من سمح لهذا الفتى بالصعود على المنبر؟.. تبديد الخطاب الدينى فى وزارة الأوقاف
- مواصفات وشروط من يصعدون إلى المنابر وعن تأهيلهم العلمى أسال وزير الأوقاف
- نحن أمام أئمة وخطباء ووعاظ لا يقومون بتجديد الخطاب الدينى بقدر ما يقومون بتبديده
أعرف تمامًا أن نوايا الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، صادقة، وأن ما يقوم به من أجل تجديد الخطاب الدينى عمل مخلص تمامًا لوجه الله ولوجه الوطن، وأن جهوده التى بذلها خلال السنوات الماضية مقدرة عندى وعند الآخرين،
لكن يحدث أحيانًا ما يجعلنى أتساءل.
هل أصبحنا أمام دعاة يدركون بشكل حقيقى أن التجديد أصبح أمرًا ضروريًا؟
أم أنهم يفعلون ما يقومون به لأن هذا ما تقتضيه مهام وظائفهم؟ أو لأنهم إن لم يستجيبوا فلن يجدوا لهم مكانًا فى مساجد وزارة الأوقاف؟
هل يخوض دعاة وزارة الأوقاف حربًا حقيقية من أجل الإسلام الصحيح الحقيقى الوسطى؟
أم أنهم مقاتلون بالوكالة فى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
وقبل أن تصف ما أقوله بعدم الإنصاف، فإننى سأضع بين أيديكم جزءًا من خطبة منبرية ألقاها منذ أيام أحد دعاة وزارة الأوقاف.
اسمه الشيخ أحمد عبدالله.
يقدم لنفسه على صفحته على الفيسبوك بأنه إمام وخطيب أزهرى وسطى.
لم يتصيد أحد للشيخ أحمد ما قاله، لم يجلس أحد أمامه فى مسجده ويسجل له، لكنه هو بنفسه من سجل خطبته، واقتطع منها ما نشره على صفحته على الفيسبوك.
كان الشيخ أحمد يتحدث عن مؤسسة « تكوين» وهذا أمر لن ألتفت إليه فى الحقيقة، فلا أنا مع المؤسسة ولا أنا ضدها، فهى تجربة سيكون لها ما لها وعليها ما عليها، لكننى توقفت أمام المنهج الذى استخدمه الشيخ أحمد مع المختلفين معه، مع ما قاله عنهم وفى حقهم.
سأنقل لكم أولًا نصًا ما قاله داعية الأوقاف بنفس إيقاعه وتقسيماته
«الموضوع المنتشر اليومين دول، موضوع (تكوين)، مش أنا اللى هرد عليهم، ربنا اللى هيرد عليهم حرف بحرف والله».
«فى صدر سورة البقرة (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر»، هم دول، يقولوا إحنا مؤمنين بالله وباليوم الآخر)`، وما هم بمؤمنين، أنتم كدابين، ده ربنا اللى بيقول لهم.
طيب يارب بيعملوا كده ليه؟
مالهم يعنى؟
«يخادعون الله والذين آمنوا» هم مفكرين إنهم بيخدعوا مين؟... ربنا.
مفكرين إنهم بيخدعوا مين؟... المسلمين.
مفكرين إنهم بيخدعوا مين؟... المؤمنين.
بس هم مغفلين، لأنهم بيخدعوا نفسهم، وبيضحكوا على نفسهم، وبيكدبوا على نفسهم، وبيشتغلوا نفسهم.
«يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون»، شوف بقى ربنا بيقول إيه بعد كده، «وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض»، أنتم كده بتفسدوا فى الأرض، أنتم كده عايزين فتنة، يقولوا إيه؟ إنما نحن مصلحون.
