الأربعاء 08 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رماد المحرقة.. فلسطينيون يقاومون الرصاص بالكلمات

حرف

- طبقة رمادية من السخام تغطى أجساد أطفالنا من الرأس لأخمص القدمين

- كاتب: أخشى على ابنى المريض من الموت فى دولة أخرى وعلى بنتى من الموت فى غزة! 

- والدى قتله المستوطنون ووالدتى تُعالج بـ«الكيماوى» والحرب تستنزفنى كل يوم

- 2 مليون شخص على 140 ميلًا من الأرض يتعرضون لقصف غير مسبوق على مدار عامين

- كلمات مثل «الإبادة الجماعية» ممنوعة فى كندا!

على مدار نحو عامين، يتعرض الفلسطينيون فى الأرض المحتلة لتصعيد متواصل وجرائم فظيعة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلى، وأدى ذلك إلى انتشار المجاعة واستشهاد عشرات الآلاف، فيما يخضع 90% من القطاع لسيطرة إسرائيل العسكرية أو أوامر «تهجير قسرى».

ورغم كل البيانات التى تُظهر جرائم الكيان الإسرائيلى فى غزة، يطل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوميًا بتصريحات استفزازية، تخلو تمامًا من الصحة، متنكرًا لكل التقارير، ومن بينها تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الصادر الأسبوع الماضى، الذى أكد للمرة الأولى أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية فى غزة.

فيما يجتمع قادة العالم فى نيويورك لإلقاء الخطابات وعقد اللقاءات خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ80 التى انطلقت أمس الثلاثاء، تظل الحرب فى غزة مهيمنة على المشهد، وسط تنامى خطط الجيش الإسرائيلى التى أعلنها فى أغسطس الماضى لاحتلال غزة بالكامل، كما يتعرض القطاع لقصف متواصل على المنشآت السكنية، بهدف إجبار العائلات الفلسطينية على النزوح، ما يفاقم المجاعة والأزمة الإنسانية.

وفى ظل اتساع الفجوة بين أوروبا وأمريكا على خلفية أحداث غزة، وتعهد العديد من الدول الأوروبية الاعتراف بدولة فلسطين، حيث اعترفت بها بريطانيا وأستراليا وكندا رسميًا الأحد الماضى كما أعلن رؤساء وزرائها كير ستارمر وأنتونى ألبانيزى ومارك كارنى على التوالى، تُصدر عدة دور نشر كندية رائدة خلال سبتمبر الجارى وحتى نهاية العام كتبًا جديدة تركز على دعوات البقاء والتمسك بالأرض والتنديد بهوس الكيان الصهيونى وجنون تحركاته، وهى ما تسلط «حرف» الضوء على أبرزها خلال السطور التالية.

You Will Not Kill Our Imagination.. سعيد الطيبى: أقول للسفاحين «اقتلونى واتركوا أطفال غزة»

يصدر كتاب «You Will Not Kill Our Imagination» أو «لن تقتلوا خيالنا»، فى ٣٠ سبتمبر الجارى، عن دار نشر «سكريبنر كندا» للكاتب والمحامى الفلسطينى الكندى سعيد الطيبى، والذى يشرح فى كتاب الأشبه بالمذكرات، معنى أن يكون المرء فلسطينيًا فى هذه اللحظة، وتأثيرات الإبادة الجماعية على الفن والخيال الفلسطينى.

ويركز «الطيبى» فى كتابه الذى يضم بين دفتيه نحو ٢٥٠ صفحة، على آثار الإبادة الجماعية على أجساد وعقول ومخيلات الفلسطينيين خصوصًا، والبشرية بشكل عام، بالإضافة إلى الآثار النفسية للنزوح، وسرقة الوطن، كما نقرأ فى المقتطفات التى نوردها فى السطور التالية:

فى أكتوبر ٢٠٢٣، خلال الهجوم الإسرائيلى الأخير على غزة، كنا نشهد منذ عدة أسابيع نشأة فئة جديدة من الأطفال. تشابهت سمات هؤلاء الأطفال: طبقة رمادية من السخام تغطى أجسادهم الصغيرة من الرأس إلى أخمص القدمين، لا تتخللها سوى آثار حروق أو دماء، أطراف مفقودة أو مشوهة، اليتم المفاجئ، والزوال المتزامن للأسرة المباشرة والممتدة، والأهم من ذلك كله: نظرة حيرة مُطلقة تجاه العالم الذى عادوا إليه.

