الرومانية دوينا روشتى: أحلم برواية بالقرب من الأهرامات
- مصر أولى الدول التى أريد ز يارتها وهى لا تزال عالمًا يُقرأ منه التاريخ القديم
- ارتباط رومانيا فى الذاكرة العالمية بـ«دراكولا» شىء يسعدنى
- «الفلكلور» دائمًا من اهتماماتى الكبرى والأدب الخيالى يدهشنى ويمتعنى
- أعمل على أدب خيالى يقع على الحدود بين تفكيك الأسطورة مع أساس واقعى
لطالما ارتبطت دولة رومانيا فى الوعى العالمى بأنها بلد «دراكولا» والأساطير الغامضة. لكن الأدب الرومانى اليوم يتجاوز هذا الطابع ليكشف عمق التاريخ والثقافة والخيال الشعبى، ويرتبط بموضوعات تثير تساؤلات ذاتية حول الذات والمصير الشخصى والاندماج الاجتماعى.
ومن أهم الكُتَّاب الرومانيين المعاصرين الذين عبّروا عن عمق هذا التاريخ، وربطوا بينه وبين موضوعات الهوية، تأتى الكاتبة دوينا روشتى، التى تمزج فى كتاباتها الواقعية التاريخية بالعناصر السحرية والفلكلور الرومانى، ولديها العديد من الروايات فى هذا الإطار، مثل «الأطباق الخطرة» و«الشبح فى الطاحونة».
فى الحوار التالى مع «حرف»، تتحدث «روشتى» عن التراث الشعبى والأساطير فى خيالها الروائى، وكيف تبنى عالمها الأدبى الممتد بين الواقع و«الفانتازيا». كما تتناول الروابط التى تراها بين الأدبين الرومانى والعربى، واهتمامها بالمصريين والخيال العربى، فى محاولة لرسم جسر ثقافى بين هذه العوالم الأدبية.
■ ترتبط رومانيا فى الذاكرة العالمية بأسطورة «دراكولا»، رمز الرعب والخلود.. كيف تنظرين إلى هذا الإرث الأسطورى فى الوعى الغربى؟ هل ترين أن الأدب الرومانى أسير هذه الصورة؟
- لطالما شعرت بالسعادة لارتباطنا بـ«دراكولا»، فلو لم يكن الوضع كذلك لكان أسوأ بكثير من أن لا أحدًا يسمع بنا. فى الواقع، هذا الرمز أثار فضولى إلى درجة أننى كتبت رواية بعنوان «زوجرو ٢٠٠٦»، عن كيان يسافر عبر القرون. أعتقد أن «أدب مصاصى الدماء» لا يزال يحمل قصصًا يرويها.
ومع ذلك، يجب الإقرار بأن هذا الموضوع لا يحتل مكانة كبيرة فى الأدب الرومانى، كما فى أماكن أخرى، بل يهيمن ما يُعرف بـ«كتابة الهوية»، وهو شكل اعترافى يثير تساؤلات ذاتية حول الذات والمصير الشخصى والاندماج الاجتماعى. ولا أظن، فى ظل الفوضى العالمية اليوم، أن أى موضوع مرتبط بالروح الوطنية أو الهوية الوطنية ما زال يثير اهتمامًا كبيرًا.

■ هل يشكّل التراث الغرائبى فى رومانيا مصدر إلهام مباشرًا لخيالك الروائى، أم أنه خلفية ثقافية لا يمكن الانفصال عنها حين تكتبين عن الذاكرة والهوية؟
«الفلكلور» دائمًا من اهتماماتى الكبرى. يدهشنى الأدب الخيالى ويمتعنى فى آن، لذا، أعمل على تطوير نوع من الأدب الخيالى يقع على الحدود بين تفكيك الأسطورة والخيال غالبًا مع أساس واقعى.
لقد تعرّفت إلى الأساطير الرومانية والعالمية عبر القنوات الأكاديمية، تحت تأثير الأدب الأمريكى الجنوبى، وشهدت سنوات تكوينى مرحلة الحكم الشيوعى، خلال «الديكتاتورية» الكئيبة لـ«تشاوشيسكو»، الذى كان يحتقر الدين، ويُصنّف أى شىء غامض أو خيالى على أنه مظلم، لذا لا أستطيع التفاخر بتجربة «فلكلور» حى ومنقول شفهيًا. كطفلة كنت أكثر أُلفة مع «ألف ليلة وليلة» مقارنة بالأساطير أو المعتقدات الرومانية. واكتشفت كتب «الفلكلور» الرومانى بصعوبة كبيرة. كثير منها كان محفوظًا فى «المجموعة السرية» بالمكتبة الوطنية، حيث كان الوصول إليها محدودًا للغاية. لم تنفجر عملية إعادة تقييم الأسطورة إلا بعد سقوط الشيوعية، وشاركت فيها أيضًا.
