى بار جوزيف، الذى زيف فيه حقيقة أشرف مروان، وروجت له بشكل كبير، منحازة فى ذلك إلى الرواية الإسرائيلية، وهو ما خلق حالة رأى عام فى مصر يريد الرد على المنصة الأمريكية وفيلمها الموجه. وكان على رأس المتحمسين لذلك الدكتور محمد الباز، الذى تولى وقتها-وما زال- رئاسة مجلسى إدارة وتحرير جريدة «الدستور»، واجتمع بأقسامها آنذاك للرد على الفيلم.
بالتزامن، فى صبيحة يوم عرض الفيلم بالتحديد، أدلى «برجمان» بتصريحات لمجلة «تايم» الأمريكية، قال فيها: «أشرف مروان كان جوهرة التاج فى خطة الخداع المصرية عام ١٩٧٣.. مروان الذى أعرفه جيدًا كان بطلًا وجاسوسًا مصريًا ضلل (الموساد) بتزويده معلومات خاطئة لسنوات»، وهى التصريحات التى ترجمتها ونُشرت فى «الدستور» وقتها تحت عنوان «حق الملاك».
سألت نفسى آنذاك: لماذا فقط أترجم تصريحات «برجمان» التى تنفى الرواية الإسرائيلية الزائفة وتثبت حقيقة وطنية أشرف مروان؟ لماذا لا أحاوره وأحصل على إجابات ومعلومات منه شخصيًا؟! وبالفعل وصلت إلى حساباته على مواقع التواصل الاجتماعى، وعرفت أنه يجهز لفيلم وثائقى بريطانى مع المخرج توماس ميدمور، من إنتاج شركة ««Salon Pictures، ومقرها فى لندن، مستوحى من كتابه «الجاسوس الذى سقط على الأرض: علاقتى مع العميل السرى الذى هز الشرق الأوسط».
تواصلت مع المخرج البريطانى توماس ميدمور، الذى طلب منى المشاركة فى الفيلم الوثائقى، الذى عرض بالفعل عام ٢٠١٩، لكننى لم أستطع السفر إلى لندن وقتها. ثم ذهبت إلى د. محمد الباز وشرحت له ما جرى، فقال لى: تواصلتى مع مخرج الفيلم الوثائقى، ولم تتواصلى مع «برجمان» وهو السبب الأول فى تشويه صورة أشرف مروان، ويستميت الآن فى الدفاع عنه وتبرئته وضرب الرواية الإسرائيلية التى روج لها بار جوزيف، ثم أضاف بحزم: «ابدئى فورًا التواصل مع برجمان!».
ترددت فى البداية كصحفية مصرية ترفض إجراء حوار مع إسرائيلى، لكن الهدف كان أكبر من أى تردد، وهو إعادة تأكيد أن أشرف مروان كان بطلًا مصريًا ضلل «الموساد». لذا تواصلت مع «برجمان» عبر حسابيه فى «فيسبوك» و«تويتر» فرد سريعًا بالموافقة على إجراء الحوار، لكن عبر البريد الإلكترونى، كما يفعل دائمًا فى تصريحاته للصحف الأمريكية والغربية.
كان «برجمان» متحمسًا ومنحازًا لوجهة نظره وشهادته عن حقيقة أشرف مروان كوطنى مصرى وعميل للمصريين ضلل إسرائيل، بل والأداة الرئيسية لتحقيق نصر أكتوبر وعبور القناة، وفقًا للحوار الذى أنشر جزءًا منه فيما يلى:
لماذا تعترف الآن بأن أشرف مروان جاسوس مصرى ضلل «الموساد»، رغم أنك كنت أول من ادعى «عمالته لإسرائيل» فى كتابك «تاريخ إسرائيل» عام ٢٠٠٢؟
كانت هذه وجهة نظرى دائمًا، لطالما صممت على أن أشرف مروان هو جاسوس مصرى ضلل «الموساد» قبل حرب ١٩٧٣. هو أكثر من أى مصرى أو جاسوس مصرى، قام بعمل كبير وخطير ومختلف أدى إلى انتصار المصريين. هو المسئول الأول عن النجاح المصرى فى المرحلة الأولى من حرب ٧٣.