بالنظر إلى الماضى، أخذتنى صدمةُ وحزنُ رؤيةِ هذا التجريدِ الجسدىِّ من الإنسانيةِ للأطفال إلى حالةٍ نفسيةٍ غير مألوفة. كنتُ أساومُ، عقليًا، الجانى الذى هو دولة إسرائيل نفسها. تخيّلتُ العرضَ الذى يُمكننى تقديمه. أنا متعلمٌ جيدًا، فصيحٌ، لدىّ دخلٌ بمستوى دخلِ الغرب، والأهم من ذلك، أنا فلسطينى. هل سيقبلون بى بدلًا منهم؟ كم طفلًا يُمكننى إنقاذُه إذا ضحّيتُ بنفسى؟ اثنا عشر؟ بدا ذلك طموحًا للغاية. ماذا عن ثلاثة أو أربعة فقط أو واحد؟

فى بعض مفاوضاتى النفسية، شعرتُ أننى مستعدةٌ للتخلى عن نفسى مقابل عدم إنجاب أطفال. خذنى. من فضلك، خذنى فقط.

بعد أسبوع تقريبًا، تجاوزتُ مرحلة «خذنى». لكن فى محادثاتى ورسائلى المباشرة مع الأصدقاء والمعارف، خاصةً مع كُتّاب آخرين، أدركتُ أن الكثيرين قد مرّوا بمرحلةٍ مماثلةٍ فى صدمتهم. كتبت إحدى صديقاتى الكاتبات، قصيدة قصيرة عبّرت عمّا كنتُ أشعر به بدقةٍ مذهلة:

«الموت نظر إلى أطفالنا ووجد

الدين يقول

خذنى من فضلك ودع هذا الطفل يعيش»

مثلى، جرّب آخرون، شهدوا الفظائع كل ما يُمكن اعتباره بناءً. الاحتجاج، كتابة المقالات، حشد التأييد، التبرعات، ووسائل التواصل الاجتماعى. النتيجة الوحيدة التى حصدناها كانت واحدة: مذبحة ودمار كل ساعة على نطاق غير مسبوق فى تاريخ البشرية الحديثة.

والنطاق- النطاق هو الأساس. إذا كان للهجوم على غزة سابقة معاصرة، فهناك هجوم الولايات المتحدة على العراق عام ٢٠٠٣، حملة «الصدمة والرعب» سيئة السمعة. كان العرض الذى قدمته الولايات المتحدة بفخر فوق المدن العراقية يهدف إلى إخماد أى فكرة نصر قد يتخيلها العراقيون لأنفسهم، من خلال استعراض للصواريخ المتساقطة.

مع شدة الدمار الذى تعرضت له ولا تزال تتعرض له غزة، يبدو أن إسرائيل تطمح إلى تدمير قدرتنا على التخيل. ككاتب، شعرتُ بتناغم خاص مع هذا.

من أكثر جوانب الكتابة إثارة للرعب هو كم هو عمل إيمانى. يتطلب الأمر من الكاتب، وهو وحيدٌ يستحضر الكلمات على شاشة الكمبيوتر، أن يؤمن بأن التجارب التى يكتبها، مهما كانت غريبة، ستُدهش القراء، سواءً أكانت مألوفة أم مؤثرة أم مثيرة للاهتمام. ولا يُخفف من وطأة هذا الاعتقاد إلا إدراكه أن القراء يمتلكون خيالًا يُعينهم على استكشاف عوالم مختلفة.

