السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العميد يكشف المنهج الصحيح لكتابة السيرة.. طه حسين يتحدث: كل المجددين أولادى

افتتاحية العدد التاسع
افتتاحية العدد التاسع عشر من حرف

 يوسف ز يدان ورفاقه يريدون نفخ الروح فى أوصال التجديد المتيبسة وهى فكرة نبيلة لا بد أن نساندها

 خرج مؤسسو «تكوين» لوضع الثقافة والفكر العربى فى أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلًا وشمولية مع المجتمع العربى

 حين تعتقد أنك وصى على الناس فهذا أول طريق فشلك ولا بد أن تنجو بنفسك منه

 طه حسين: حاولت أن أحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة وكتب الأدب العربى القديم عامة والتماس المتاع الفنى فى صحفها الصاخبة

كنت على ثقة أن الدكتور طه حسين قابل الضجة التى دارت حوله بسخريته المعتادة.

لم يكن يصبر أبدًا- كمصرى أصيل- على ثقل الظل. 

تخيلته وهو يتابع الهجوم الذى لاقاه الدكتور يوسف زيدان بعد سؤاله العبثى لفراس السواح عن أيهما الأهم هو أم طه حسين؟ ورد فراس عليه بأنهما معًا أهم من طه حسين، بضحكة مجلجلة من ضحكاته التى كان يحلو له أن يشيع بها ما لا يعجبه أو يستفهمه، وكأنى سمعته يقول: حبيبى يا يوسف.. تستحق ما جرى لك. 

لم أحلم بالاستماع إلى العميد عن الضجة المفتعلة حوله فقط، ولكن ماذا يمكن أن يقول عن الفكرة التى يعمل عليها يوسف زيدان ورفاقه، فهم يريدون نفخ الروح فى أوصال التجديد المتيبسة، وهى فكرة نبيلة لا بد أن نساندها ونقف إلى جوارها بما لدينا من عقل وقلب وضمير. 

لست مع حالة التربص التى يتعامل بها المجتمع مع مؤسسى «تكوين». 

ولست مع النيل منهم والحط من شأنهم والانتقاص من قدرهم. 

أعتقد أن دعوتهم للتجديد لا تستحق كل هذا السخف الذى قوبلت به، فهى دعوة جادة يتصدى لها باحثون لهم شأنهم، بصرف النظر عن سيرتهم الأولى، والتى هى سيرة جدلية لهم فيها ما لهم وعليهم ما عليهم. 

ولكنى فى الوقت نفسه لا أستطيع أن أمنحهم تفويضًا مطلقًا أو شيكًا على بياض، خاصة أن بعضًا من إنتاجهم، والذى رأى النور عبر منصاتهم الإلكترونية، أثار من حولهم الغبار، فمن يتصدون للتجديد ويتحدثون فى علوم الدين الإسلامى المختلفة ليسوا على القدر الكافى من العلم والدراية لنجلس أمامهم ونستمع منهم، وهو ما يمكن تداركه بالطبع. 

كنت أعرف أنه لو قدر لطه حسين أن يتحدث لتعامل بجدية كعادته مع الفكرة، لن يفرغها من مضمونها، ولن ينتصر لنفسه، بل سيمد مؤسسى «تكوين» بأفكار تكون لهم عونًا لإتمام مهمتهم التى أعلنوا عنها. 

خرج مؤسسو «تكوين» لوضع الثقافة والفكر العربى فى أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلًا وشمولية مع المجتمع العربى، ومد جسور التعاون مع الثقافات المختلفة فى عالمنا المعاصر بهدف تمهيد السبيل نحو فكر عربى مستنير يقوم على قاعدة فكرية رصينة ومتزنة، تؤسس جسورًا من التواصل بين الثقافة والفكر الدينى، للوصول إلى صيغة جديدة فى النظر والتعامل مع الموروث الدينى باعتبار أن بعض تأويلاته القديمة أدى بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية، حيث شكلت تلك التأويلات كثيرًا من أشكال وأن ماط حياتنا المعاصرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ما أدى إلى ظهور واحتضان مجتمعاتنا أفكارًا متطرفة وتأويلات رجعية أساءت للدين الإسلامى الحنيف ولمجتمعاتنا على سواء، وسعت إلى تمزيق مجتمعاتنا على أسس طائفية ومذهبية متشددة. 