لكى يكون قادرًا على تضليل الإسرائيليين فى اللحظة الحرجة، قبل الحرب مباشرة، كان من الضرورى لـ«أشرف مروان» أن يجعل الإسرائيليين يثقون به ويصدقونه، رمى لهم الطعم واستجابوا له، وهو ما فعله بنجاح كبير، عبر تزويدهم بمعلومات صحيحة قبل عدة سنوات من الحرب. لكن قبل الحرب مباشرة، فى أكثر الأوقات حساسية، ضللهم وساعد فى تأمين هجوم مصرى ناجح وعبور لقناة السويس بعد ظهر السادس من أكتوبر ١٩٧٣.

أوهمهم بأن العرب لن يهاجموا.. ثم خدعهم
شهدت الفترة بين ١٩٧٢ وأبريل ١٩٧٣ انقسامًا إسرائيليًا حول تكرار إنذارات أشرف مروان. لكن فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣ شنت مصر وسوريا هجومًا عسكريًا مفاجئًا وهائلًا.
عبرت القوات المصرية قناة السويس ونصبت الأعلام فى سيناء المحتلة. بينما اخترقت مئات الدبابات السورية مرتفعات الجولان بسهولة، متغلبة على قوات إسرائيلية قليلة، فقد كان معظم الجيش الإسرائيلى لا يزال بعيدًا.
جاء الهجوم فى الثانية بعد الظهر، رغم تحذير أشرف مروان بأن الهجوم سيكون عند غروب الشمس، ما شكل صدمة كبيرة، بعكس مفاجأة عام ١٩٦٧.
وبحسب أهارون برجمان، فى كتابه «الجاسوس الذى سقط على الأرض: علاقتى بالعميل السرى الذى هز الشرق الأوسط»، استمرت آثار حرب أكتوبر فى التأثير العميق على المجتمع الإسرائيلى، مع موت نحو ٣٠٠٠ إسرائيلى.
مع تحوله إلى دراسة تاريخ حروب إسرائيل، اعتبر «برجمان» حرب أكتوبر الأكثر إثارة، لكونها هجومًا عربيًا مفاجئًا، أخرج إسرائيل عن توازنها، وأكد أن هناك جاسوسًا عربيًا بارعًا ونشطًا قبل الحرب، لكنه لم يذكره كثيرًا إلا بعد مقابلته مع إيلى زعيرا، فى ١٩٩٨، ضمن سلسلة وثائقية على قناة «بى بى سى» البريطانية بعنوان «حرب الخمسين عامًا: العرب وإسرائيل».
ويُعتبر إيلى زعيرا شخصية بارزة فى إسرائيل، فهو جنرال متقاعد شارك فى حروب تل أبيب منذ عام ١٩٤٨ وحتى ١٩٧٣، وقبل اندلاع حرب أكتوبر، شغل منصب مدير الاستخبارات العسكرية «أمان»، وكان يقدم استشاراته للحكومة بشأن احتمالات اندلاع حرب مع الدول العربية.
خلال الأشهر التى سبقت الحرب، قدّمت تحليلات «زعيرا» لرئيسة الوزراء، جولدا مائير، حكمًا مفاده أن العرب لن يجرؤوا على شن هجوم، وأن فرص نشوب حرب «أقل من ضئيلة». كان يعتقد أن الحرب مستحيلة، لكن الواقع خالف توقعاته، حين فاجأته مصر وسوريا بشن هجوم عسكرى واسع.

ومع انتهاء الحرب وظهور حجم الخسائر البشرية والمادية، تصاعد الغضب داخل إسرائيل، وبدأت التحقيقات، وكان «زعيرا» أول من سقط فى موجة الإقالات، بعد أن حمّلته لجنة التحقيق برئاسة رئيس المحكمة العليا شمعون أجرانات المسئولية الكبرى عن كارثة أكتوبر، ما دفعه إلى الاستقالة مع تعرضه للإذلال.
ظل «زعيرا» صامتًا لسنوات، رافضًا التعليق على الحرب، حتى نشر فى أوائل التسعينيات مذكراته «حرب يوم الغفران: الأسطورة مقابل الواقع»، وألمح فيها إلى وجود «عميل مزدوج» مصرى، دون ذكر اسمه.
