الجمعة 05 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أين ذهب من قال عنهم جمال الغيطانى فى 1994: «20 كاتبًا.. هديتنا إلى مصر»؟

المصطفون أبناء نجيب محفوظ الشرعيون.. حرف تبحث عن الفائزين بأولى مسابقات «أخبار الأدب» للقصة القصيرة (1)

حرف

- 20 اسمًا ز يّنت القائمة الأولى للمسابقة، بعضهم صار حضوره لافتًا فى المشهد الأدبى، وآخرون تلاشت خطواتهم حتى بدا وكأنهم لم يمرّوا أبدًا.

- لم تكن مسابقة «أخبار الأدب» مناسبة يتقدّم فيها موهوبون بل أقرب إلى طقس اكتشاف

- نجلاء علام نسجت مسيرة تخللها أكثر من 35 إصدارًا بين قصص قصيرة وأدب أطفال ودراسات

- أثارت أمينة زيدان، لحظة فوزها بالجائزة الأولى فى مسابقة «أخبار الأدب» بقصتها «حدث سرًا»، دويًا غير مسبوق، حيث تصدرت صورتها وغلاف القصة صفحات الجريدة.

فى صيف عام 1994 تحولت صفحات جريدة «أخبار الأدب» إلى ساحة ثقافية صاخبة، حين أعلنت عن إطلاق أوسع مسابقة للقصة القصيرة شهدتها مصر آنذاك. لم يكن الحدث مجرد إعلان عن مسابقة أدبية، بل لحظة اختبار جماعى لذاكرة السرد فى مصر الحديثة، إذ جلس على رأس لجنة التحكيم «أديب نوبل» نجيب محفوظ، حارس هذا التراث وحامله إلى العالمية.

تدفقت النصوص بأعداد مذهلة على المسابقة، وصلت إلى 4 آلاف و200 قصة قصيرة، صُفّيت على مراحل مضنية حتى استقرت القائمة على 320 عملًا، ومنها اختيرت نخبة صغيرة بعد جهد وصفته الجريدة حينها بأنه شاق ومرهق.

وفى 18 أغسطس 1994، أُعلنت نتائج المسابقة وقيمة الجوائز، التى بلغت 16 ألف جنيه قُسمت بين المراتب المختلفة، أكبرها 6 آلاف للجائزة الأولى، وأصغرها 500 جنيه لـ6 أسماء.

وبعد أيام، فى العدد 59 من «أخبار الأدب»، الصادر فى 28 أغسطس، ظهرت الصورة التى ستصبح جزءًا من ذاكرة الحياة الثقافية المصرية فيما بعد: نجيب محفوظ بجوار وزير الثقافة آنذاك، فاروق حسنى، وإلى جانبهما جمال الغيطانى وسمير سرحان وإميل حبيبى.

العنوان كان شاعريًا بقدر ما هو احتفالى: «20 كاتبًا.. هديتنا إلى مصر»، وكان من بين الفائزين بالمرتبة الأولى أمينة زيدان بقصتها «حدث سرًا» وأشرف الخمايسى بقصته «عجلات العربة الكارو الأربع». 

وفى المرتبة الثانية، برز على محمود البرعى بقصته «ودَعَت لأخى الغائب»، وأحمد أبوخنيجر بقصة «غواية الشر الجميل». وفى الثالثة علاء البربرى بقصة «حب قديم»، ونجلاء علام بقصة «سفر الأمكنة». بينما المركز الرابع جاء مناصفة بين أحمد عبدالحميد وقصته «منتهيات وحدوية»، وعاطف عدلى عبدالرحمن بقصة «انفلاق البربرع».

أما الأسماء التى حصدت الجوائز الباقية، فهى: عصام راسم فهمى بقصة «خبر من كتاب التكوين»، ومحمد محمود أحمد على بقصة «الطيور»، وكريم يوسف شحاتة بقصة «عودة الدفء»، ورجب محمد عبدالجليل بقصة «شىء ما»، وعزة أحمد أنور بقصة «أشباح».

ومنها، أيضًا، أحمد غريب بقصة «العنوان متروك للقارئ»، وهويدا صالح بقصة «الركض على حافة الدائرة»، وإيمان العمرى بقصة «المقعد الخالى»، وعمار على حسن بقصة «طقوس السفر»، وشرف الدين عبدالحميد «سطو أزرق»، وياسر محمد عبدالفضيل بقصة «طيور أسطورية عجوزة» وأخيرًا محمد أحمد بركة بقصة «أبوبخيت».