حتمًا بعد أن يستمع طه حسين إلى ما يريدون سيشكر لهم ما قرروا أن يخوضوا من أجله المعارك ويدخلوا بسببه فى صدامات، فما يقولونه رغم أنه ضرورى إلا أن هناك كثيرين سيرفضونه ويشوهونه وينقضون عليه، وحتمًا سيخفف عنهم ما سيلاقونه، فلم يكونوا أول من يتعرض لسخافات المعترضين، فقد سبقهم ودفع فاتورة اجتهاده من وقته وجهده وسمعته وراحته وصحته... بذل ذلك كله وهو راض تمامًا، لم يتململ ولم يتراجع. 

كنت أسير فى وسط البلد كعادتى التى انقطعت منذ سنوات، أتسكع فى شوارعها وأجلس على مقاهيها ربما بلا هدف إلا الجلسة فى الهواء الطلق، كنت أتخيل ما يمكن أن يقوله طه حسين، وفجأة وجدته أمامى وجهًا لوجه يجلس على مقهى بالقرب من ميدان طلعت حرب. 

لم أعرف عنه جلوسًا على المقاهى، لكن ولأن الزمن تغير، فقد يكون هو الآخر تغير، ثم إنه كان يكتب من أجل الناس، فما الذى يمكن أن يحول بينه وبين الجلوس بينهم. 

تشككت فى نظرى، وللوهلة الأولى اعتقدت أن شبيهًا له يجلس مرتديًا بدلة أنيقة ويتلفت يمينًا ويسارًا بين لحظة وأخرى، اقتربت منه بحذر، وقلت له: يخلق من الشبه أربعين، فابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول لى: اجلس.. كنت أنتظرك.. أنا هو.. عرفت أنك كنت تتمنى الحديث إلىّ فجئت إليك. 

شعر بدهشتى ترتسم على ملامحى، فلم يمنحنى فرصة للاستفسار. 

قال: لقد جئتك بقانون السر.. أعتقد أنك تعرفه جيدًا، أنت تمنيت أن تستمع منى، ثم سعيت وحاولت قراءة بعض ما كتبته علك تجد دليلًا لما تبحث عنه، وبقيت الخطوة الثالثة فى القانون، وهو أن تتلقى ما تريده، وها أنا جالس أمامك، هات ما عندك ولا تضيع وقتك ووقتى. 

قلت له: لقد تخيلت رد فعلك على حالة الهزل التى جرت بعد سؤال يوسف زيدان لفراس السواح وهل هو أهم منك... ودعنى أقول لك ما حدث. 

قطع حديثى: ولماذا تقول لى ما حدث؟.. أنا أعرف جيدًا ما جرى.. هل تعتقد أننا فى عالم الروح نعيش فى عزلة عنكم، أنتم أمامنا طوال الوقت نتفرج عليكم وكأننا جالسون نشاهد فيلمًا على «نتفليكس». 

هززت رأسى متعجبًا: «نتفليكس»؟ 

ضحك وكأنه رأى أثر الصدمة علىّ: ألم أقل لك إننا نعرف كل شىء ونرى كل شىء ونسمع كل شىء.. لقد تحررنا من أسر الجسد.. ونعيش بحرية الروح المطلقة التى لا يعجزها شىء، لكننى أعتقد أنك ما تمنيت أن تقابلنى من أجل ذلك. 

صدقت على كلامه: صحيح.. لقد اعتبرت ما حدث مجرد مزاح سمج ما كان ينبغى أن يحدث، فالسؤال عن من هو أهم فى مقارنة معك ظلم لأى أحد مهما كان شأنه. 

قال: هون عليك.. يوسف لم يخطئ.. أنت تعرفه يحب المزاح.. ويبدو أن أخانا فراس السواح فوجئ بما قاله صديقك يوسف، فبادله مزاحًا بمزاح.. هما فى النهاية فى حكم أحفادى، وللأحفاد أن يتدللوا على جدهم.. صدقنى لم أغضب منهما.. لقد كانا يتحركان فى براحى.. ثم إننى لا أضيق بشىء.. أى شىء. 