وفى مقابلة أجرتها «بى بى سى»، فى عام ١٩٩٨، قال «برجمان» إن «الموساد» تعرض للخداع بواسطة جاسوس مصرى، لكنه رفض الكشف عن هويته، مشيرًا بحركة يد لوقف الحديث أكثر عن هذه القصة الغامضة. وفى الأسابيع التى تلت مقابلة «بى بى سى»، أصبح «برجمان» مهتمًا بشكل متزايد بهذه القصة التى تعود إلى عام ١٩٧٣، بل أصبح «مهووسًا» بذلك.
بذل «برجمان» كل ما فى وسعه لكشف لغز هوية الجاسوس الغامض، ومعرفة ما إذا كان جاسوسًا حقيقيًا يعمل لصالح إسرائيل، أم، كما قال «زعيرا»، حصان طروادة زُرِع فى «الموساد» لخداعه فى النهاية.
جمع «برجمان» كل المعلومات المتاحة، واطلع على كل ما كُتب عن حرب أكتوبر، وأعد قوائم بأسماء «الجواسيس المحتملين». وبعد مراجعة الوثائق والمذكرات، ضمّن قائمة مختصرة بـ٣ أسماء، أرسلها إلى «زعيرا» عبر الفاكس، فكان رده مختصرًا: «لن تعرف منى شيئًا!».
رغم ذلك، واصل «برجمان» البحث، وحذف تدريجيًا أسماء من القائمة حتى بقى اسم واحد فقط: أشرف مروان، صهر الرئيس المصرى جمال عبدالناصر.
كان واضحًا أن «زعيرا» لا يرغب فى مساعدة «برجمان» فى كشف هوية الجاسوس، لذا لجأ إلى رامى تال، محرر مذكرات «زعيرا»، الذى يعرفه «برجمان» ككاتب وصحفى.
ظن «برجمان» أن «تال» وربما «زعيرا» ناقشا الاسم أثناء تحضير المذكرات، وأن «زعيرا» فضّل إبقاء الهوية طى الكتمان. لذا سافر «برجمان» من لندن إلى إسرائيل، واتصل بـ«رامى» ودعاه لتناول مشروب، مُحضرًا اللقاء بعناية، ومُدرِكًا أن هذه فرصته الوحيدة، وأن الفشل قد يحرمّه من الحقيقة لفترة طويلة.
أعاد «برجمان» ترتيب ما سيقوله لـ«رامى تال» مرارًا وتكرارًا، وأين سيذكر بالضبط اسم أشرف مروان فى محادثتهما، وما الذى سينظر إليه عندما يذكر الاسم، وخطط لمعرفة ما إذا كانت لغة جسد «رامى» تؤكد أن «مروان» هو الجاسوس المصرى المزدوج الغامض، الذى ذكره «زعيرا»، أم لا.
التقى «برجمان» بـ«تال» فى «بيت سوكولوف»، ذلك المقهى الشعبى فى تل أبيب المفضل لدى الصحفيين، حيث تناولا قهوة باردة ورديئة من أكواب بلاستيكية، وبعد نحو ١٠ دقائق من الحديث، بدأ «تال» يظهر حماسه، فخاطبه «برجمان» فجأة قائلًا: «أشرف مروان هو الرجل»، ونظر مباشرة فى عينيه.
كان رد فعل «تال» واضحًا، إذ أمعن النظر بعيدًا وابتسم، لتؤكد لغة جسده أن أشرف مروان هو بالفعل الجاسوس المصرى الذى خدع «الموساد»، وأسهم فى هزيمة إسرائيل خلال حرب أكتوبر.
عاد «برجمان» إلى لندن وهو يملؤه الحماس والفرح، إذ شعر أنه أخيرًا، بعد شهور من البحث، حل اللغز، لكنه كان واعيًا أيضًا بضرورة الحذر، لأن الأدلة لم تكن قاطعة.
كان يتساءل: «ماذا لو كنت مخطئًا؟» ماذا لو أن رد فعل «تال» جاء بسبب شىء آخر وليس بسبب ذكر اسم «مروان»؟ فهذه الأمور غالبًا ما تعتمد على تفسير الناظر والمتلقى.