الكتابة الفلسطينية أقرب إلى الإيمان، بصفتى كاتبةً أكتب باللغة الإنجليزية، كان افتراضى الأساسى أثناء كتابة مجموعتى القصصية الأولى هو أن القراء لن يتفاعلوا مع أعمالى، ليس لأنها فريدةٌ فى عدم الترابط، بل لأن التواصل مع الفلسطينيين كان محظورًا على الدوام. يُنظر إلى التعاطف مع الفلسطينيين، فى بعض البلدان، على أنه علامة على طبيعةٍ تخريبية، أو على الأقل متمردة. ومن المؤكد أنه فى العديد من المقابلات، كان هناك «بشكل ما» سؤال حول ما إذا كانت أعمالى الروائية تسعى إلى إضفاء طابع إنسانى على الفلسطينيين، وكيف، وهو سؤالٌ مبنى على إهانة عنصرية. الحالة الوحيدة التى تحتاج فيها إلى الاقتناع بإنسانية شعب ما هى أن تشكّ أصلًا فى افتقاره إليها.

وأكثر من ذلك، فإن الكتابة الفلسطينية فعل إيمان، لأن الهوية الفلسطينية نفسها مُهدّدة للغاية. وقد وُثّق محو فلسطين على مدى القرن الماضى توثيقًا جيدًا. حوّلت إسرائيل الضفة الغربية «وهى نفسها جزء صغير فقط من فلسطين التاريخية» إلى بانتوستانات صغيرة معزولة، تُعيد تقليص مساحتها باستمرار عبر عمليات التهجير والاستيطان العدوانية. غزة محاصرة منذ زمن طويل، ويصعب اختراقها من الداخل أو الخارج. بالنسبة لفلسطينيى الشتات تحديدًا، فإن مفهوم فلسطين مُدعّم بشكل رئيسى بذكريات توارثها أجدادهم الراحلون، ومكالماتهم الهاتفية مع أقاربهم فى فلسطين، وبقايا رحلاتنا المتقطعة إلى الوطن، عندما تسمح لنا إسرائيل بالدخول. إنها عملية تجميع محفوف بالمخاطر لجميع الأوراق المتبقية لدينا.

لم أزر فلسطين إلا مرة واحدة، مع والدى، فى رحلة لم تدم سوى بضعة أيام عندما كنت فى التاسعة عشرة من عمرى. بالنسبة لى، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، تُعدّ الكتابة عن فلسطين تمرينًا خياليًا مكثفًا. نتخيل كيف كانت تبدو منازلنا القديمة قبل أن تُسرق منا، وأين كانت أشجار زيتوننا قبل أن تُقتلع أو تُحرق، وكم مرةً فى الأسبوع كنا سنزور ساحات الأقصى والأسواق المحيطة به لو لم تكن هناك حواجز تفتيش لا تُحصى؟

ويمتزج مع هذا العمل الخيالى إيمان بأننا سنحصل على هذه الأشياء حقًا، فى وقتٍ ما فى المستقبل غير البعيد. الإيمان هو أن فلسطين التى نراها فى أذهاننا لا تزال ممكنة. مآسى الظلم ليست مجرد مصدر مناسب للتوتر فى كتاباتنا، أو شيئًا يُضفى على أعمالنا هالة من الصلاح. إنها تُشكّل دائمًا نقدًا لحالةٍ يجب التخلص منها. الرؤية التحررية لفلسطين ليست خيالًا؛ إنها حقيقيةٌ ككلماتنا.

هذه البنية الخيالية ليست حكرًا على الكُتّاب أو الفنانين أيضًا. كل هتاف «فلسطين حرة» فى مظاهرة عامة هو خيالنا الجماعى الذى يتجسد فى أحلام وأهداف قابلة للتنفيذ.

كل هذا يجعل حملة الإبادة التى اعترفت إسرائيل بتنفيذها تبدو وكأنها تحمل هدفًا مضادًا من نوع مختلف. عشرون ألف قتيل، أحياء دُمرت تمامًا، عائلات بأكملها محيت من السجل المدنى، الغالبية العظمى من السكان هُجّرت من ديارها وتُركت تجوب الجغرافيا الضئيلة، منتقلة من مواقع قريبة من الموت إلى مواقع موت حقيقى. حتى البشر الذين ما زالوا على قيد الحياة، بعد أن دُمّروا، تحوّلوا إلى أناس رماديين مسكونين بالأشباح.