نادى على عامل المقهى: يا بنى.. لماذا لا تسأل ضيوفك عما يريدون؟ 

ثم التفت بوجهه إلىّ وهو يضحك: هل ستشرب شيشة.. أم ستتأدب فى حضرتى؟ 

قلت له: أنا لن أفعل شيئًا إلا الاستماع إليك.. ورغم أنه من الصعب علىّ الجلوس على مقهى دون الشيشة.. لكن فى وجودك فلتذهب الشيشة إلى الجحيم. 

جاءه عامل المقهى يحمل قهوة سادة وضعها أمام العميد، ولما قلت له: لكن الدكتور طه لم يطلب شيئًا، فرد علىّ: الدكتور أكيد سيشرب قهوة وسادة كمان.. دى دماغ متكلفة. 

أمسك الدكتور طه بيد العامل بعد أن تحسس طريقه إليها، وقال له: أنت عبقرى يا بنى.. يمكن أن يقولوا عنك إنك «فهلوى».. لكن أنت أوجزت، اذهب إلى عملك فأنت صاحب الدماغ المتكلفة الحقيقى. 

رفع الدكتور فنجان القهوة إلى فمه، وبعد أن وضعه أمامه، قال لى: إيه يا مولانا.. هات ما عندك. 

قلت له: عندما أراد مؤسسو «تكوين» تدشين مؤسستهم لم يجدوا غيرك ليقفوا خلفه، احتفلوا بمرور خمسين عامًا على وفاتك، قالوا للجميع إنك رايتهم وقدوتهم وعلى طريقك يسيرون، وكانوا على حق فى ذلك.. لكن أحيانًا أشعر بأنهم لا يلتزمون بمنهجك؟ 

استوقفنى: ومن قال لك إننى أريدهم أن يلتزموا بمنهجى.. من حقهم أن يبدعوا، فقد تغير كل شىء، ولا بد أن يجددوا هم أيضًا، ولن أحزن أبدًا إذا خرجوا علىّ، لكن هذا الخروج لا بد أن يكون له منهج أيضًا، كل ما آخذه عليهم أنهم يتحدثون إلى أنفسهم، لا بد أن يعرفوا أن حديثهم وعملهم هذا من أجل الناس، فليس معقولًا أن يتجاهلوا ما عليه الجمهور العام، الصدمة لن تفيد فى كل الأحوال. 

قلت له: ولكنك يا سيدى العميد فعلت ذلك.. كنت صادمًا فى كتابك «فى الشعر الجاهلى». 

قال: لن أنكر ذلك.. ولكنى تعلمت من التجربة.. وأيقنت أن الصدمة ليست منهجًا ناجحًا.. أنت تتحدث مع قومك فكن رفيقًا بهم.. قل لهم ما تريد دون أن تزعجهم أو ترهقهم. 

أنهى قهوته، ووجدته يقول لى: هل سنظل جالسين على هذا المقهى حتى الصباح، ما رأيك أن نتمشى قليلًا فى شوارع القاهرة الساحرة؟ 

رفض عامل المقهى أن يأخذ ثمن القهوة من العميد، وودعه وهو يتقافز حوله: إحنا زارنا النبى يا دكتور طه. 

أمسك بيدى وبدأنا فى السير مبتعدين عن المقهى، وجدته يستمهلنى: هل سمعت ما قاله عامل المقهى؟ قال: إحنا زارنا النبى، بعض المغفلين يمكن أن يعتبروا ما قاله إساءة أدب مع النبى صلى الله عليه وسلم، رغم أن ما قاله هو قمة الأدب مع النبى، فهو يضعه صلى الله عليه وسلم فى مكانة عالية، وحتى يجامل أحدًا فهو يرفعه إلى هذا المقام... هذا هو إيمان المصريين الحقيقى.. وأعتقد أن تجديد أصدقائنا فى «تكوين» للفكر الدينى إن لم يصل إليه، فكل ما سيقومون به لن يعول عليه. 

قلت للعميد: أتمنى أن يكون هذا فى وعيهم.. ما آخذه عليهم أنهم يتعاملون بشىء من التعالى على الناس، يتعاملون وكأنهم أصحاب الحق المطلق، ولا بد أن يسير الجميع خلفهم. 