لكن الزمن، كعادته، أعاد توزيع الأدوار، فبينما تحوّل بعض هؤلاء الفائزين إلى نجوم لامعين فى عالم الكتابة، اختفى آخرون عن المشهد، بصمت أو بإرادتهم، فما الذى حدث بعد إعلان نتائج هذه المسابقة؟ وما الذى جرى لهؤلاء الكُتّاب؟ ولماذا تألق بعضهم بينما خفت وهج البعض الآخر؟

هذا ما تحاول «حرف» تتبعه ورصده فى التحقيق التالى.

فاروق حسنى

نجيب والغيطانى وفاروق حسنى: هذا مولد عباقرة جدد

فى حفل تسليم جوائز المسابقة، حيث بدا المشهد كأنه إعلان غير رسمى عن ولادة جيل جديد من الكُتّاب، وقف نجيب محفوظ على منصة التكريم، قائلًا: «أهنئ الفائزين والفائزات، وأهنئ (أخبار الأدب) لحركتها الرائدة، التى أرجو أن تكون قد كشفت عن جيل جديد من الأدباء، ونرجو أن يتكرر ذلك مع الشعر ومع الرواية، وأن نحتفل كل عام بمواهب جديدة».

بعده، صعد جمال الغيطانى، وقال: «اسمحوا لى أن أتحدث ببساطة، لأن لحظة انفعال حقيقية تتملكنى الآن، حيث تقدم (أخبار الأدب)، أول جريدة أسبوعية ثقافية فى العالم العربى بعد توقف (الرسالة) و(الثقافة) عام ١٩٥٣ التى بنت مجد الثقافة العربية، تقدم (أخبار الأدب) إلى هذا الوطن المعطاء الجميل ٢٠ موهبة من أعمق وأخصب المواهب التى تنتمى إلى كل أقاليم مصر».

وأضاف «الغيطانى»: «أعتقد أن الرعاية والعناية التى قدمتها (أخبار اليوم) إلى هذه المواهب سواء بالنشر أو المتابعة والتنقيب عنها، أو كما نسميها تقليب التربة، قد أثمر فعلًا، وها هى النتيجة أمامكم».

وواصل: «هذه المواهب تنتمى إلى هذا الوطن الذى يلد باستمرار، وللأسف الظروف لم تكن تساعد على تنمية هذه المواهب. الآن أمكن، بعد أول مسابقة قدمتها (أخبار الأدب)، أن نقدم ٢٠ موهبة فى عالم القصة. لقد كان إنتاجهم مفاجأة حقيقية ليس للقراء وحدهم، ولكن لنا نحن الأدباء، فإلى جانب هؤلاء هناك عشرات المواهب الأخرى التى ستقدم المزيد».

أما وزير الثقافة آنذاك، فاروق حسنى، فتحدث بلغة أكثر رسمية، لكنها لم تخلُ من دفء، قائلًا: «يطيب لى بهذه المناسبة أن أهنئ هؤلاء الواعدين الذين كنا ننتظرهم طويلًا. شكرًا لهذه الصحيفة الجديدة القديمة المؤثرة (أخبار الأدب)، فإنها بهذه المسابقة بادرت إلى انتخاب هذه البراعم من بين أبناء مصر المبدعين، ودائمًا أقول إننا نعيش باستمرار فى انتظار الرموز الجديدة الواعدة التى تثرى الوطن على طول الزمن».

جمال الغيطانى

جمال الغيطانى يفتح للفائزين أبواب الحياة.. ولكن!

فى عموده الأسبوعى «إطلالة على الساحة»، وفيما بدا كأنه نبوءة، تساءل الكاتب الصحفى مصطفى عبدالله عن مدى استمرارية هؤلاء الفائزين، وهل يتوقف أحدهم عن الكتابة بعد جائزة بهذا الحجم، وهو حافز كبير جدًا حين يتسلم الجائزة من نجيب محفوظ، ووزير الثقافة فاروق حسنى، وجمال الغيطانى، متسائلًا: «الاستمرارية واجبة، فهل سيتم هذا، أم أن أحد هؤلاء الفائزين سوف يكون مجرد الأديب الذى فاز يومًا بجائزة (أخبار الأدب) فقط، بعد أن يتوقف عن الكتابة؟!».