الفكرة المتكررة عند المشاهدة هى: «ماذا تبقى؟» إذا لم تكن هناك مساكن للعودة إليها، ولا مستشفيات للعلاج فيها، ولا مزارع للزراعة، ولا مال كافٍ لإعادة البناء، وحتى أطراف للبعض لإعادة البناء بها، فماذا تبقى إذًا؟ ما جدوى المقاومة أصلًا؟

أعادتنى هذه الأسئلة إلى مرحلة «خذنى». إذا بدت فكرة غيابى الشخصى ذات يوم جديرة بالاهتمام لوقف ولو جزء صغير من هذه الأهوال، فمن المؤكد أن خيالى عن فلسطين قد تضرر هو الآخر.

فى الواقع، تضرر الفلسطينيون الذين يمتهنون الإبداع بشدة جراء العدوان الإسرائيلى. نقلت وسائل الإعلام العالمية خبر استهداف الشاعر والقاص الفلسطينى البارز، رفعت العرير، على ما يبدو بضربة، لكنه ليس الوحيد. قائمة الكُتّاب والمثقفين الفلسطينيين الذين قُتلوا طويلة، ناهيك عن أولئك الذين اختُطفوا وتعرضوا للضرب مثل الشاعر مصعب أبوتوهة.

ناهيك عن أن اللغة التى يصف بها الفلسطينيون أنفسهم، وما يحدث لهم، وما يريدونه، تتضاءل باستمرار تحت وطأة وابل من اتهامات معاداة السامية.

فهل هذا هو هدف هذا الهجوم منذ البداية؟ هل هو إخماد قدرتنا على تخيل وطن مستقبلى؟ إن لم نحلم به، فسنتوقف عن العمل من أجله. وعند هذه النقطة، لا محالة، سيموت الوطن.

أعترف أننى، منذ بداية الحرب، لم أستطع كتابة كلمة واحدة من الخيال. ولأن الخيال هو الشىء الوحيد الذى كنتُ أرغب فى كتابته حقًا، فقد أثار هذا الأمر قلقى. لكننى شعرتُ بقمة الانغماس فى الذات أن أُكرّس وقتى وجهدى فى ابتكار سرديات وصقل كلمات فى مواجهة كل هذا الرعب، خاصةً عندما يكون هذا الرعب واقعًا على شعبى.

ولكن إذا كان هدف الرعب هو القضاء على الحلم الذى يُناقض أهم سردياتى الشخصية، أشعر أن من مسئوليتى أن أقاوم بطريقة ما، وبالطرق المتاحة لى، حتى لو أفسدت الأحداث الجارية هذا الحلم. أشعر، فى الواقع، بأن التملص من هذه المسئولية هو الانغماس فى الذات. نحن نتحدث عن أرض البرتقال الحزين، فى نهاية المطاف، وخبز الأم، والأشواك البرية، وغيرها الكثير من التراث الخيالى الغنى. بعد خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال العنيف، ليست هذه أول صدمة لنا، فلماذا تكون هى التى تُسكتنا؟

A Year on the Abyss of Genocide .. محمود الشاعر: الحرب فرّقت ابنى «مجد» عن توأمه «ناى»

فى الأول من سبتمبر الجارى، صدر كتاب «A Year on the Abyss of Genocide» أو «عام على هاوية الإبادة الجماعية»، عن دار نشر «أربيتر رينج» الكندية، التى تعد من أوائل دور النشر العالمية الموقّعة على اتفاقية «ناشرون من أجل فلسطين».

الكتاب من تأليف الفلسطينى محمود الشاعر، الذى يدعو من خلاله إلى البقاء فى غزة والتمسك بالأرض، مع التركيز على حالات نفسية عميقة تتأرجح بين اليأس والخدر والأمل، مع تحديثات دورية تتابع نزوحه وعودته، بعد عام قضاه فى غزة.

ويستشكف الكاتب التأملات الذاتية لشاعر فلسطينى انغمس فى البيئة الفنية داخل غزة، بما فى ذلك إدارته لـ«معرض ٢٨» فى رفح قبل تدميره بواسطة الاحتلال الإسرائيلى، إضافة إلى إصداره «مجلة ٢٨»، وذلك قبل أن يتغير عالمه جذريًا عندما هُجِّرت عائلته الشابة من المنزل الذى أمضى سنوات فى بنائه.

