السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

قضية قديمة متجددة.. هل يحتاج المثقف إلى حزام عفة؟

افتتاحية العدد الثاني
افتتاحية العدد الثاني والعشرين

- المثقفون ألقوا باللوم على مَن تولوا شئون البلاد وبدأوا فى إعادة إنتاج الخطاب المعتاد عن استبعاد الكفاءات

- لقد أهال هيكل التراب على كل ما فعله الرئيس السادات لأنه اختلف معه وأخرجه من الأهرام وقاده إلى السجن

التعبير ليس لى.

قاله الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. 

يومها، تحديدًا فى ٧ ديسمبر ١٩٩٥، كان هيكل يلقى محاضرة فى باريس. 

وقف أحد الحاضرين يسأله عن أحوال المثقفين العرب، قائلًا له مباشرة: أستاذ هيكل أنت مش شايف إن لازم يكون للمثقفين العرب ميثاق شرف؟ 

ابتسم هيكل وهو يوجه كلامه للسائل: المثقفون العرب لا يحتاجون لميثاق شرف.. يحتاجون أكثر إلى حزام عفة. 

بعد أيام قليلة كان هيكل ضيفًا على هيئة الإذاعة البريطانية التى أجرت معه حوارًا شاملًا، وسألته محاورته عن حيثيات ما قاله، فرد بأنه قلق للغاية على المثقفين العرب، لأنهم واقعون تحت ظروف شديدة جدًا، ولا بد أن نتفهمها، فهم يواجهون تغييرات فى العالم للأسف لم يقوموا بدراستها، وقد قادهم زحام الأحداث إلى حيث لم يقصد معظمهم، لكن واقع الحال أن لدينا أزمة بين المثقفين. 

الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل

ويزيدنا هيكل إيضاحًا لما يقصده فيقول: رأيى أن حزام العفة هو دراسة موقف على أساس هذه الرؤية لأحوال العالم ومصر، ولذلك قلت ذات مرة إن بعضنا يؤلف إذا ترجم، ويترجم إذا أّلف، وعليه فلدينا أزمة فى الفكر، وأسوأ منها حالة شبه اليقين التى يحدثنا بها البعض مستندين إلى أساس واهن.. وهذا هو أكثر ما يقلقنى. 

توقفت أمام ما قاله الأستاذ هيكل منذ عقود، فوجدته لا يزال صالحًا لتوصيف الحال الذى وصل إليه كثير من مثقفينا، وتحديدًا فى الفترة التى أعقبت أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، والمؤسف أنهم لا يزالون على نفس ذات الحال حتى الآن، بل المؤسف أكثر أنهم بمرور الأيام يزدادون ارتباكًا ويتحركون بلا رؤية، ويتكلمون بلا بصر ولا بصيرة، ويكتبون دون وعى ولا دراية.. وكأنهم، أو هم بالفعل كذلك، يعيشون فى حالة من الغيبوبة. 

وما يجعلنا آسفين على حال المثقفين أن بعضهم تعمد ألا يرى، أو أنهم، بالأدق، اجتهدوا فى حجب الأحداث عن عقولهم، فتاهت منهم التفاصيل، وعجزوا عن تكوين رؤية واضحة لما يجرى، أصبح ما يقولونه ضرب عشواء لا يصيب ولا يفيد. 

كان ما جرى بعد أحداث يناير أشبه بزلزال ضخم ضرب كل المتفق عليه فى حياتنا. 

تناثرت منظومة القيم التى عاش بها وعليها المجتمع المصرى. 

وتبعثرت قواعد وأسس السياسة والثقافة والصحافة والاقتصاد. 

وتراكمت أمامنا أحداث ومتغيرات كان من المفروض أن يجتهد المثقفون لرصدها وتحليلها وتفسيرها، ليقودوا الناس فى طريق غير ممهد للانتقال من عصر راكد لعصر كان يحلم الجميع بأن يكون أفضل فى كل شىء. 

كان المثقفون المصريون فى مجموعهم يعرفون جيدًا خطورة جماعة الإخوان الإرهابية، أدركوا مبكرًا أن هذه الجماعة ليست إلا سرطانًا يسكن الجسد المصرى، وكان يجب أن يقاوموه بكل ما لديهم من معرفة، لكن ما جرى أن كثيرين منهم خضعوا وركعوا تحت أقدام الجماعة، فى حالة من غياب أى رؤية أو إدراك لما تمثله من خطورة، فحصلت الجماعة على شرعية لا تستحقها. 

ما زلت أذكر أحد الإعلاميين الكبار الذى كان داعية لمحمد مرسى. 