مع ذلك، فإن كتاباتى تهتم بشكل رئيسى بالجانب الخيالى نفسه. فى روايتى «الأطباق الخطرة»، الصادرة عام ٢٠١٧، أحكى عن كتاب طبخ سحرى يستند العديد من وصفاته إلى أدلة أوروبية من العصور الوسطى، بما فى ذلك وصفة مُستوحَاة من ابن سينا. بينما تأتى بعض الوصفات الأخرى من مطبخ عائلتى. لكن، وراء ذلك، يكمن عالمى الخيالى الخاص والفردى.
■ ما أكثر الأساطير الشعبية التى تركت أثرًا فى خيالك الروائى؟ وهل تعتبرين أن العودة إلى الموروث الشفهى وسيلة لفهم الذات الرومانية فى حاضر مضطرب؟
- معظم رواياتى تدور أحداثها فى بوخارست. وأستقى أفكارى من الأساطير الحضرية. العديد منها مُسجَل فى الملاحم التاريخية أو الوثائق الخاصة. أنا قارئة شغوفة بالنصوص التى لا تحظى بأهمية تاريخية «رسمية».
مثلًا، هناك وثيقة من القرن الثامن عشر صادرة عن ديوان الأمير، وجدت تقرير شرطة لفت انتباهى، ذُكر فيه أنه تم اكتشاف مصاص دماء ميت، فى صباح أحد الأيام، وكان جسده ملقى بشارع معروف فى بوخارست. ولا يزال التقرير موجودًا حتى اليوم.
وصف التقرير الجثة مجهولة الهوية بالتفصيل: كثيفة الشعر، لها ذيل وأظافر طويلة ومظهر شيطانى، وكانت عارية بالكامل. وظل مصدر هذا الكائن الغريب مجهولًا.
بعد الاطلاع على وثائق أخرى من نفس الفترة، تشكلت لدىّ فكرة، وكتبت قصة قصيرة «قصص غريبة رومانسية من بوخارست الفانارى، ٢٠٢٢»، عن كاتب فى ديوان الأمير يقضى نهاره فى صياغة المراسيم الرسمية، وليله يتسلل إلى غرف النساء بحثًا عن مغامرات رومانسية. وفى إحدى الليالى، اكتشفه زوج إحدى النساء فقفز من النافذة وتوفى. بسبب مظهره العارى والشعر الكثيف، اعتبره الناس مصاص دماء.
فى قصص وروايات أخرى، خلقت بُعدًا فانتازيًا عن أحداث تاريخية معروفة. فمثلًا رواية «هوميريك ٢٠١٩»، تتطور الأحداث حول تل فى بوخارست يسمى «جورجانول»، ولا يزال موجودًا حتى اليوم. كُتب عنه الكثير، لكن لا أحد يعرف ما يكمن تحته بالفعل. تخيلت أنه مقبرة لسلالة بشرية منقرضة، قبيلة من العمالقة، وكان موقع دفنهم هو «الجورجانول».
كذلك فُتنت بالأساطير الشعبية. ومن بين هذه الأساطير، واحدة جُمعت فى القرن الـ١٩، استحوذت على تفكيرى، وكانت تحكى عن شيطانين شابين يتنافسان على امرأة، ويموت أحدهما ليصبح حبيبات صغيرة.
يندهش «سيد الجحيم»، فهذه أول وفاة لشياطين بشرية، ويتأثر للغاية حتى أنه يأمر بجمع بقايا الشيطان المتوفى ونثرها فى أنحاء العالم ليشارك الجميع حزنه. من هذه الحبيبات تنمو نباتات ذات أوراق كبيرة، ويبدأ البشر المنجذبون إليها بشكل لا يقاوم، فى تدخينها، ليصبحوا حزينين جدًا، إنها أسطورة عن التبغ، غنية بالتفاصيل وتعتبر بذرة مثالية لرواية.

