الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

صائد الفراشات.. الروائى الرومانى ميرتشا كارتاريسكو: الإنجيل أعظم رواية فى التاريخ

ميرتشا كارتاريسكو
ميرتشا كارتاريسكو

- حتى سن الـ30 كنت أظن أن الإنجيل مجرد مجموعة من الخطب

- ترددت فى قراءة الكتاب المقدس لأول مرة وما إن بدأت لم أستطع التوقف

فى فضاءات الأدب، حيث تمتزج الأحلام بالذاكرة والواقع بالسريالية، هناك كُتَّاب قليلون يستطيعون أن يحوّلوا المدن والذاكرة والخيال إلى شخصيات حية فى نصوصهم، فيصبح القارئ شاهدًا على مشهد يتنقل بين الواقع والفانتازيا، السريالية والتاريخ، والطفولة والتجربة الإنسانية. 

وسط هذا المشهد الأدبى، يبرز ميرتشا كارتاريسكو، الروائى والشاعر الرومانى، كأحد أبرز الأصوات فى أوروبا الشرقية، من خلال أعماله كافة، خاصة ثلاثية «العمى»، التى يصور فيها بوخارست كمدينة نابضة بالحياة، وتعالج عوالم الحلم والواقع والفانتازيا النفسية بأسلوب سريالى ساحر، ما جعلها محط إعجاب النقاد والقراء على حد سواء.

نال «كارتاريسكو» العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، منها جائزة «دبلن» الأدبية. وعلى مدى السنوات الماضية، اعتُبر أحد المرشحين المتوقعين لجائزة «نوبل» للآداب، ما يعكس مكانته الأدبية العالية، وإسهاماته الكبيرة فى إثراء الأدب العالمى المعاصر. كما ترشحت روايته «الملف اللولبى»، لجائزة «البوكر» العالمية.

وأجرت صحيفة «ذا جارديان» حوارًا مطولًا مع ميرتشا كارتاريسكو مؤخرًا، ناقش خلاله مسيرته الأدبية، وأفكاره حول الأدب والفن والثقافة العالمية، وهو ما تترجمه «حرف» فى السطور التالية.

زيارة إلى الفراشات

عام ٢٠١٤، وأثناء جولته فى الولايات المتحدة للترويج لأعماله الأدبية، تحقق للكاتب ميرتشا كارتاريسكو حلم طالما راوده منذ الطفولة، وهو زيارة مجموعة الفراشات الخاصة بالكاتب الروسى الأمريكى فلاديمير نابوكوف، الذى لم يكن كاتبًا وناقدًا فحسب، بل كان أيضًا عالم حشرات متخصص فى علم الفراشات «Lepidopterist».

«كارتاريسكو»، الشاعر والروائى الرومانى المعروف بإبداعه الفريد، يشارك «نابوكوف» ليس فقط شغفًا أدبيًا يربط بين الفضاءين الثقافيين الشرقى والغربى، بل أيضًا اهتمامًا استثنائيًا بعالم الفراشات، شغفًا بدأه منذ صباه حين كان يحلم بأن يصبح عالِم فراشات يدرس الطبيعة ويكشف أسرارها.

خلال زيارة «كارتاريسكو» جامعة «هارفارد»، أُتيح له دخول مكتب «نابوكوف» القديم، حيث وقف أمام العيّنات العلمية التى جمعها الكاتب الروسى الأمريكى بعناية، وشاهد القوارير الصغيرة التى تحتوى على الأعضاء التناسلية للفراشات، التى كانت محور أهم أبحاثه العلمية.

يروى «كارتاريسكو» بدهشة واضحة: «كان الأمر أشبه بصورة مأخوذة من قصيدة أو قصة. لقد كان رائعًا بحق». هذه اللحظة التى تجمع بين الدهشة العلمية والخيال الأدبى، تعكس بدقة الروح التى تسكن أعماله، حيث يمتزج الواقع بالرمز، والفن بالعلم.

ويبدو هذا الانبهار المنفرد بالخيال والمنطق طبيعيًا حين نعرف أن ثلاثية «العمى»، التى اختارها النقاد لتكون «رواية العقد» فى رومانيا، عام ٢٠١٠، مُصممة على شكل فراشة: الجزءان الأول والثالث يمثلان جناحيها، والجزء الأوسط يمثل جسمها.

يأتى الجزء الأول، المُعنّون بـ«الجناح الأيسر»، فى نسخة جديدة تصدرها دار «بنجوين»، بعد ما يقارب ٣٠ عامًا على ظهوره الأول بالرومانية. وفى هذا العمل، تغمر الفراشات صفحات الرواية بإلحاح شعرى يكاد ينساب فى كل سطر.