تُقدم سيرة محمود الشاعر رؤى لمستقبل غزة وفلسطين، من خلال سرد تجربته اليومية مع الإبادة الجماعية، إلى جانب الدعوة إلى الطرق المؤثرة التى يُمكن من خلالها للتضامن أن يُحدث أثرًا فى هذه القضية بالغة التأثير.

وفى الكتاب الجديد، يعبر المؤلف عن شوقه إلى منزله ومعرضه ومساحاته الثقافية، ويروى قصص نزوحه المستمر، ومخاوفه العميقة على أطفاله، ومحاولاته المتكررة الفاشلة لجمع شمله مع أسرته، إذ يعيش فى غزة مع زوجته وابنته، منفصلًا عن ابنه ووالدته اللذين سافرا إلى الخارج، علاوة على فقده لوالده، الذى قُتل على أيدى المستوطنين الإسرائيليين.

ويكتب «الشاعر» عن توأميه البالغين من العمر ٣ سنوات، ابنةٌ تستطيع أن تُمسك بيدى والديها، لكنها ستكبر فى ظل القصف، وابنٌ بعيدٌ عن الدمار، منفصلٌ عن عائلته، لتلقى العلاج فى دولة بعيدة، مؤكدًا أن كل ما يريده هو حياة طبيعية، وسماء صافية من الطائرات الحربية والمُسيّرات المدمرة!

يرى الكاتب أن كلمات: مثل «المستقبل» و«الوطن» و«النور» و«المدرسة»، لم تعد تحمل المعنى نفسه الذى كانت تحمله سابقًا، إذ يُقتَل الأصدقاء والجيران مع كل ساعة تمر. ومع ذلك، يكتب عن رغبته فى البقاء على قيد الحياة، وتعكس كلماته واقعًا لا نهاية له فى الأفق. وكما لا يهدأ رعب أيامه، لا يهدأ أمله أيضًا!

وفيما يلى نترك قارئ «حرف» مع مقتطف من الكتاب: 

مرّ أحد عشر يومًا على بدء الحرب، متجاوزين أسوأ الكوابيس التى يمكن تخيلها. لو أردتُ وصف أسوأ الكوابيس، لقلتُ إنه البحث عن الأمان. بنيتُ منزلًا، بحثتُ عن الطمأنينة فلم أجدها، تزوجتُ، وأنجبتُ توأمين «بنت وولد»، وأواصل بحثى عن الأمان فلم أجده.

انطلقتُ فى رحلة للبحث عن الطمأنينة من خلال بناء منارات الأمل والحياة فى هذا المكان المحاصر والمهدد. شكّل الأدب والفنون دافعًا لمواجهة الظروف. لقد كان الأدب والفنون دافعًا لمواجهة ظروف هذا المكان المحاصر. انظروا إلى «مجلة ٢٨» و«معرض ٢٨».

على سبيل الطمأنينة، كل ما أطلبه هو رقعة خضراء على جانب الطريق حيث أستطيع التمدد، والتحديق فى السماء دون خوف من ضربة قد تنهى حياتى وحياة أحبائى. اسمى «محمود»، زوجتى «هديل»، وطفلانا «ناى» و«مجد». نحن عالمٌ بأكمله، لدينا قصصٌ نشاركها عن حياتنا. لا نطلب الدعم لهذه الحملة فحسب، بل نطلب منكم الضغط قدر الإمكان لوقف هذه الحرب، التى تهدد ما تبقى من حياتنا».

يقول فى مقتطف ثانٍ:

مرّت ٤ أسابيع الآن، منذ أن فررت من منزلى، هاربًا من منطقة قتال خطرة، ولا أشعر أننى غادرت المنزل كمكان مادى، بل تركت جزءًا منى عندما هربت، باحثًا عن الأمان لنفسى ولمن تبقى من عائلتى: زوجتى «هديل» وابنتى «ناى».