شرع «برجمان» فى خطواته بحذر، مبتدئًا بإطلاق تلميحات مدروسة عن هوية أشرف مروان، مع إبقاء مجال للانسحاب إذا نفى «مروان» الأمر، أو هدد باتخاذ إجراءات قانونية بتهمة التشهير.
استراتيجية «برجمان» كانت تصعيد التلميحات تدريجيًا، خطوة خطوة، لاستفزاز رد فعل من أشرف مروان، وإذا كان رد الفعل قويًا للغاية، كان «برجمان» مستعدًا للتراجع وترك الأمر نهائيًا.
أول تلميح رسمى قدمه «برجمان» جاء فى فصل عن حرب ٦ أكتوبر، ضمن كتابه «حروب إسرائيل» الذى صدر عام ٢٠٠٠، والذى وصف فيه الجاسوس المصرى الغامض بأنه «اليد اليمنى» للرئيس المصرى أنور السادات.

رئيس المخابرات العسكرية الأسبق: لولاه لبدأنا التعبئة فى 4 أكتوبر
تضليل أشرف مروان للإسرائيليين أكده أيضًا العميد شلومو جازيت، الذى عُيّن رئيسًا لمديرية المخابرات العسكرية بعد حرب أكتوبر، بعد أن كان يشغل منصب فى «وحدة تنسيق العمليات» خلال الحرب، والذى اطلع على معلومات استخباراتية بالصدفة يومى ٤ و٥ أكتوبر، فأصيب بالرعب وسأل رئيس الأركان: «لماذا لم تأمر بالتعبئة العامة للاحتياط؟».
وفى حديثه مع الصحفى الإسرائيلى، رونين برجمان، قبل وفاته، قال «جازيت»: «كانوا جميعًا ينتظرون أشرف مروان، وتأثروا بآخر المعلومات التى قدمها ولم يقدمها. لكن أنا لم أنتظر تقريره من لندن. لذا استطعتُ النظر فى البيانات كما هى، والتوصل إلى استنتاج واضح، لا يخلو من دهشة أى شخص لم يكن تحت تأثير التنويم المغناطيسى الذى فرضه (مروان) على الجميع، وهو أن هناك خطرًا واضحًا ومباشرًا للحرب».
وأضاف «جازيت»: «كان المصريون يعلمون أنهم كانوا بحاجة إلى من يُضلّل إسرائيل. كان هذا هو (الملاك)»، مؤكدًا أنه «لولا أشرف مروان، لكانت التعبئة قد بدأت فى الرابع من أكتوبر، أو على أبعد تقدير صباح اليوم التالى. وكان من شأن هذه التعبئة أن تمنع الحرب، أو تسمح بوجود قوات احتياط مُجهزة تجهيزًا كاملًا. بينما كان انتظار خبر (مروان) يعنى أن تعبئة الاحتياط لم تبدأ إلا صباح يوم الغفران، السادس من أكتوبر».
وواصل ساخرًا: «بعد ورود التقرير الهاتفى من رئيس (الموساد) فى لندن، أشعر بالحرج لمجرد التفكير فى كيف جلس أشرف مروان والسادات فى مكتب الرئيس، وسخرا من رئيس الموساد، الذى لا يفهم ما يحدث له وما ورّط نفسه فيه»، متابعًا: «مارس المصريون، من خلال (مروان)، أكبر تضليل فى التاريخ ضدنا».
وأكمل: «نعلم أن هناك مئات الآلاف من الجنود المصريين على ضفاف قناة السويس، وجنودًا سوريين على طول الحدود، وجميعهم قادرون على شن هجوم فى غضون ساعات قليلة، ومع ذلك لا نستدعى جنود الاحتياط، لماذا؟ لأننا مقتنعون بأن لدينا جهاز تنصت فى دماغ السادات سيبلغنا بالأمر!».