■ فى كتابك الصادر من شهور «Ferenike»، تمزجين بين السيرة الذاتية والخيال لاستعادة حدث مهم فى طفولتك وهو اغتيال الأب. إلى أىّ مدى يمكن اعتبار الكتاب محاولة لكتابة الذات من داخل جرحٍ تاريخىّ؟
- رواية «Ferenike» تتناول موضوع الشيوعية، وظروف النساء فى تلك الحقبة. حاولت من خلالها التحدث عن نفسى، وعن الأحداث التاريخية التى كنت جزءًا منها بطريقة أو بأخرى، مثل حرب فيتنام، وقرارات «تشاوشيسكو»، وسقوط «الستار الحديدى». تكشف الرواية عن آلية للصراع لم تفقد وظائفها بعد. فالأحداث التى حدثت بالأمس تتكرر اليوم.
كنت مشغولة فى الوقت نفسه بالشكل السردى، وبالطريقة «الاصطناعية» التى بُنى بها العالم الشيوعى، بما فى ذلك الحظر المخطط، والرقابة الذاتية. حاولت فهم اكتشافاتى فى مجتمع لم تكن فيه معلومات، ولا مكان يمكن إيجادها فيه.

■ «ليزوانكا فى سن الحادية عشرة» من أكثر رواياتك إثارة للجدل، قدّمتِ فيها الطفولة كمرآة تعكس فساد العالم لا براءته. هل كنتِ ترين فى «ليزوانكا» ضحية مجتمع أم كاشفة له؟
- بدأت الرواية من فكرة أن «لا ضحية لها مُذنِب واحد فقط». الرواية الصادرة فى ٢٠٠٩، تحكى عن مجتمع تعرض كل أفراده للأذى فى وقت ما، لذا يكون الجميع على حق، فجميع الشخصيات تمثل أجزاءً منى.
بطريقة ما، تكمل «ليزوانكا فى سن الحادية عشرة» روايتى الرئيسية «الشبح فى الطحونة ٢٠٠٨»، من خلال نقل شعور الذنب الناتج عن العالم الشيوعى إلى المرحلة الانتقالية بعد سقوط الشيوعية.
على الرغم من أن الأحداث تتكشف خلال صيف واحد فقط، فإن «ليزوانكا» تُجسّد، من خلال قصة كل شخصية، وضعًا يمتد لـ٥٠ عامًا. وهكذا، يتحول التواطؤ الضمنى فى جرائم النظام الشيوعى إلى إساءة مستمرة، يشجعها المجتمع بعد سقوط النظام.
■ فى روايتك الأكثر شهرة «الأطباق الخطرة» يمتزج التاريخ بالسحر، والذاكرة بالطعام.. هل كانت الرواية استعارة للمعرفة المُحرّمة التى لا يستطيع البشر امتلاكها دون أن تُفسدهم؟
- هى رواية تنتمى إلى أدب «الفانتازيا التاريخية»، وترتبط بحدث له صلة ببلدكِ، وهو غزو نابليون لمصر. لقد تركت تلك المرحلة تداعيات حتى على المقاطعات الرومانية، بعدما قامت الإمبراطورية العثمانية باعتقال القناصل والسفراء الفرنسيين أحيانًا وبيعهم. ومن هناك نشأت صراعات جديدة. فى هذا السياق، تتكشف قصة نشوء شخصية ساحرة شابة تنتمى إلى جمعية سرية.
إذن، هى رواية تخلق وهم الأحداث التاريخية إلى حد ما. حتى بطلتها، كانت تعتقد أن معرفة عائلتها مجرد كلام فارغ، وأن السحر غير موجود. لكنها تكتشف فى النهاية أنه فى قلب الأحداث الحقيقية، وقعت سلسلة من الأفعال السحرية بالفعل. أردت من خلال هذا العمل التحدث عن الحدود الهشة بين الواقع الذى لا يمكن إنكاره والسحر.

■ ينتمى الأدب الرومانى والعربى إلى عالمين ثقافيين مختلفين، لكن كليهما يتغذى من الأسطورة والذاكرة والحكاية الشفوية. هل تشعرين أن هناك خيطًا خفيًا يربط بين الروح السردية لكلا العالمين؟
- أعتقد أن هناك أوجه تشابه أكثر من الاختلافات. فى الواقع، التقيت مؤخرًا أحد الباحثين، أخبرنى بأنه يخطط للكتابة عن الجانب الشرقى فى الأدب الرومانى، وذكرنى بين المؤلفين الذين يؤكدون هذا الجانب.