ولا تحضر الفراشات بوصفها كائنات رقيقة فحسب، بل كعلامات مكثّفة للحياة، تتنقّل بالقارئ بين الحلم والواقع، وتفتح ممرات سرّية بين العوالم «الميتافيزيقية»، والمدينة الرومانية التى ترتسم على الصفحات ككائن مستقل له نبضه الخاص وجماله المراوغ، وظلاله التى تتبدّل بعمق يشبه انفتاح أفق جديد فى كل لحظة.

زيارة «كارتاريسكو» مجموعة «نابوكوف» من الفراشات لم تكن مجرد لقاء علمى أو رحلة ترفيهية، بل كانت تجسيدًا حيًا للشغف الذى يميز هذا الكاتب الفذ، وللعلاقة العميقة بين الأدب والفن، بين الخيال والعلم.

هذه العلاقة نراها متجلية فى نصوصه، حيث تصبح الفراشات أكثر من مجرد حشرات، لتصبح رموزًا للحياة، للذاكرة، وللخيال الذى لا يعرف حدودًا.

ثلاثية العمى

فى ثلاثية «العمى» يمزج الكاتب الرومانى بين المذكرات والخيال الحالم. فى مشهد سريالى خالص يكتشف عدد من القرويين فى العصور الوسطى سربًا من الفراشات العملاقة المتجمدة تحت جليد نهر «الدانوب»، تمامًا كما يُعثَر على «الماموث الصوفى».

كانت الفراشات هائلة الحجم، يبلغ طول الواحدة منها ٢٠ قدمًا وعرضها ٤٠. وقف القرويون مبهورين أمام جمال هذه المخلوقات الغريبة، قبل أن يشرعوا فى تقطيع الجليد من حولها وغليها كما يفعلون مع جراد البحر، استعدادًا لوليمة فاخرة لا تشبه أى شىء رأوه من قبل.

يقول «كارتاريسكو»، خلال مكالمة فيديو من بيته فى بوخارست: «كان نابوكوف فنانًا رائعًا، لكنه كان أقل ارتباطًا بالأدب الفانتازى والسريالية مما أنا عليه. صورة الفراشات العملاقة تحت جليد نهر الدانوب كان من الممكن أن تأتى من خيال سلفادور دالى أو جورجيو دى كيريكو، وهما فنانان شعرت دائمًا بالارتباط بخيالهما».

قيل إن ثلاثية «العمى» منحت مدينة بوخارست ما منحته رواية جيمس جويس «يوليسيس» لمدينة دبلن. إذ جعلت المدينة تتحول إلى شخصية كاملة الملامح، تتحرك وتتنفّس داخل الرواية. غير أنّها ليست شخصية عادية، بل أشبه بتلك الشخصيات المتوارية فى زاوية من لوحات «بريجل»، التى يكتشفها المرء فجأة وهى منغمسة فى فعل غريب لا يوصف، فتمنح المشهد كله معنى أكثر عمقًا ودهشة.

من شقته فى الطابق الخامس، المطلة على شارع «ستيفان سيل مارى»، يتخيل راوى «كارتاريسكو» تماثيل المدينة الخضراء البرونزية وهى تنزل من قواعدها لتتزاوج مع «الجورجونات الحجرية»، و«هى كائنات أسطورية من الميثولوجيا الإغريقية». وهذه الكتب ليست رسائل حب لمكان مولده. كما يقول الروائى الرومانى: «لقد انتقمت بالكلمات ممن سرقوا شبابى، فحوّلت جراحى إلى لغة لا تُغلَب».

جيل الجينز الأزرق

وُلد «كارتاريسكو» فى ١ يونيو ١٩٥٦، ونشأ فى دولة شيوعية ضمن نطاق النفوذ السوفيتى، حتى لو كانت رومانيا، بوصفها دولة تابعة، معروفة بعدم انصياعها التام.

والده، الذى يمثل محور الجزء الثالث من ثلاثية «العمى» بأسلوب «سويفتى» (نسبة إلى جوناثان سويفت)، لعب دورًا نشطًا- وإن كان ثانويًا- فى إدارة النظام الشيوعى، وكان مُحطمًا عندما سقط «الستار الحديدى» عام ١٩٨٩. 

بعد سماعه خبر فرار الرئيس نيكولاى تشاوشيسكو من البلاد بطائرة هليكوبتر مع زوجته، يتذكر «كارتاريسكو» والده قائلًا: «ذهب إلى المطبخ، ووضع كتاب (الحزب الأحمر) على النار. كان يبكى طوال الوقت لأنه كان يؤمن بالشيوعية، والآن رأى أن كل شىء كان كذبًا».