وحسب المسئول العسكرى الإسرائيلى، التقى «مروان» رئيس «الموساد» فى عاصمة أوروبية بعد الحرب، ونقل من خلاله رسالة مضللة من «السادات» إلى جولدا مائير، مفادها أن «القاهرة لا ترى فى مسألة الجيش الثالث (حصاره) ما قد يضرّ مصر»، ثم التقيا فى اليوم التالى مرة أخرى، دون أن يتساءل أحد فى «الموساد» كيف لرجل مقرب جدًا من «السادات» أن يحضر اجتماعين مع رئيس الجهاز بأوروبا، فى خضمّ حرب؟!
وحسب الإسرائيليين، بعد نجاحه فى تحقيق هدفه الأول، وهو الحرب وعبور القناة، كانت المهمة الثانية لـ«أشرف مروان» هى إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن بأفضل شروط لمصر، وذلك من خلال معلومات قدمها إلى إسرائيل وقتها، كان لها تأثيرٌ كبير على عملية صنع القرار فى أعلى مستويات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ومن بينها قرار موشيه ديان، بناءً على معلومات «مروان»، بإلغاء هجوم إسرائيلى كان يهدف إلى الاستيلاء على بور فؤاد من خلال «ثغرة الدفرسوار».
وشكلت هذه المعلومات كذلك أساسًا لتقييمات مسئولى الأمن بأن إسرائيل لن تصمد أمام حرب استنزاف طويلة، وأنها يجب أن تتوصل إلى وقف إطلاق نار قريبًا، وهو ما حدث بالفعل فى ٢٥ أكتوبر.

خاص.. «هزمناكم».. نص مكالمة بين برجمان ومروان فى 2006
نجح أهارون برجمان فى التواصل المباشر مع أشرف مروان، من خلال رحلة بدأت باكتشاف أن أحد طلابه الجامعيين فى لندن ينتمى إلى عائلة «مروان»، فضغط عليه حتى أعطاه عنوان «الملاك» فى العاصمة البريطانية.
على هذا العنوان، أرسل المؤرخ الإسرائيلى نسخة من كتابه الجديد، ووضع «علامات» على صفحات معينة تشير إلى ان أشرف مروان كان «عميلًا مزدوجًا»، بعد أن كتب على غلافه: «إلى أشرف مروان بطل مصر»، مع كتابة رقم هاتفه وعنوان منزله.
انتظر «برجمان» بقلق رد فعل أشرف مروان، وبعد فترة طويلة تواصل «مروان» مع «برجمان» على الهاتف. وذات مرة، أطلعه «برجمان» على مقال نُشر فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، وضعت إلى جواره صورة أشرف مروان يقف إلى جانب الرئيس المصرى حسنى مبارك، تحت عنوان: «هكذا يعانق مبارك جاسوسنا».
بعد بضعة أيام، اتصل أشرف مروان بـ«برجمان» هاتفيًا، وبدأ فى إطلاق صيحات غاضبة، وبصوت مختنق لم يسمعه «برجمان من قبل»، وصرخ فى وجهه بأعلى نبرة قائلًا: «إنهم ينتقمون منى؟»، قاصدًا «الموساد».
وفيما يلى ملخص لمحادثة هاتفية بين أشرف مروان و«برجمان»، جرت فى ٦ أكتوبر ٢٠٠٦، وفقًا لرواية المؤرخ الإسرائيلى:
إنها الذكرى الثالثة والثلاثون لحرب أكتوبر ١٩٧٣، كنت أفكر فى «مروان»، ثم رن الهاتف، اتصل «أشرف» حوالى الواحدة بعد الظهر، محادثة طويلة امتدت نحو ٤٠ دقيقة، تحدثنا أولًا عن الطقس. يبدو أنه فى أمريكا، كما يقول. مشاكل صحية منذ السنوات الثلاث الماضية. لكنه يقو: «أنا بخير».

سألنى عن اسم كتاب أرييه شاليف الجديد عن حرب أكتوبر. «شاليف» كان ضابطًا عسكريًا إسرائيليًا برتبة عميد، شغل منصب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، ومساعد رئيس المخابرات العسكرية للأبحاث قبيل حرب أكتوبر ١٩٧٣. ثم قال: «يمكنهم (الإسرائيليون) أن يقولوا ما يريدون.. نتائج الحرب تتحدث عن نفسها. أرادت جولدا مائير الانتحار... خسر الإسرائيليون مئات الدبابات فى اليوم الأول من الحرب».