بذل كل ما يستطيعه من جهد لتمريره وإقناع الناس بانتخابه، وبعد شهور قليلة وعندما وقعت مجزرة الاتحادية فى ٥ ديسمبر ٢٠١٢، ويومها أعلن نائب رئيس الجمهورية المستشار محمود مكى، أن البقاء للأقوى، خرج هذا الإعلامى نفسه ليقدم اعتذارًا للشعب المصرى على كل صوت مر من خلاله إلى محمد مرسى وجماعته. 

إعلامى آخر كان واحدًا من مثقفينا الكبار ومن رموز العمل الثقافى والإعلامى، وقف بنفسه إلى جوار محمد مرسى فى مؤتمر فيرمونت، وقال فى حقه كلامًا أخجل من إعادته مرة أخرى، وبعد شهور قليلة أيضًا كتب هذا الإعلامى بنفسه مقالا مطولًا يعلن من خلاله مبررات تراجعه عن تأييد مرسى، ويتقدم باعتذار رسمى إلى جموع الشعب المصرى الذين خدعهم فانخدعوا به، وساروا فى طريق لا يليق لا بالمواطنين ولا بالوطن. 

يومها أُسقط فى أيدى الناس، فإذا كان هؤلاء خدعتهم الجماعة، فماذا يمكن أن يحدث للمواطن العادى؟ 

فسر البعض حالة السقوط هذه بأن من فعلوا ذلك كانوا يسيرون خلف مصالحهم.

الحقيقة لم تكن كذلك أبدًا. 

مئوية الأستاذ.. محمد حسنين هيكل عن الجانب الروحي في حياته: الله في قلبي  وعقلي - بوابة الشروق - نسخة الموبايل
هيكل 

كل ما جرى أنهم فقدوا رشدهم، تزاحمت عليهم الأحداث فأربكتهم، كانوا فى هذا التوقيت يحتاجون إلى «حزام عفة» بتعبير هيكل، وحزام العفة هنا هو وعيهم بما يحدث من حولهم، لكنهم لم يكونوا قادرين على قراءة الصورة بكل مفرداتها. 

الأمر نفسه تكرر بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣. 

وقف المثقفون جميعًا، وهذه شهادة فى حقهم، إلى جوار الثورة، بل كانوا بعضًا من وقودها الذى احترقت به جماعة الإخوان الإرهابية ورئيسها الذى لم يكن أكثر من مندوب لمكتب الإرشاد فى قصر الاتحادية، قادوا العمل الميدانى على الأرض من خلال ملحمة لن يستطيع التاريخ أن يعبرها بسهولة، فاعتصام المثقفين فى مكتب وزير الثقافة الذى بدأ فى ٥ يونيو ٢٠١٣ كان الشرارة الكبرى التى ألهمت المصريين الاستمرار فى مهمتهم لخلع محمد مرسى. 

لكن ولأن الأحداث توالت عاصفة، ارتبك كثير من المثقفين، ليخرج علينا حزب يعلن أنه مع ٣٠ يونيو، لكنه ليس مع ٣ يوليو، رغم أن الحدث واحد، ورغم أن ما حدث فى ٣ يوليو لم يكن إلا استجابة لما جرى فى ٣٠ يونيو، فما كان لهذه الثورة أن تنجح لولا دعم الجيش وانحيازه لها، إلا أننا وجدنا من يتنطع بالقول ضد الجيش وقياداته وما فعلوه. 

هذا التنطع كان سببًا فى انفصال حاد بين كثير من المثقفين ومشروع ٣٠ يونيو الذى انطلق سريعًا فى مسارين. 

الأول كان مواجهة الإرهاب. 

مؤمتر فيرمونت لتأييد محمد مرسى فى انتخابات ٢٠١٢

والثانى البناء والتعمير. 

وكان المشروع يحتاج إلى المثقفين ليشاركوا فى المسار الثالث وهو الوعى والتوعية بما يحدث، لكن كثيرين تخلوا عن دورهم، وكان مفاجئًا ومفزعًا أن يقف بعضهم فى مواجهة المشروع ينتقصون منه، ويقللون من شأنه، ويشككون فى كل ما يتصل به. 

لم يكن أمام من تولوا شئون البلاد إلا أن يمضوا فى طريقهم، لم تكن لديهم رفاهية النظر إلى الخلف، ولا لديهم الوقت ليدخلوا فى جدل بيزنطى ومناقشات سريالية ومنازلات فكرية مع من عجزوا عن رؤية الأحداث كما ينبغى، وهو ما جعل كثيرين من المثقفين المصريين يقفون فى العراء تمامًا، ودخلوا فى عزلة كانوا هم السبب فيها. 