ربت الدكتور طه على يدى، وقال: هل تعرف أن هذه هى مشكلة كل دعاة التنوير فى شرقنا السعيد؟ 

قلت له: زدنى يا دكتور. 

قال: من يتصدى للتجديد لا بد أن يتواضع للناس، يخفض جناحه لهم، إنهم بما يفعلون يواجهون من يدّعون ملكيتهم للحقيقة المطلقة، فلا يجب أن يكونوا هم أيضًا كذلك، ثم إنهم يقعون فى خطأ كبير، فكيف تنطلق من أرض تقديس حرية الرأى، وأنت تريد أن تحجر على حرية الآخرين حتى لو كانوا على خطأ.. دع الجميع يتحدثون وتحدث أنت أيضًا، ودع الناس يأخذون ما يصلح لهم. 

استوقفت العميد وقلت له: ولكنهم يقولون إن الناس لا يعرفون ما يصلح لهم، ولا بد من توجيههم وإرشادهم إلى الصواب. 

بدا على وجهه الاستياء، وقال: هذه الفكرة تحديدًا هى مقبرة التجديد، أن تعتقد أنك وصى على الناس، فهذا أول طريق فشلك، ولا بد أن تنجو بنفسك منه، ما الذى تختلف فيه إذن عمن يعتقدون أنهم يمسكون بمفاتيح الجنة بأيديهم.

قلت له: هم أيضًا يعتقدون أن الأمر كله مرهون بالعقل وحده.. فى الوقت الذى انتصر فيه المعارضون لهم بحديثهم مع العقول والقلوب والبطون أيضًا. 

ضحك العميد عندما سمع كلمة البطون، تخيلت أنه سيعترض على ما أقوله، لكنى فوجئت بأنه يؤيدنى تمامًا. 

قال: هل تعرف أن هذه هى القصة كلها... لقد نجح المحافظون لأنهم يهتمون بالبطون قبل العقول، يهتمون بحياة الناس وكيف يعيشون قبل أن يقودوهم إلى ما يريدون، أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك تجديد على معدة خاوية. 

*****

اعترضت حديث العميد، وكنا قد عبرنا ميدان التحرير واقتربنا من كوبرى قصر النيل، قلت له: ولكنهم يقولون إنك أيضًا فعلت ذلك.. كنت تعصف بالعقول، وها هم يفعلون مثلك يعصفون بها.

بهدوء شديد قال: ليس صحيحًا على الإطلاق.. هل تعرف ما الذى فعلته وأنا أكتب كتابى «على هامش السيرة»؟ 

لم أرد عليه، ففهم أننى أنصت إليه. 

قال: لقد وضعت هذا الكتاب على أنه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين، لأنى لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ، وإنما هى صورة عرضت لى أثناء قراءتى للسيرة فأثبتها مسرعًا، ورأيت أن فى نشرها خيرًا، فهى ترد على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلتت منهم، وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة فى الأدب العربى القديم، وقد بحثت عن هؤلاء الذين يقرأون ما كتب القدماء فى السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلم أظفر بهم. 

قلت له: لقد نظرت فى أحوال الناس وما يقرأون فقررت أن تنزل إليهم وإلى ما يقرأون. 

قال: هذا ما فعلته بالضبط.. لقد وجدت أن الناس يوم كتابتى هذا الكتاب فى العام ١٩٢٣ يقرأون ما يكتب لهم المعاصرون فى الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة فى الشرق، فيجدون فى قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة ومن اللذة والمتعة ما يغريهم ويرغبهم فيه، أما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر وتذوقه أشد عسرًا، وأين هذا القارئ الذى يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة والأخبار التى يلتوى بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهين الذى لا يكلف مشقة ولا عناء. 

سألته: وما الذى جعلك تفكر فى تجديد الأدب العربى.. ومنه السيرة النبوية، فالناس كانوا يقرأونها كما جاءت فى كتب الأقدمين؟ 

قال: لا بد أن تعرف أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتًا مستقرًا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا فى نصوصه التى يقرأونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون فى استظهارها، إنما الأدب الخصب هو الذى يلذك حين تقرؤه، لأنه يقدم إليك ما يرضى عقلك وشعورك، ولأنه يوحى إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبًا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة، وينطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر فى قلبك حتى يتصور فى صورة قلبك، أو يصور قلبك فى صورته، وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم فى شكل جديد يلائم حياتهم التى يحيونها، وعواطفهم التى تثور فى قلوبهم، وخواطرهم التى تضطرب فى عقولهم. 