لقد ترك التأثير التاريخى للإمبراطورية العثمانية آثارًا عميقة فى أدبنا. فقرون من العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الأتراك، الذين كانوا يعيّنون حُكامنا، ويؤثرون فى وارداتنا المادية والثقافية، خلقت عقلية لا تزال قائمة حتى اليوم.
يجب أن نتذكر أيضًا أن الأتراك بنوا إمبراطوريتهم على أساس ثقافى يونانى، وهو ما يتناغم مع خلفيتنا الأوروبية والبلقانية. من هنا جاء القول المتكرر إن رومانيا هى «الأكثر شرقية بين البلدان اللاتينية»، و«تقع عند أبواب الشرق».
من هذا الأصل نشأ أدب الـ«isarlâcuri»، أو القصص المليئة بالأرواح الخفية، والنعال الطائرة، والتنانين التى تجلب المطر وتحرس الأحجار الكريمة. وأنشأ كُتّاب مثل إيون باربو وأورموز وماتايو كاراجياله ويوجين باربو، وغيرهم الكثير، أدبًا مشبعًا بالرمزية الشرقية والجو السحرى. وأنا أيضًا أنتمى إلى هذا الإرث الأدبى.

■ شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا فى رومانيا بالأدب العربى المُترجَم، وفى العالم العربى بالأدب الرومانى.. هل تعتقدين أن هذا التبادل يمكن أن يخلق نوعًا من الأدب العابر للبحار؟
- لطالما ساد فى رومانيا اهتمام كبير بالشرق. أول مثال يتبادر إلى ذهنى هو سادوفينو، الكاتب بين الحربين، الذى وضع الألغاز القديمة لأسلافنا فى مصر. فمصر تمثل عالمًا عالميًا، نقطة التقاء حيث تختلط الحضارات.
أما نقاط مرجعى الخاص فهى متنوعة. فبعيدًا عن العصور الفرعونية الساحرة، لدىّ اطلاع جيد على الفترة «الهلنستية»، بما فيها الصور الرمزية الصوفية والأساطير المحيطة بـ«هرمس الهرمسى».
ومع ذلك، يجب أن أعترف بأن معرفتى بالعالم المُعاصِر محدودة. ما زلت مرتبطة بالإسكندرية «الكوزموبوليتانية الباروكية» عند لورانس دوريل، وقد قرأت مؤخرًا أعمال أندريه أسيمان.
وبالطبع، أنا مقتنعة تمامًا بأن العالم مُهتم بالكُتَّاب المصريين. لا أعلم ما إذا كان هذا الاهتمام متبادلًا، أو إن كان أى من الكتاب الرومانيين قد تُرجم إلى العربية.
المفاجئ أنه فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى، خلال فترة الرقابة الصارمة، تُرجمت رواية آسيا جبار «القلقون» إلى الرومانية، وانغمست فيها تمامًا. كانت تلك أول مرة أقرأ فيها كاتبًا جزائريًا. تجربة الدخول إلى عالم مجهول تظل دائمًا لا تُنسى.

■ هل سبق أن زرتِ أى بلد عربى، أو كانت لديكِ فرصة للتفاعل المباشر مع القُراء العرب؟
- سؤال محير! بالتأكيد أحب أن تُترجم كتبى إلى العربية، لكن للأسف، الترجمات من الأدبيات الصغيرة نادرًا ما تكون من أولويات دور النشر. لا أعرف شيئًا عن دور النشر فى القاهرة. لكن هذا لا يمنعنى من أن أحلم بيوم أصدر فيه كتابًا بالقرب من الأهرامات، ويشاهده العديد من الناس ويجدون أنفسهم فيه.
بالتأكيد، مصر هى الأولى فى قائمتى. لا أعرف لماذا لم أزرها أبدًا. ربما لأن رحلاتى عادةً ما ترتبط بالدول التى تُرجمت كتبى بها، ودعيت إليها للمشاركة فى فعاليات. أنا لم أزر أى بلد عربى من قبل.
ذات مرة رغبت فى زيارة بغداد، لكن لم أتمكن من ذلك. فى بوخارست هناك العديد من العرب، خصوصًا من درسوا الطب هنا، خلال ثمانينيات القرن الماضى. بعضهم من قُرائى، لكن لا أظن أننى التقيت أى شخص من مصر بعد. بالنسبة لى، لا تزال مصر عالمًا تُقرأ منه صفحات التاريخ القديم.