٤ أسابيع الآن خارج المنزل، أيام طويلة خارج سياق الحياة. أصبحت أعرف الوقت والطريق الذى أحتاجه للحصول على مياه الشرب، وأعرف الطريق إلى الأماكن التى يمكننى فيها الاتصال بالإنترنت للاطمئنان على «مجد»، والتواصل مع الآخرين.

لا أعرف الاتجاهات، إنه فقط الماء غربًا، البحر الأبيض المتوسط، الذى تحده السفن الحربية.

لا أعرف الاتجاهات، جئت من الشرق إلى أبعد نقطة فى الأرض غربًا. يمنعنى الجيش الإسرائيلى من الذهاب، جنوبًا وشرقًا وشمالًا.

لا أعرف الاتجاهات، الدبابات تطلق قذائفها فى كل مكان. المنطقة الآمنة هى نفسها منطقة القتال الخطرة قبل قليل، أو بعد قليل.

لا أعرف الاتجاهات، يتصاعد اللون الرمادى من الأرض، يغطى امتداد الجنوب، امتداد الشرق، امتداد الشمال.

لا أعرف الاتجاهات، دماء الضحايا تتطاير بالقرب منى، وأنا عاجز، بلا مأوى، بلا ملجأ.

لا أعرف الاتجاهات، الحرب تتغذى على كرامتى، الحرب تستنزف مواردى، الحرب تستحوذ على المستقبل، الحرب تقتل الحاضر وتؤجل مشاعرى.

لا أعرف الاتجاهات، لا أشعر بشىء، لا ألاحظ كيف أتكلم بكلمات لا أشعر بمعناها.

أرجوكم أن تنعموا بالسلام، ولا تفقدوا الأمل فى قدرتكم على إيقاف هذه الحرب. صوتكم مهم، وأحثكم على رفع الصوت ونشر ما يحدث هنا مرارًا وتكرارًا.

لا أقول هذا جحودًا، ولا أجهل ما أملك من نعم أو ما لدىّ من إمكانيات، لكننى متعب. هل يجوز لى أن أعترف بذلك؟

لا أقول إننى جاحدٌ، لأن «مجد» نجا بمغادرة غزة مع والدتى، ولا إننى مستعدٌّ لقبول فراق أمه وأخته وأنا مقابل بقائه. لا أقول إننى جاحدٌ، ولا أكره الوضع، لكننى أتألم، ألمٌ لعدم قدرتى على مساندتهم ودعمهم فى كل ما يحتاجون، ألمٌ لعدم قدرتى على حمل «مجد» بين ذراعى، والسير معه فى ممرات المستشفى، والنظر من النوافذ إلى حياة لا تزال تنتظرنا.

عندما كان نظامنا الصحى لا يزال قائمًا «حتى تحت الحصار»، أمضى «مجد» ٥ أيام فى مستشفى يخضع لتنظير داخلى وربط دوالى المرىء، فى ذلك الوقت، لم يكن قد نسى وجودى ودعمى له فى رحلة رعايته وشفائه.

كلما فكرت فى تربية «ناى» و«مجد»، التوأمين المولودين فى ١١ أكتوبر ٢٠٢١، أتذكر طفولتى وأنا أعيش بلا أب. ما المشاعر والتفاصيل واللحظات التى يمكننى أن أمنحها لـ«ناى» ولا يمكننى منحها لـ«مجد»؟! كل ما لا يمكننى منحه لابنى «مجد»، افتقدته أنا نفسى وأنا أعيش بلا أب.

كل كلمة تتعلمها «ناى» منى ولا يتعلمها «مجد» هى خسارة. كل لفتة، كل رقصة، كل ابتسامة، كل رغبة فى اللعب، كل لحظة أسير فيها فى الخارج، أو أنظر من النوافذ والشرفات لأُلقى التحية على البحر والقمر والشمس والأشجار والخيام، كل تجربة أشاركها مع «ناى»، دون «مجد»، أشعر بخسارة كبيرة.

الوضع حرج. ساءت حالة «مجد» مجددًا هذا الصباح، إذ عانى من نزيف آخر من دوالى المرىء. تمت السيطرة على النزيف. لكنه سيبقى فى العناية المركزة لمدة أسبوع. فى هذه الأثناء، يجب أن تبدأ والدتى جلسات العلاج الكيميائى!