سألته: ولماذا تنحاز إلى إعادة كتابة الأدب بهذه الطريقة؟ 

كان السؤال غريبًا فيما يبدو، لكنه أجابنى برحابة صدره. 

قال: أنحاز إليه لأن هذا هو الأدب الحى، القادر على البقاء ومناهضة الأيام، فأما ذلك الأدب الذى ينتهى أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهى العصر الذى نشأ فيه، ولو أنك نظرت فى آداب القدماء والمحدثين لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هى آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها، لا أنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحى إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين فى ألوان الفن على اختلافها. 

كنت أمد الخطى حتى نصل إلى كوبرى قصر النيل، لكنه كان يستمهلنى، متسائلًا: لماذا تتعجل.. هل مللت من كلامى؟ 

لم يعرف أننى لو بقيت معه حتى نهاية حياتى فلن أمل منه أبدًا، مشيت على مهل كما أراد، وسألته: ما الذى دفعك إلى طرق أبواب أدبنا العربى وفى القلب منه السيرة النبوية، ما الذى كنت تريده؟ 

قال: فى أدبنا العربى على قوته الخاصة، ما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحى، وقدرة على الإلهام، فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرة واحدة، ولم تحفظ فى صورة بعينها، وإنما قصها الرواة فى ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون فى صنوف من التأليف. 

استوقفته: يا سيدى العميد أنت تتحدث طوال الوقت عن الأدب العربى، وكلما وضعت أنا كلمة السيرة النبوية فى حديثى لا تعيرها اهتمامًا، هل تتعمد ذلك؟ 

قال: لا تكن متعجلًا.. أنا لا أتجاهل شيئًا مما تقوله، وقد أخذت الكلام من على لسانى، فما أقوله عن الأدب العربى يسير أيضًا على السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتّاب والشعراء فى أكثر العصور الإسلامية وفى أكثر البلاد الإسلامية أيضًا، فصوروها صورًا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفنى، وقل مثل هذا فى الغزوات والفتوح، وقل مثل هذا فى الفتن والمحن التى أصابت العرب فى العصور المختلفة، ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبى العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر، فى اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعة من القصاصين الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس فى صور مختلفة وأشكال متباينة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كرامًا ظافرين، ولا خير فى حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم روح البيان، شعرًا ونثرًا. 

قلت للعميد: أنت بذلك تضع من تكتب لهم فى حساباتك. 

لكزنى فى كتفى ونحن نعبر إلى بداية كوبرى قصر النيل، قال: والقدماء أيضًا يا بنى... أنا لا أستغلهم بل أعمل من أجلهم. 

قلت له: كيف؟ 

قال: لأنه لا خير فى حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم رائع البيان شعرًا ونثرًا، وليس القدماء خالدين حقًا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباءهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار، إنما يحيا القدماء حقًا، ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثًا للناس إذا لقى بعضهم بعضًا، وكنوزًا يستثمرها الكتاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام. 

قلت له: اسمح لى يا دكتور.. هناك من يطعن فى نواياك فى كتابة «على هامش السيرة»، يقولون إنك كنت بذلك تطهر يديك مما سبق وكتبت؟ 

نزع يده من يدى، ولأول مرة أشعر به غاضبًا. 

قال: دعك من هذا اللهو الفارغ.. فلا أحد يعلم بحالى إلا من ألهمنى الطريق، فأنا لا أريد أن أخدعك ولا أخدع من قرأوا «على هامش السيرة»، فإنى لم أفكر فيه تفكيرًا، ولا قدرته تقديرًا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه، كما يتعمد المؤلفون، إنما دفعت إلى ذلك دفعًا، وأكرهت عليه إكراهًا، ورأيتنى أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسى، ويفيض بها قلبى، وينطلق بها لسانى، فليس فيما كتبت تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التى لا أعدل بها كتبًا أخرى مهما تكن، والتى لا أمل قراءتها والأنس إليها، والتى لا ينقضى حبى لها وإعجابى بها، وحرصى على أن يقرأها للناس، ولكن الناس مع الأسف لا يقرأونها، لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. 