ده إحنا عايزين إصلاح، عايزين دين جديد، دين جديد مين يا أهبل، دين جديد وتقول مفيش سنة ومفيش سيرة للنبى، إزاى مفيش سيرة للنبى وإنت عندك سورة فى القرآن بتتكلم عن غزوة بدر اسمها سورة الأنفال، شيل من القرآن بقى سورة الأنفال، وشيل من القرآن سورة الأحزاب، وشيل منه سورة النجم اللى بتتكلم عن المعراج اللى أنتم بتنكروه.
واسمع بقى «وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون»، وإذا قيل لهم «آمنوا كما آمن الناس»، ارجعوا، فوقوا، قالوا «أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون».
شوف بقى اللى جاى، بيستهزأوا بدين ربنا إزاى، «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم»، إحنا معاكم، أمال بتقولوا كده ليه؟ يقولوا «إنما نحن مستهزءون»، إحنا بنستهزئ بدينهم، بنستخف بدينهم،
طيب ربنا يرد عليهم يقول لهم إيه، «الله يستهزئ بهم»، ده ربنا اللى بيستهزئ بهم، «ويمدهم فى طغيانهم يعمهون»، وختم وقال إيه «أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى»، اشتروا الكفر بالإسلام.
لن أخفيكم سرًا أننى أشفقت على الشيخ أحمد عبدالله، الذى لا يشغلنى الآن من أين هو، ولا فى أى مسجد كان يلقى خطبته المنبرية التى كان فيها متحمسًا حماس من يعتقد أنه يصد عن الإسلام أعداءه الأشداء، ولكنى أشفقت عليه لأننى منذ اللحظة الأولى التى استمعت إليه فيها أدركت أن من وضعه فى مكانه، وألقى على كتفه مسئولية إلقاء خطبة الجمعة فى مسجد حتى ولو كان صغيرًا، ظلمه ظلمًا بينًا، فهو ليس مؤهلًا لهذا الدور، لا شكلًا ولا موضوعًا.
وهو ما يجعلنى أقف مع وزير الأوقاف قليلًا، لأسأله عن مواصفات وشروط من يصعدون إلى المنابر، وعن تأهيلهم العلمى، وعن قدراتهم فى إقناع الناس بما يريدون، وعن مدى التزامهم بمنهج وزارة الأوقاف وهو منهج يقوم على نبذ العنف والتحريض على الآخرين وتكفيرهم.
يمكن أن يلتمس البعض للشيخ أحمد العذر فيما قاله.
ويمكن أن يراه البعض رجلًا شجاعًا يدافع عن حمى الإسلام.
ويمكن أن يشكر له كثيرون غيرته على دين الله.
تلك الغيرة التى جعلته لا يبقى ولا يذر وهو يهاجم خصومه الذين جاءوا لهدمه، وينكرون سنة الرسول وسيرته.
الأمر بالنسبة لى أكبر من هذا بكثير.
فما يجعلنى أصف الشيخ أحمد عبدالله بأنه ليس مؤهلًا، لأنه بالفعل يتحدث عن موضوع دون معلومات حقيقية، استسلم إلى ما يتم ترويجه عبر صفحات السوشيال ميديا، واعتبرها مرجعية، وراح يبنى عليها رأيه وهجومه.
وما يجعلنى أصفه بأنه خارج عن منهج وزارة الأوقاف ومنهج الأزهر الذى يتمسح فيه بأنه وسطى، أنه أصدر أحكامًا على من يقدمون أنفسهم كمفكرين بأنهم كفار خارجون على الإسلام، ولست أدرى هل دفعنا ثمنًا غاليًا من استقرارنا وأمننا لنجلى الجماعات الإرهابية عن مجالنا العام، ليعود إلينا من يسير على نهج هذه الجماعات التكفيرية من على منابر وزارة الأوقاف؟
الأمر محزن ما فى ذلك شك.
إننى لا أدافع هنا عن أحد، ولا أرد هجوم الشيخ أحمد عن أحد.
