كبار يكتبون عن كبار..
إبراهيم عيسى يكتب: عادل حمودة.. كبيرنا الذى علمنا السحر
هذا أول الدرس وأولى الحصص، تلك التى تضع بصماتها على روحك وفى صمام عقلك، لم يلقنه لنا عادل حمودة هذا الدرس أبدًا، لكننا تلقيناه منه كل لحظة، أن هذه المهنة لها مهمة، صاحبة مشروع ورسالة، ليست فنًا للفن ولا صحافة وظيفة ولا موظفين، ولا هى كتابة لملء الوقت أو إفراغ الشحن.
ونحن نتابعه كطلبة فى رواق أزهر نجلس حول عامود شيخنا نتابعه ونتبعه، نرقبه ونراقبه، نشاكسه ونشاغبه، نقلده ونتقلده، يفكر فى تخليق فكرة فى إخصاب لقطة فى زاوية موضوع يحفزنا ويستفزنا يحرضنا ويحضنا، تلمع عيونه ساعة لحظة سطوع الفكرة، يفصصها يفككها كأنه جراح يعلم طلبته تشريح ضفدعة وفتح قلب مريض وتخييط جرح وإبراء الأكمه والأبرص لم يكن مسيحًا ولا أظنه يحب أن يكون، لكننا كنا حواريين، وأظنه أنه عرف أخيرًا من يهوذا الذى لا يتردد فى بيع يسوع صحافته وصحافة يسوعه!
ربما هى المرة الأخيرة منذ زمن بعيد عميق أن يكون لأستاذ صحافة كل هؤلاء التلاميذ الذين كبروا ونضجوا أمام عينه، وتنوع تلاميذه يؤكد عمق تأثيره كأستاذ، واتساع دائرة طلابه يثبت مدى فضاء حضوره كمعلم، وتفوق تلاميذه تأكيد أكيد مؤكد على مقام أستاذيته.

وأنت قد تشرد عن معلمك وقد تبعد عنه وقد تباعده أيضًا وقد تختلف معه وتخالفه كذلك وتعتقد فى نفسك عافية وحماقة فتح فصل ينافسه، لكنه يبقى أستاذك الذى ألقى فى جيناتك الصحفية حمضك النووى الـ دى إن إيه، قد يهجر بعضنا والده، وقد يهجو بعضنا تربيته، لكنه مدين له بالحياة كلها.
وقد عشنا أجمل أيام عمرنا فى كنف هذا الأستاذ عادل حمودة، سنوات فى رفقته وفى كنف حضانته وأحضان ورشة خياله، كنا فى جواره وجنبه ليل نهار، عشنا فى جنة مهنتنا متكئين فيها على أرائك ومقاعد مكاتبنا، أكلنا وشربنا وأحببنا وكرهنا ورحنا وجينا وبكينا وفرحنا واتهبلنا واستهبلنا واختلفنا وتغاضبنا وضربنا وانضربنا وعشنا انتصارات الروعة وخيبات الهزائم كلها معًا تحت يديه وفى كنفه.
عاملنا عادل حمودة كمن يعلمنا الحياة وليس الصحافة فقط، يحب السفر فسافرنا من خلاله من حكاياته، فهو حكاء ينقل الخبرة باللفظة والإيماءة والابتسامة، جلس معنا على المقاهى يمنح الصعلكة مظلة الأستاذ وكان يصحبنا للعشاءات والسحور صحبة وشلة وعائلة ورحلة مدرسية فيها مدرسنا صاحبنا ومشرفنا صديقنا وأبونا أخونا!
لم يروضنا أبدًا بل دفعنا للتمرد، كان يعاملنا رأسًا برأس وليست كل الرءوس سواء لا نظر لنا من فوق ولا نظرنا له من تحت، بل كان يحرص على الندية، كان يفر من أن نعامله كأستاذ خشية أن يكون ذلك دليلًا على أنه يكبر فى السن ونحن شباب عنه، فكان يغلبنا بشباب أفكاره ويقظة مشاعره وفضوله لكل التجارب الجديدة ورغبته التى لم تهدأ أبدًا أن يحب كل يوم امرأة جديدة كى يعرفنا حجمنا وأننا فى الحب مسنون وهو شباب عنا. كان يعلمنا الحياة وليست الصحافة، فهم منه من فهم أن الحياة ليست «صح- خطأ» بل «حلو- وحش»، كان ولا يزال يقدم لنا كتالوج حياة وليس قاموسًا فى الصحافة واختصر لنا الزمن وضاعف لنا المنهج.

صاحبة الجلالة هى تقريبًا المرأة الوحيدة التى كان عادل حمودة وفيًا لها، مخلص هو للحرية.
هذه مهنة ومهمة عادل حمودة أن يضرب بقوة كعاصفة كخماسين فى الثوابت والمحرمات للإفاقة للاستفاقة كى نرسم وطنًا ما عدنا نراه على الخريطة مما يحيطه ويحيق به من عتمة ليل طويل لا ينجلى.
عادل حمودة إخلاصه للحرية هو الذى منعه من أن يكون حتى وقت قريب واحدًا من سادات قريش فى صحافة الجاهلية حتى لو طاوع عقله أحيانًا وشاور نفسه حينًا، تغلبه نوازعه، يغالبه عشقه ينتظر نزق الفنان على وقار الشيخ كل المناصب فى بلاط صحافة الحكم عرضت له أو عرضت عليه وأعرضت لأنها، أو بالأحرى، لأنهم عرفوا طبعه الغلاب والغالب وأدركوا أنه أصيل لا يبيع صهيله؛ ولهذا يكبر عادل حمودة فى عيون زملائه وتلاميذه لأنه لم يخن يومًا درسه الأول منذ ألقاه على تلاميذه فى حصتهم الأولى.

ممتنون نحن لدرسه ومحبون نحن لمدرسته وشاكرون نحن فضله ونتمنى أن نكون دومًا عند حسن ظنه يوقع لنا شهادة النجاح فنذهب فرحين بها لأمهاتنا بركة دعاها.
أستاذى العزيز شكرًا