سألته: وماذا فعلت حتى يقبل الناس على قراءة ما كتبت؟ 

قال: حاولت أن أحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربى القديم عامة، والتماس المتاع الفنى فى صحفها الصاخبة، وكنت سعيدًا جدًا لأنى وفقت إلى أحب الأشياء إلىّ وآثرها عندى، وكنت أقول لنفسى إنه لو استطاع ما كتبت أن يلقى فى نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى ويلفتهم إلى أن فى سذاجتها ويسرها جمالًا ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال الذى يجدونه فى الحياة الحديثة المعقدة، فأنا بذلك سأكون سعيدًا لأننى وفقت إلى ما أريد. 

قلت للدكتور طه: هل كان هذا هو هدفك فقط.. أن تجعل الشباب يقرأون السيرة ليستمتعوا بما جاء فى كتبها القديمة؟ 

قال: ليس ذلك فقط بالطبع.. فقد أردت أن أدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا لا للإنتاج العلمى فى التاريخ والأدب الوصفى وحدهما، بل كذلك للإنتاج فى الأدب الإنشائى الخالص، وأردت أن ألقى فى نفوس الشباب أن القديم لا ينبغى أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغى أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإذا كان نافعًا مفيدًا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد. 

كنا قد وصلنا إلى منتصف كوبرى قصر النيل، فوقفنا متجاورين وقد أسندنا ظهرانينا إلى النيل، أردت أن أستوقف الدكتور طه عند ما يشغلنى والذى أعتقد أنه نقطة خروج المجددين الجدد عن منهجه. 

قلت له: اسمح لى يا دكتور... وأنت الداعى الأكبر إلى العقل، إلا أن فى كتابك «على هامش السيرة» الكثير من الوقائع التى يرفضها من يطالبون بالتجديد ويتصدون له الآن، من أمثال أصدقائنا فى «تكوين». 

قبل أن أكمل وجدته يقول لى: اسمح لى أنت.. الموضوع هنا مهم، عندما كنت أملى صفحات «على هامش السيرة» كنت أعلم أن قومًا سيضيقون بما كتبت، لأنهم يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويلحون فى الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار وجده فى طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون فى صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول، هؤلاء سيضيقون بما كتبت بعض الشىء، لأنهم سيقرأون فيه طائفة من الأخبار والأحاديث التى نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. 

قلت له: كنت تعلم أن هؤلاء سيضيقون بما تكتب، ومع ذلك كتبته.. ألم تخش أن ينصرفوا عنك؟ 

قال لى: أنا لا ألقى بالًا لهذا، ولكن أريد أن أقول لهم إن العقل ليس كل شىء، وإن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وإن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل ولم يرضها المنطق ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمى، فإن فى قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتسموا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش. 

ضحكت وأنا أمسك بيد الدكتور طه، قلت له: وهل فعلت ذلك فقط يا دكتور؟ 

فهم ما أقصده، فقال لى: ليس هذا كل ما فعلته بالطبع، فقد وسعت على نفسى فى القصص ومنحتها من الحرية فى رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبى، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنى لم أبح لنفسى فى ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية وعلماء الدين. 

قلت له: ما أريد أن أقوله يا دكتور... 

قاطعنى قائلًا: لا تقل لى ولا أقل لى.. لقد انتهى وقتك، أعتقد أنك سمعت منى ما تريد أن تسمعه. 

ابتسمت وأنا أشعر به يحاول الانصراف من أمامى، قلت له: سمعت بالطبع يا دكتور، لكن أتمنى أن يسمع من يتمسحون بك ما قلته وأن يستوعبوا منهجك. 

وقبل أن يختفى تمامًا من أمامى ليعود من حيث أتى قلت: هل إذا عرض عليك مؤسسو «تكوين» الانضمام إليهم تقبل؟ 

سمعته يقهقه وهو ينصرف تمامًا: أى دعوة يا بنى؟.. أنا بالفعل المؤسس الأول لـ«تكوين».. أنا أصل «تكوين».