كان من المفروض أن يعكف المثقفون المصريون على مراجعة شاملة لأنفسهم، أن يقرأوا جيدًا الموقف الذى وجدوا أنفسهم فيه، لكنهم اختاروا الطريق السهل، ألقوا باللوم على مَن تولوا شئون البلاد، وبدأوا فى إعادة إنتاج الخطاب المعتاد عن استبعاد الكفاءات وعدم الاستماع لمن يعرفون، رغم أنهم بالفعل لم يكن لديهم ما يستطيعون قوله فى المشهد الذى كان معقدًا ومتشابكًا بأكثر مما ينبغى بعد أن تنازلوا طواعية عن مهمتهم فى تفكيك هذا المشهد، وإعانة الناس على فهمه واستيعابه وإدراكه. 

عندما قرر الرئيس أن يكون هناك طقس سنوى يجمعه بكل طوائف المجتمع المصرى من خلال إفطار الأسرة المصرية، بدأ المنظمون فى دعوة عدد كبير من المثقفين، أحدهم تحدث معه واحد من المنظمين، وبمجرد أن سمع الدعوة رفض أن يشارك، قال دون أن يفكر: أنا لن أجلس معكم، ولن أتحدث إليكم، ولا يوجد ما يجمعنى بكم أبدًا.. أنتم فى طريق وأنا فى طريق. 

المفارقة أن هذا المثقف نفسه كان ولا يزال يشكو من أن المسئولين فى الدولة لا يستمعون إليه ولا إلى المثقفين الآخرين، رغم أنه قطع الطريق على نفسه، بأن أخذ موقف المناهض ولن أقول المعارض، لأنه بقوله وبما فعله كان مناهضًا ورافضًا لمجرد الحديث الذى كان يريد المسئولون من خلاله أن يجمعوا الجميع على مائدة واحدة.

لقد سلك كثير من المثقفين المصريين سلوكًا أعتقد أن التاريخ لن يغفره لهم، فقد تعمدوا مهاجمة المسئولين فى الدولة للحصول على مكاسب، ورغم أنها كانت طول الوقت مكاسب صغيرة وبلا قيمة، لكن كانت هذه خطتهم، لم يكن النقد دائمًا لوجه الله، ولم تكن الحدة فى النقد منطلقة من أرضية مبدأ واضح، ولكنها المكاسب الصغيرة لعنها الله وقاتلها فى كل وطن وموطن. 

إننى لا أفترى على أحد بشىء لم يفعله، فلدىّ مئات إن لم يكن آلاف الأمثلة على ما أقول، وكل ما أتمناه أن تتيح لى الأقدار تسجيل ما جرى على الأرض، فهو كثير ومخجل، لكن من أجل أن يعرف الجميع ما جرى فلا بد أن نكتب، وساعتها أعدكم أن تكون الكتابة بالأسماء والوقائع، ولن أعفى أحدًا من مسئوليته، حتى أنا. 

إننى أتوقف أمام أحد المثقفين الكبار الذين يملأون الدنيا ويشغلون الناس، له اسمه ورسمه ومكانه ومكانته، إلا أنه يهيل التراب على كل الفعاليات الثقافية المصرية، كان من بينها معرض القاهرة الدولى للكتاب، وفى المقابل يكيل المديح لأى فعالية ثقافية خارج مصر لمجرد أنه يكون مدعوًا إليها ومشاركًا فيها، الغريب أنه وعندما تجاهله معرض كتاب فى دولة عربية أقيم مؤخرًا هاجمه، لكن هذه المرة لم يلتفت إليه أحد، فقد عرفوا ثمنه. 

لم يفهم كثيرون فى صفوف المثقفين المصريين ما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى من أنه ليس رجل سياسة. 

أخذ بعضهم مما قاله الرئيس مطعنًا فيه، وراحوا يهللون معتبرين ما صرح اعترافًا منه. 

لكنهم، وبمنطق حزام العفة الذى يحتاجون إليه ليدركوا حقائق الأمور وأبعادها، وقعوا فى مأزق كبير. 

لم يكن الرئيس يتحدث عن السياسة التى مارسها السياسيون والمثقفون المصريون خلال العقود الماضية، وهى سياسة تقوم على المواءمات والصفقات والاسترضاءات وتأليف القلوب والجيوب أيضًا، ولكنه يفهم السياسة التى يتعامل الجميع فيها بوضوح وشفافية، كل طرف يعلن ما الذى يريده من الطرف الآخر، لا أن تقول كلامًا وأنت تقصد كلامًا آخر، ولا أن تعلن شيئًا وأنت تخفى فى نفسك ما يخالفه تمامًا، ولا أن تدعى أنك لا تريد رغم أن اللهفة تأكلك لتحصل على أى شىء. 