ولكننى أتوقف عند رد الفعل على ما يقوله، وتخيل أن شابًا يجلس أمامه وهو يتحدث عن أشخاص بعينهم ويقول إنهم يشنون حربًا على الإسلام، وإنهم كفار، فيقوم هذا الشاب ويقرر أن ينتقم لدين الله فيقتل أحد هؤلاء الذين تحدث عنهم الشيخ أحمد بالمناسبة بالاسم.
ما الذى يمكن أن يقوله الشيخ الشاب وقتها؟
وما الذى يمكن أن يقوله وزير الأوقاف؟
وما الذى يمكن أن تقوله الدولة المصرية كلها؟
قد يحتج الشيخ أحمد ومن يوافقون على منهجه فى الحديث، ويقول مثلًا إنه لا يقول شيئًا من عنده، وإن كل ما قاله هو كلام الله، فهو الذى يحكم على هؤلاء بأنهم غير مسلمين، وأنهم مجرد كفار يريدون تخريب دين الله والإفساد فى الأرض، وأنه لا يكفر أحدًا، لأن المنهج الأزهرى لا يقر التكفير.
وهنا سنبدأ الدوران فى نفس الدائرة من جديد، يكفر الخطباء والوعاظ الناس، ثم يقولون إنهم لا يكفرون أحدًا، وإنهم لم ينطقوا بكلمة التكفير أبدًا، رغم أن النتيجة واحدة، إغتيالات تحدث ودماء تسيل وأبرياء يروحون ضحايا دون ذنب إلا أنهم مارسوا حقهم الذى منحهم الله إياه فى التفكير.
يمكن أن يعتبر بعض ضيقى الأفق والصدر أننى أحرض هنا على الشيخ أحمد عبدالله؟ أو أننى أطالب وزير الأوقاف مثلًا بأن يحوله إلى التحقيق، وأن يأخذ منه ومعه موقفًا حادًا حتى لا يعود إلى ما قاله مرة أخرى.
والحقيقة أننى لا أكتب من أجل هذا أبدًا، فالشيخ أحمد فى النهاية شاب غلبان، ربما يعتقد الآن أنه خطيب مثالى وواعظ عصرى بدليل أنه يستخدم طريقة بسيطة لتصل رسالته إلى الناس، وأن هناك من أثنوا عليها وطالبوه بالمزيد، وهو ما سيجعله يصر على أنه يسير على الطريق الصحيح، وتلك مأساة أخرى لو تعلمون عظيمة.
إننى أكتب لأننى أرى أمامى كارثة كبيرة، وأرى جهدًا يتبدد فى الهواء.
لقد رفع وزير الأوقاف راية تجديد الخطاب الدينى من اليوم الأول له فى الوزارة، وأعتقد أنه قام بكل ما يقدر عليه، لم يدخر جهدًا، بل بذل كل ما يستطيعه، ولا يمكن أن ينتقص أحد من عمله أو مجهوده، لكن ما النتيجة فى النهاية؟
النتيجة أننا أمام أئمة وخطباء ووعاظ لا يقومون بتجديد الخطاب الدينى بقدر ما يقومون بتبديده، وهذه هى الكارثة العظمى، فكأنى بكل الجهد الذى بذل وهو كبير، والأموال التى أنفقت وهى كثيرة، بلا أثر واحد يمكن أن نستند إليه وعليه.
المنظومة كلها تحتاج إلى مراجعة، وأعتقد أن وزارة الأوقاف لن تكون قادرة على هذه المهمة وحدها، بل لا بد من تداخل مؤسسات الدولة المختلفة لمراجعة حال الخطباء والوعاظ فى المساجد.