ولم تكن مسابقة «أخبار الأدب» مجرّد مسابقة بالمعنى الشائع للكلمة. لم تكن مناسبة يتقدّم فيها موهوبون لينالوا جائزة، بل أقرب إلى طقس اكتشاف، إلى وعدٍ بالرعاية. فحين فاز أشرف الخمايسى بالمركز الأول عن قصته «عجلات الكارو الأربع»، لم يخرج فقط بدرع أو شهادة، بل بفرصة عمل حقيقية، وجاء ذلك عبر مكالمة مباشرة من جمال الغيطانى إلى وزير الثقافة، فاروق حسنى، الذى لم يكتفِ بإيماءة بأنه سيرى الأمر، بل أوفى، فتم تعيين «الخمايسى» فى هيئة تحرير مجلة «الثقافة الجديدة».

«الغيطانى»، الذى كان يقف خلف تلك التفاصيل، لم يتعامل مع الفائزين كمجرد أسماء عابرة فى سجل مسابقة، بل كأصوات أدبية تستحق أن تُفتح أمامها أبواب الحياة. كان يتواصل بنفسه مع المسئولين، يتحدث مباشرة مع رئيس قصور الثقافة ليؤمّن عملًا لـ«محمود البرعى»، ويبحث عن فرصة لـ«أحمد أبوخنيجر» وعصام راسم. لكن الظروف كانت متباينة؛ فـ«أبوخنيجر» كان يدرّس الرياضيات فى قطاع المعاهد الأزهرية، فيما كان «راسم» يعمل فى مصنع «كيما» بأسوان.

ولم يتوقف «الغيطانى» عند حدود الوظائف، فحين زاره عصام راسم فى مكتبه فيما بعد، متحدثًا عن رواية جديدة، لم يتردد، كتب له قصاصة ورق صغيرة وقال: «أعطها لرئيس تحرير كتاب (الهلال) لينشرها». أما «أبوخنيجر» فقد وجد نفسه مدعوًا للسفر مع «الغيطانى» إلى فرنسا، للمشاركة فى فعاليات معرض الكتاب هناك.

كانت تلك اللفتات الصغيرة، والمبادرات التى بدت عابرة، هى ما حوّل المسابقة إلى ما يشبه أكاديمية لاستقطاب المواهب الفذة، ولم تكن الجوائز مجرد لحظة تكريم، بل نقطة انطلاق، وخيط يربط بين الموهبة والفرصة، وبين الكاتب الشاب وحلمه فى أن يصبح اسمًا حاضرًا فى المشهد الأدبى، وبقوة.

لكن الآن، وبعد حوالى ٣٢ عامًا على إعلان نتائج المسابقة، تعود صورة «المانشيت» الذى صدّر لقاء الفائزين بنجيب محفوظ «عشرون كاتبًا هديتنا إلى مصر»، حيث كانت تلك العبارة وعدًا جماعيًا، وبشارة بميلاد جيل كامل، يتسلم جائزته من يد أرفع شخصية أدبية عربية، الرجل الذى بدا حضوره حافزًا نهائيًا للكتابة والاستمرار.

اليوم يُطرح سؤال ثقيل: أين ذهب هؤلاء؟ كيف اختفى بعضهم إلى حد أننا لم نعد نسمع لهم أثرًا، لا كتبًا جديدة ولا حتى ذكرًا لجوائزهم الأولى؟ ما الذى يمكن أن يجعل شابًا يتلقى تكريمًا من نجيب محفوظ نفسه، يتوقف فجأة عن الكتابة، كأن تلك اللحظة الاستثنائية لم تحدث؟

هنا يبدأ اللغز، وتبدأ معه رحلة البحث، رحلة فى حياة أولئك الذين صعدوا على خشبة التكريم لحظة قصيرة ثم تراجعوا إلى الظل. 

20 اسمًا زيّنت القائمة الأولى للمسابقة، بعضهم صار حضوره لافتًا فى المشهد الأدبى، وآخرون تلاشت خطواتهم حتى بدا وكأنهم لم يمرّوا أبدًا.

«المشاهير السبعة».. من اعتراف «صاحب الثلاثية» إلى النجومية

أحمد أبوخنيجر، مثلًا، برز كأحد الأسماء الأكثر ثباتًا. تنقّل بين إصدارات متعددة، حصد جوائز مرموقة من «التشجيعية» إلى «التفوق» و«ساويرس»، وكان حضوره علامة على أن المسابقة لم تكن مجرد وعد عابر، بل بوابة لمسار طويل.