قال «مروان»، خلال هذه المحادثة، إنه كان يعمل مع جواسيس آخرين لخداع إسرائيل فى عام ١٩٧٣. تحدث معى عن خطاب «السادات» الذى قال فيه: «بدون هذا الرجل (فى إشارة إلى أشرف) لم نكن لنفوز بالحرب أبدًا». ثم أخبرنى بأنه سيُظهر لى النسخة الإنجليزية من هذا الخطاب، عندما نلتقى مرة أخرى: «بعد بضعة أشهر عندما أعود من أمريكا».
وأكد أنه كتب جميع خطابات السادات، وكانوا فريقًا من ٤٠ شخصًا، مهمتهم «تغذية المفهوم للإسرائيليين بأن مصر لن تخوض حربًا قبل الحصول على أسلحة معينة.. لم يكن هناك عميل مزدوج واحد.. كانت هناك مصر»، على حد تعبيره. الحقيقة أنه لن يعترف بأنه كان جاسوسًا على الإطلاق، بل كان مجرد جزء من آلة مصرية أكبر ضللت الإسرائيليين.

لم يُجنّد بل عرض خدماته على «الموساد» لإتقان خطة الخداع
فى كتابه «حروب إسرائيل»، وصف أهارون برجمان «شخصية مصرية بارزة» بأنها كانت تعمل كجاسوس مزدوج، متبنيًا نظرية إيلى زعيرا حول هذا العميل الذى ظل اسمه سرّيًا.
قال «برجمان» عن هذا العميل إنه كان يخدم مصر، لكنه نجح فى خداع «الموساد» ليبدو وكأنه جاسوس ممتاز لصالح إسرائيل. وبعد أن اكتشف «برجمان» هوية أشرف مروان، أو على الأقل اعتقد أنه هو، أدرك أن ادعاء «زعيرا» عن ازدواجية «مروان» لم يكن مُستبعدًا.
كان أشرف مروان عميلًا «متطفلًا»، وفق المؤرخ الإسرائيلى، إذ عرض خدماته على «الموساد» عام ١٩٧٠ من تلقاء نفسه، دون أن يتم تجنيده أو اختياره من قبل الجهاز، ما يجعله «حصان طروادة» زرعته المخابرات المصرية لتضليل الإسرائيليين.
وحسب «برجمان»، عززت شهادات عملاء «الموساد» الذين راقبوا تحركات أشرف مروان فى لندن، قبل وبعد لقائه الضابط دوبى أشيروف، نظرية «العميل المزدوج»، فقد أظهر «مروان» ثقة استثنائية، وتواصل مباشرة مع السفارة الإسرائيلية، وحضر اجتماعات مع «أشيروف» دون أى تحفّظ، وحمل معه وثائق سرية جدًا لتسليمها. قد يُفسر هذا على أنه تهور أو ثقة مفرطة، وهو ما لاحظه «برجمان» لاحقًا عند تعامله مع «مروان» شخصيًا.
وذكر بيتر تسفى مالكين، عميل مخضرم فى «الموساد» مسئول تأمين لقاءات أشرف مروان مع «أشيروف»، أن سلوك «مروان» كان مثيرًا للدهشة، إذ اعتاد أن يحضر الاجتماعات بسيارة تحمل رقم رخصة السفارة المصرية، دون أى احتياطات أمنية، مستمتعًا بوقته حتى فى باريس مع جيهان السادات وابنتها، ما دفعه لأن لا يثق به منذ اللحظة الأولى.
كان «مالكين» يشك دائمًا فى ازدواجية عمل «مروان». كما كان رافائيل «رافى» ميدان، رئيس مكتب «الموساد» فى لندن، يشك هو الآخر بأن صهر عبدالناصر قد يضلل الإسرائيليين.
وحسب «ميدان»، من المحتمل أن جهاز المخابرات البريطانى «MI٥» كان على علم بأنشطة التجسس فى لندن، وربما كان يراقب «مروان»، وسرّب للمصريين أخبارًا عن لقاءاته مع الإسرائيليين. لكنه يرى أن «مروان» ربما شعر بالأمان والطمأنينة لأنه كان مُرسلًا من قبل المصريين لحضور تلك الاجتماعات بغرض تضليل «الموساد».