لم يصدق المثقفون المصريون أن هناك عهدًا جديدًا يضع أفكارًا جديدة، فتمسكوا بالقديم، وهو ما يفسر لى تخلف بعض منهم عما نعيشه الآن، لقد قرروا أن يلعبوا بنفس قواعد اللعبة القديمة التى كان يلعبها النظام معهم.. دون أن يدركوا أن قواعد اللعبة تغيرت، أو أن اللعبة نفسها تغيرت. 

لقد أفقد كثير من المثقفين المصريين أنفسهم أهليتهم وجدارتهم والثقة فيهم بما تمسكوا به من معالجة للأمور على النسق القديم المعتاد التقليدى، فهم يضعون أنفسهم طوال الوقت فى مواجهة مَن يديرون شئون البلاد، على اعتبار أن المثقف لا بد أن يكون ناقدًا ورافضًا ومناهضًا ومناكفًا ومشاكسًا، دون أن ينتبهوا إلى أنه ليس من العقل أن تتعامل بقواعد تقليدية مع وضع استثنائى. 

كانت مصر بالفعل فيما تلا ٣٠ يونيو فى وضع استثنائى، وكان من المفروض أن يكون هناك منهج جديد يتبعه المثقفون، خاصة أن الرئيس فتح عقله وقلبه وطلب أن يعمل الجميع فى صف واحد، كثيرًا ما قال إننا لسنا طرفين ولكننا طرف واحد، لكن هذه الكلمات لم تصل إلى حدود رؤية وإدراك كثير من المثقفين، فظلوا فى غيهم يعمهون. 

إننى لا أعمم ولا أتهم الجميع، ولا أنتقص من جهود كثيرين، وقفوا فى صف مشروع ٣٠ يونيو ومشروع الدولة المصرية بقوة ودون خشية من هجوم أو ابتزاز أو تهديد، لكن للأسف الشديد فإن طائفة المغيبين من المثقفين كان صوتها مرتفعًا فى مواقف مفصلية، وأعتقد أنهم خسروا كثيرًا بذلك، وأظن أنهم سيخسرون أكثر. 

لقد استوحيت فكرة احتياج المثقفين إلى حزام عفة من كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل، لكن ولأننى لا أنحاز على بياض، فلا بد أن أقول إن الأستاذ هيكل نفسه كان يحتاج إلى حزام عفة، ولا تتعجب مما أقوله. 

بعد أحداث الاتحادية فى ديسمبر ٢٠١٢ زار هيكل محمد مرسى فى قصر الاتحادية، كان يعرف أن البوابة التى سيمر منها إلى حيث يجلس الرئيس لم تجف دماء من سقطوا أمامها بعد، لكنه لم يعبأ بشىء، وعندما سألوه: كيف تذهب إلى مرسى وقد سقطت شرعيته بحكم الدماء التى سالت على بوابة قصره؟ قال: لا تبالغوا فى أمر سقوط الشرعية.. كل ما حدث أن شرعيته شرخت فقط. 

صحيح أن هيكل استرد وعيه بعد أن تصاعدت أحداث عنف الإخوان ضد الجميع، وبعد أن كان يعتقد أنه من الصعب إسقاط نظام الإخوان، عمل هو بنفسه على المشاركة فى إسقاطه، لكنه فى لحظة بعينها عجز عن رؤية الأحداث كما ينبغى، وكان فى حاجة إلى حزام عفة. 

الجريمة الكبرى التى ارتكبها هيكل فى حق مصر وتاريخها ولو كان يملك حزام عفة ما أقدم عليها، تمثلت فيما فعله فى حق الرئيس السادات. 

الرئيس السادات

لقد أهال هيكل التراب على كل ما فعله الرئيس السادات، لأنه اختلف معه وأخرجه من الأهرام وقاده إلى السجن فى النهاية، وقد تلتمس له العذر فيما فعله فى كل كتاباته عن السادات، فقد كان ما حدث له قاسيًا، لكن هل يبرر له ذلك أن ينتقص من شأن حرب أكتوبر؟ وهل يبرر له ذلك أن يتجاوز كل الحدود فيما كتبه عن الرئيس السادات فى خريف الغضب؟ 

إننى أتعجب كثيرًا من أحوال نخبتنا المثقفة، ولا أدرى عندما كان هيكل يصوغ هذه الفكرة الملهمة لماذا لم يفكر فى نفسه ومواقفه وكثير من كتاباته؟

يبدو أننا نعظ الآخرين طوال الوقت بما لا نفعله نحن. 

وتلك مصيبتنا التى لن نستطيع أن نتخلص منها بسهولة، اللهم إلا إذا كنا نمتلك حزام عفة ثقافيًا.