Razing Palestine.. ليلى مرشى: إسرائيل قصفت غزة بقنابل أكثر مما أُلقى فى الحرب العالمية

يصدر كتاب «Razing Palestine» أو «هدم فلسطين» فى نوفمبر المقبل، عن دار «بركة» للنشر، ومقرها كيبيك فى كندا، وهى متخصصة فى الكتب غير الروائية، خاصة السياسية والتاريخية، وذلك من تأليف الكاتبة والناشطة الفلسطينية الكندية ليلى مرشى، المقيمة فى مونتريال.

تشرح ليلى مرشى، فى كتابها الجديد، كيف يدمر الاحتلال الاسرائيلى مدنًا ومناطق بأكملها فى غزة، وتتحدث عن معاناة الشعب الفلسطينى طوال عامين، وهم يتعرضون إلى قصف غير مسبوق وفظيع من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلى، الذى أُلقى قنابل على غزة أكثر مما أُلقى فى الحرب العالمية الثانية، وقتل وجرح ويتّم أطفال، إلى جانب قتل صحفيين وعاملين فى مجال الرعاية الصحية، أكثر مما قُتل وجُرح فى أى صراع آخر.

ويجمع كتاب «هدم فلسطين» شهادات وقصص مجموعة واسعة من الأفراد فى مختلف المجالات، ممن عانوا ثمن وعواقب الدفاع عن فلسطين، ويمنح صوتًا لأولئك الذين واصلوا دق ناقوس الخطر، ووجهوا الانتباه إلى ما يحدث فى غزة من جرائم وحشية يرتكبها الكيان الإسرائيلى بحق الفلسطينيين.

وفيما يلى مقتطفات ما ورد فى الكتاب المكوَن من ٢٤٠ صفحة:

لمدة عامين، شاهد العالم فى رعب ٢ مليون شخص على مساحة ١٤٠ ميلًا مربعًا من الأرض، وهم يتعرضون لقصف غير مسبوق وفظيع من قبل الجيش الإسرائيلى، الذى ألقى قنابل على غزة أكثر ما أُلقى فى الحرب العالمية الثانية؛ وقتل وجرح ويتّم أطفال، وقُتل صحفيون وعاملون فى مجال الرعاية الصحية أكثر مما حدث فى أى صراع آخر على الإطلاق، إلى جانب تدمير مدن ومناطق بأكملها.

ليس هذا فحسب، بل عُوقب من تحدث عن المذبحة والإبادة الجماعية باللوم والعقوبات والتشهير وما هو أسوأ من ذلك. فى جميع أنحاء كندا، كُمِّمَ الصحفيون، وقُمع الأكاديميون، وفُصِل الأطباء، واعتُقل النشطاء، ومُنع الفنانون. شُطبت كلمات مثل «الإبادة الجماعية» و«وقف إطلاق النار» من المفردات، وأدى انتقاد الصراع إلى اتهامات بـ«معاداة السامية».

وتُواصل إسرائيل عملياتها العسكرية الوحشية فى مدينة غزة، حتى بعد إعلان دول عديدة اعترافها بدولة فلسطينية مُدمرة الأحياء، ومن بينها المملكة المتحدة وكندا وأستراليا، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع توقعات بأن تعترف عدة دول أخرى بدولة فلسطين، خلال الأيام القليلة المقبلة. فى المقابل، هدد الاحتلال الإسرائيلى بضم الضفة الغربية المحتلة، ووضع خططًا لذلك، إذا اعترفت الدول بفلسطين فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة رمزية إلى حد كبير، تُمثل لحظة تاريخية، خاصة فيما يتعلق بإعلان بريطانيا، إذ يُمكن القول إن المملكة المتحدة مهدت الطريق لقيام دولة إسرائيل عندما كانت تسيطر على فلسطين، فهى صاحبة «وعد بلفور» عام ١٩١٧، الذى أيّد إنشاء دولة يهودية. ويأتى اعتراف بريطانيا بدولة فلسطينية، بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، التى أعرب خلالها عن رفضه لهذا الاعتراف.