أما «كارتاريسكو» الشاب فكان يرى الأمور بشكل مختلف. فقد كان فى شبابه بالفعل شخصية محورية ضمن الحركة الثقافية المتأثرة بـ«البيتبنك» المعروفة بـ«جيل الجينز الأزرق»، الذين كانوا يستمعون إلى تسجيلات «البيتلز» المُهرَبة من الهند، ويحفظون عن ظهر قلب قصيدة «Howl» لـ«ألين جينسبيرج». يقول: «كان مصطلحًا ساخرًا: كلنا كنا نرتدى الجينز، ليس الأصلى من Wranglers، بل جينزًا بدائيًا مصنوعًا فى أحد مصانع النسيج فى رومانيا».

انهيار الاتحاد السوفيتى شعَر به وكأنه تحرر. يقول: «بعد الثورة أصبحت مواطنًا أنتمى إلى البشرية أجمع». وعلى الرغم من أنه يعيش الآن فى رومانيا مرة أخرى، إلا أنه حسب تقديره، قضى ثلث حياته بعد الحرب الباردة خارج البلاد، وكتب فقط الصفحات الأولى من ثلاثية «العمى» فى بوخارست. أما بقية العمل، الذى يبلغ ١٤٠٠ صفحة، فتم إنجازه على مدى ١٤ عامًا فى أمستردام وبرلين وبودابست وشتوتجارت.

يخبرنا بأن فراشته المفضلة هى «فراشة الملكة» أو «Monarch Butterfly» لأنها «تهاجر آلاف الكيلومترات كل عام».

لاأنتظر نوبل!

فى السنوات الأخيرة، بدأت كتب ميرتشا كارتاريسكو تحظى بالشهرة العالمية التى يطمح إليها الكاتب. وأدرجت روايته «الملف اللولبى» فى القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» الدولية هذا العام. وضمّت مجلة «دير شبيجل» الألمانية روايته «الجناح الأيسر» ضمن قائمة «أفضل ١٠٠ كتاب فى العالم» مع نشر ترجمة جديدة لها فى فرنسا هذا العام أيضًا.

ظل مُرشحًا جادًا لنيل جائزة «نوبل للآداب» على مدى العقد الماضى، وهو ما كان عاملًا فى استعادة مكانته. فى ٢٠٢٣ و٢٠٢٥ كانت احتمالات فوزه وفق المراهنات ١١/١، وهى نسبة واعدة مثل واحدة من أعظم معشوقيه الآخرين: توماس باينتشون.

لكن هل تعب من انتظار الاتصال من الأكاديمية السويدية؟

يجيب: «لم أنتظر أى اتصال أبدًا. أنا ممتن للأشخاص الذين يعتبروننى جديرًا بجائزة نوبل، فأن يُنظر إلىّ على أننى مستحق لجائزة نوبل، حتى لو كان مجرد شائعة، فهذا شرف مطلق».

قد يكون فوز لاسلّو كراسناهوركاى، من المجر المجاورة، بالجائزة العريقة لعام ٢٠٢٥، قد قلل بعض الشىء من فرصه، وفق قوله، موضحًا أنه «ربما لا يوجد لدى الأكاديمية مزيد من الشهية لتكريم شرق أوروبى آخر يميل إلى مواضيع نهاية العالم والسيرك المتجول!».

ومع ذلك، الأدب الصادر من المناطق الحدودية بين شرق وغرب أوروبا يزدهر. فالكاتبة البولندية أولجا توكارشوك والكاتب البلغارى جورجى جوسبودينوف لا يُعجب بهما النقاد فحسب، بل يقرأون أعمالهما بحماس شديد.

يقول «كارتاريسكو»: «أعتقد أنه يمكننا اليوم الحديث عن نوع من ازدهار الكتّاب الشرقيين، وأنا فخور جدًا بأن أكون جزءًا من هذا الازدهار. يمكنك مقارنته بما حدث فى الستينيات والسبعينيات مع كتاب أمريكا اللاتينية مثل جابرييل جارسيا ماركيز وفارجاس يوسا وبورخيس».

ما الذى يجعل الأدب الشرقى الأوروبى متجددًا؟ يجيب: «الكثيرون كُتَّاب غير تجاريين بالكامل. لم يفكروا أبدًا فى كسب المال أو الحصول على جوائز. كانوا أشخاصًا يحبون الأدب حقًا. إنهم مكرسون تمامًا لفنهم».