تعززت قناعة «برجمان» بأن أشرف مروان كان يخدع الإسرائيليين بسبب تحذيراته الكاذبة المتكررة. ففى خريف ١٩٧٢ وربيع ١٩٧٣، حذر «مروان» إسرائيل من هجوم مصرى وشيك، لكن هذه التحذيرات كانت مزيفة، ما دفع إسرائيل إلى تعبئة قواتها والحفاظ على حالة تأهب قصوى، قبل أن تخفف استعداداتها لاحقًا.
ويرى «برجمان» أن «مروان» ربما كان يعانى من متلازمة «الصبى الذى صاح: ذئبًا»، ما سمح للمصريين برصد رد فعل إسرائيل على هذه الإنذارات، وإعادة تعديل خططهم الحربية بناءً على ذلك. لكن الأكثر إثارة كان توقيت القرار المصرى بشن الحرب، الذى يحمل دلالات أعمق وأهمية كبيرة فى سياق الصراع.
فى مذكرات المسئولين خلال هذه الفترة، ورد أن القرار الحاسم بشن الحرب ضد إسرائيل اتخذ للمرة الأولى فى الإسكندرية بتاريخ ٢٣ أغسطس ١٩٧٣، وذلك يثير تساؤلًا جوهريًا: كيف تمكن أشرف مروان من تحذير «الموساد» بين ١٩٧٢ وأبريل ١٩٧٣، أى قبل صدور القرار المصرى الرسمى بشن الحرب.
والأكثر إثارة للدهشة هو موقف «مروان»، فى ٢٨ أغسطس ١٩٧٣، عندما جلس «السادات» مع ملك السعودية، وأبلغه بأن الحرب ستندلع قريبًا جدًا. وكان «مروان» الشخص الوحيد فى الغرفة معهما. لكنه أبلغ الإسرائيليين بأن مصر أرجأت خطط الحرب، ما يطرح السؤال: لماذا فعل ذلك إن لم يكن لخداعهم؟
ووفقًا لـ«إيلى زعيرا»، فإن إخفاء «مروان» هذه المعلومات الحيوية، وعدم تبليغ «الموساد» بهذا الاجتماع السرى، يعد «الجوهرة فى تاج خطة الخداع المصرية»، ما يبرز دور «مروان» المركزى فى التضليل الذى ساعد مصر على إحكام مفاجأتها فى حرب أكتوبر.
فى الساعات القليلة التى سبقت اندلاع الحرب، وجّه أشرف مروان تحذيرات لإسرائيل زادت من شكوك «برجمان» بشأن صدق نواياه، إذ كان واضحًا أنه كان يدرك أن المعلومات التى يزود بها «الموساد» لم تمنحهم الوقت الكافى لتعبئة قواتهم على الجبهات.
فعندما تواصل هاتفيًا من باريس مع دوبى أشيروف، استخدم عبارة مشفرة عن «الكثير من المواد الكيميائية» لتحذير عام وغامض، وليس تحذيرًا دقيقًا ومُحددًا عن الحرب الوشيكة.
كان بإمكان «مروان» أن يستخدم كلمات أكثر وضوحًا ليمنح الإسرائيليين وقتًا إضافيًا للتحضير، لكنه اختار بدلًا من ذلك استدعاء مدير «الموساد»، تسفى زامير، إلى لندن للقاء خاص فى اليوم التالى، وهمس له بتحذير محدد يشير إلى بدء الحرب خلال ٢٤ ساعة. رغم ذلك، بدا أن «مروان» كان يخدعهم مرة أخرى، إذ قال لـ«زامير» إن الهجوم سيبدأ عند غروب الشمس، بينما اندلعت الحرب فعليًا فى الثانية بعد الظهر.
بناءً على هذه المعلومات المضللة، استندت إسرائيل إلى خطة نقل دباباتها إلى الخطوط الأمامية فى السادس من أكتوبر، عند الرابعة مساءً. لكن بحلول ذلك الوقت كانت القوات المصرية قد اجتاحت المواقع بالفعل، ما كشف حجم التضليل الذى أدى إلى فشل إسرائيل فى التصدى للهجوم المباغت.