لا بد أن نسأل: من هؤلاء؟ كيف تعلموا؟ وماذا يقرأون بالضبط؟ وكيف يخاطبون الناس؟ وما الذى يعرفونه بالفعل عن الإسلام؟
إننى بدأت أشك فى كل شىء، فطوال الأشهر الماضية وأنا أستمع إلى شكاوى من خطباء مساجد على مستويات مختلفة ومن مناطق مختلفة، بما يعنى أننا نهدر فرصة مهمة للوصول إلى الناس، فخطب الجمعة مصدر مهم من مصادر التأثير، وخطباء المساجد الذين يلتقون بالناس وجهًا لوجه يمكن أن يلعبوا دورًا مهمًا فى معركة الوعى التى تخوضها الدولة المصرية، وهى معركة مصيرية ووجودية ولا بديل عن خوضها حتى النهاية.
المؤسف فى الأمر أن من نعول عليهم فى معركة الوعى من خطباء المساجد، يحتاجون إلى من يرفع وعيهم، إلى من يضعهم على الطريق الصحيح، إلى من يرسم لهم ملامح الدعوة التى يحتاجها المجتمع، إلى من يرشدهم إلى حقيقة الإسلام والدور الذى يجب أن يلعبوه فى حياة الناس.
واقعة الشيخ أحمد عبدالله ليست مجرد واقعة نتعامل معها ببساطة ونعاقب صاحبها والسلام.
هذا ما سوف يحدث فى الغالب.
لكنى أعتقد أن الأمر أكبر بكثير، يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، فما المانع أن تخضع تجربة وزارة الأوقاف فى السنوات الأخيرة إلى تقييم شامل، لنعرف ما الذى أنجزته وما الذى أخفقت فيه فى ملف الدعوة والدعاة تحديدًا؟
لقد دخلنا فى كهوف الظلام بسبب دعاة الجماعات الإرهابية الذين كانوا يكفرون الناس، ويتهمونهم فى دينهم، وبذلنا جهدًا كبيرًا لمواجهة هؤلاء، فهل يعود التكفير إلينا مرة أخرى من بوابة دعاة الأوقاف؟ هل تحول الوعاظ الذين كنا نعقد عليهم أملًا فى ملف نقل جهود تجديد الخطاب الدينى إلى الناس، إلى عقبة كبرى فى طريق تمكين الدين الصحيح فى قلوب الناس وعقولهم؟
إننى أحتاج إلى إجابات واضحة على هذه الأسئلة.
فلست أكتب ما أكتبه الآن لأهاجم وزيرًا أو وزارة.
ولا أكتب لأمنع خطيبًا مسكينًا من الخطابة أو لأحرمه من العمل فى مسجده، فأنا بالفعل أشفق عليه.
ولا أكتب لوضع مسئولين بعينهم فى خانة اليك، فلدى المسئولين فى مصر من الحيل والألاعيب القانونية ما يجعلهم يخرجون من كل مأزق كما تخرج الشعرة من العجينة.
كل هذه الأشياء من صغائر الأمور.
أنا أكتب لإنقاذ الدعوة الإسلامية من حماقات من ينتمون إليها رسميًا، ويعتقدون أنهم يخدمونها، بينما هم يطعنونها فى كل يوم من ألف خلف.
أكتب لنصل إلى صيغة واضحة نحدد بها ونستطيع أن نحكم على ما يقدمه الدعاة على المنابر، وحتى لا نترك هذه المنابر نفسها ساحة مباحة ومستباحة لغير المؤهلين والجهلاء الذين هم أشد خطرًا علينا من المتطرفين.
تحتاج وزارة الأوقاف إلى ثورة على نفسها.
ويحتاج ملف الدعاة إلى إعادة هيكلة كاملة.
فالمهمة التى نريدها منهم لن ينفع فى إنجازها من يعملون لمجرد أن يأكلوا عيشًا ويؤدوا أدوارهم الوظيفية بانضباط جاف وفارغ.
هذا الوطن يحتاج إلى مقاتلين، إلى دعاة مثقفين، يدركون حقيقة ما يتعرض له من مخاطر، فيقفون فى خندقه وهم يحاربون بسلاحه، لا أن يتحولوا جميعًا إلى سيف مسلط على رقبته.