على الرغم من التقدير النقدى الكبير، لم يحظَ «كارتاريسكو» بالاحتضان الكامل من المؤسسة الأدبية الرسمية، ففى وقت سابق من هذا العام، تم رفض عضويته فى الأكاديمية الرومانية بطريقة مثيرة للجدل، بفارق صوت واحد فى الجمعية العامة للأكاديمية.

قال أحد كبار أعضاء الأكاديمية إن أعماله ببساطة لم تكن بالمستوى المطلوب: «فى دوستويفسكى هناك عشرات الشخصيات، وفى توماس مان هناك عشرات الشخصيات». هكذا صرّح نيكولاى بريبان لوسائل الإعلام الرومانية، مضيفًا: «أما فى أعمال ميرتشا كارتاريسكو فهناك ٣ شخصيات فقط: الأب والأم وميتشا».

يصرّ «كارتاريسكو» على أنه غير متأثر جدًا بهذا التجاهل: «كنت أشعر بالارتياح إلى حد ما لأننى لم أنجح فى النهاية. أعتقد أننى لست مناسبًا لذلك. لا يوجد فى داخلى أى جانب أكاديمى».

الإنجيل

توجد جوانب رومانية مميزة فى كتب «كارتاريسكو»، ومن ذلك تناول الدين. مثل باقى دول الكتلة الشرقية، كانت الأنشطة الدينية مقيدة فى رومانيا خلال الفترة الشيوعية.

يقول «كارتاريسكو»: «عندما كنت طفلًا، لم نذهب أبدًا إلى الكنيسة، ولم يكن لدينا إنجيل فى منزلنا. وحتى سن الـ٣٠ كنت أظن أن الإنجيل مجرد مجموعة من الخطب».

ومع أن بعض المناطق شرق «الستار الحديدى» أصبحت اليوم من أكثر المناطق العلمانية فى أوروبا، مثل ألمانيا الشرقية السابقة، والتشيك، وبعض دول البلطيق، عادت الكنيسة فى رومانيا لتزدهر بقوة. وفقًا لتعداد عام ٢٠٢١، يعرّف أكثر من ٧٣٪ من السكان أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس.

يقول «كارتاريسكو»: «عندما أهدانى شخص ما الإنجيل لأول مرة، كنت مترددًا فى الاطلاع عليه، ولكن عندما بدأت القراءة لم أستطع التوقف. لاحظت أنه ليس مجرد كتاب مقدس، بل أعظم رواية كُتبت على الإطلاق. كان ذهنى كله مشبّعًا بتعبيرية النص، وبشعرية الأنبياء الرائعة، وبالأمثال الاستثنائية ليسوع».

واحد من أبرز المشاهد فى رواية «الجناح الأيسر» هو معركة ملحمية على طريقة «أفنجرز» بين جيش من الملائكة بسيوف ذات حدين، وجحافل من «الكاكوديمونات» المقرّنة والمجنحة، حيث يتم إرجاع الوحوش فى النهاية إلى الظلام عبر ترانيم الملائكة.

يكتب «كارتاريسكو»: «الأديان جنون، ومع ذلك فهى الطريقة الوحيدة، لأنها السبيل الوحيد للخروج من عالم يمكن للعقل أن يتصوره».

قد تكون علاقته المتناقضة بوطنه أكثر ما يعكس روح رومانيا فيه. فرومانيا لديها أكبر جالية مغتربة فى الاتحاد الأوروبى، حيث يُسجل أن ٣.١ مليون رومانى يعيشون فى دول أوروبية أخرى فى ٢٠٢٤. 

ومع ذلك، فى إعادة التصويت الرئاسى المتوترة، فى مايو من هذا العام، صوتت غالبية واضحة من هؤلاء المغتربين لصالح مرشح قومى متشدد يتبنى خطابًا سياسيًا أشبه بالموجود فى أمريكا حاليًا: «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى».

يقول «كارتاريسكو»: «لفترة من الزمن، كانت الجالية المغتربة أكثر الناس ديمقراطية وتقدمًا، ولكن لمفاجأتنا الكبيرة، انقلبوا تمامًا ضد ذلك. بدأوا يحسدون الرومانيين المقيمين فى رومانيا عندما بدأوا يكسبون أموالًا أكثر منهم فى الخارج. بدأوا يكرهون بلدهم إلى درجة أنهم أرادوا تدميره».

مع ذلك، يُصرّ على أن الرومانيين كانوا دومًا أوروبيين وسيظلون كذلك، مضيفًا: «يوم عضويتنا فى الاتحاد الأوروبى ربما أهم يوم فى تاريخنا. وحتى لو كانت الحركات الفاشية أو المتطرفة قوية جدًا فى رومانيا الآن، نأمل أن تتضاءل مع الوقت».