أصدر «أبوخنيجر» عددًا كبيرًا من الأعمال الأدبية والبحثية، منها مجموعته الأولى «حديث خاص عن الجدة»، التى نشرت فى قصور الثقافة، ثم مجموعتيه «غواية الشر الجميل» و«جر الرباب».

أحمد أبو خنيجر

أصدر بعدها رواياته «خور الجمال» و«مساحة للموت» و«نجع السلعوة» و«العمة أخت الرجال» و«تلك النظرة» و«فتنة الصحراء». وآخر أعماله كان رواية «شق الريح»، الصادرة عن دار «غايا» للنشر والتوزيع، إلى جانب أعمال أخرى بحثية ومسرحية وقصصية كثيرة.

أما أشرف الخمايسى فترك بصمته عبر روايتين وصلتا مرتين إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر»، هما «منافى الرب» و«انحراف حاد». لكن مسيرته لم تخلُ من «التراجيديات»، فبعد أن أصدر مجموعته «الجبريلية»، وروايته الأولى «الصنم»، شكّل مقتل محمد الدرة عام ٢٠٠٠ صدمة عميقة فى حياته، إذ كان من المفترض أن يتجمع أدباء الأقصر للتنديد بالحادثة، لكنه وجد نفسه يندد وحيدًا. 

فى تلك اللحظة اعتزل الأدب وأصبح سلفيًا، فأحرق كل ما كتب واعتكف فى منزله لمدة تجاوزت ١٢ عامًا، يبيع الحلوى ويمارس حياة أخرى، قبل أن يعود فى ٢٠١٣ برواية «منافى الرب»، المنشورة عن دار «الحضارة»، ليعود تدريجيًا إلى القاهرة وإلى المشهد الأدبى من جديد، ويصدر العديد من الأعمال الأدبية منها «انحراف حاد» و«جو العظيم» و«أهواك» و«كى أكون إنسانًا أجمل» و«ضارب الطبل» و«صوفى أهارون».

ويحضر عمار على حسن فى المشهد الثقافى بقوة، بأكثر من ٥٠ إصدارًا تنوّعت بين الرواية والقصة والفكر والمسرح وأدب الرحلة وغيرها. ومن رواياته: «خبيئة العارف» و«بيت السنارى» و«جبل الطير» و«صاحب السر». ومن مجموعاته القصصية: «حكايات الحب الأول» و«التى هى أحزن» و«أخت روحى» و«تلال الرماد». ومن كتبه الفكرية: «فرسان العشق الإلهى» و«أصناف أهل الفكر» و«بصيرة حاضرة.. طه حسين من ست زوايا»، وغيرها.

وبالنسبة لـ«عصام راسم فهمى»، فقد نسج عوالم روائية متتابعة عبر روايات «الحكروب» و«هدنة مؤقتة» و«رقص إفريقى» و«ضجيج الذاكرة» و«الحروب السرية للعائلة» و«ذاهبًا مع الجموع الغفيرة»، وغيرها من الأعمال التى تؤكد أن صوته لم ينكسر

وهناك محمد بركة، أصغر الفائزين، الذى ظهر فى سلسلة من الأعمال الروائية منها: «كوميديا الانسجام» و«الفضيحة الإيطالية» و«عشيقة جدى» و«أشباح بروكسل» و«حانة الست»، والتى حملت مزيجًا من الخفة والسخرية والخيال، وأشارت إلى كاتب جيد يمتلك أدواته.

محمد بركة

أما هويدا صالح فحجزت مكانًا خاصًا لها، كناقدة وكاتبة معًا، من «سكر نبات» و«الحجرة ١٣» و«بيوت تسكنها الأرواح» إلى دراساتها حول النقد النسوى والهامش الاجتماعى فى الرواية، لتبنى مشروعًا يزاوج بين الإبداع والتنظير.

هويدا صالح

ولدينا كذلك نجلاء علام، التى نسجت مسيرة مختلفة، تخللها أكثر من ٣٥ إصدارًا، بين قصص قصيرة وأدب أطفال ودراسات، وظل اسمها يتردد فى لجان تحكيم وجوائز، وصولًا إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فى أدب الطفل. كما لعبت أدوارًا مؤسسية أيضًا، من لجنة معرض الكتاب فى يوبيله الذهبى إلى لجان التفرغ، لتصبح واحدة من الوجوه الفاعلة فى الثقافة المصرية.