إليف شافاق: البريطانيون لا يقرأون الروايات

- للمعرفة نحتاج إلى الكتب والصحافة المتأنية والتحليلات العميقة وللحكمة نحتاج إلى الحكى وسرد القصص
أظهر استطلاع رأى حديث أجرته مؤسسة «يوجوف»، وهى شركة بريطانية دولية متخصصة فى أبحاث السوق وتحليل البيانات عبر الإنترنت، مقرها الرئيسى فى المملكة المتحدة، ولها عمليات فى أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، أن 40% من البريطانيين لم يقرأوا كتابًا واحدًا خلال العام الماضى.. الدراسة التى نشرتها «يوجوف» قبل أيام سبقتها نبوءة من الروائى والكاتب الأمريكى فيليب روث عام 2000 ذهب فيها إلى أن عصر الكتابة الأدبية قد وصل إلى محطة نهائية، وقال ما نصه: «لقد وصل العصر الأدبى إلى نهاية واضحة.. والدليل على ذلك هو الثقافة.. الدليل هو المجتمع.. والدليل هو الشاشة». ويعتقد روث أن عادة التركيز التى يتطلبها الأدب كان من المفترض أن تختفى حتمًا، وأن الناس لن يكون بإمكانهم الاستمتاع بحالة التركيز أو العزلة اللازمين لقراءة الروايات.
من جانبها علقت الروائية البريطانية ذات الأصول التركية، والباحثة فى العلوم السياسية إليف شافاق على دراسة «يوجوف» وما ذهب إليه فيليب روث فى مقال نشرته بصحيفة «ذى جارديان» صباح الأحد الماضى، مؤكدة على استمرار حاجة البشرية للكتابة الأدبية، والروايات على وجه الخصوص برغم ما قد تظهره الدراسات والأبحاث بشأن تخلى البشر عن القراءة عمومًا، والقراءة الأدبية بشكل خاص.

تقول إليف شافاق: «يبدو أن العديد من الدراسات تدعم استنتاج روث، إذ انخفض متوسط الوقت الذى يستطيع فيه الشخص التركيز على شىء واحد فى العقود الأخيرة من حوالى دقيقتين ونصف الدقيقة إلى حوالى ٤٥ ثانية، حدث ذلك معى خلال الفترة الأخيرة، وشاهدته بعينى، وذلك عندما ألقيتُ محاضرتين بفارق يقترب من العشر سنوات فى مؤتمر (تيد)، وهى منظمة غير ربحية معنية بنشر الأفكار حول التكنولوجيا والترفيه والتصميم، وتوضح شافاق: «فى عام ٢٠١٠، طُلب منا أن تكون مدة محاضراتنا ٢٠ دقيقة؛ وفى عام ٢٠١٧، خُفِّضت إلى حوالى ١٣ دقيقة، وعندما سألتُ عن السبب، أبلغنى المنظمون أن متوسط مدى الانتباه لدى الجمهور قد تراجع، ورغم ذلك، أبقيت محاضرتى ٢٠ دقيقة. وأود أيضًا أن أرفض فكرة أن الناس لم يعودوا بحاجة إلى الروايات.. إن استطلاع يوجوف نفسه يظهر أن أكثر من ٥٥٪ من هؤلاء الذين ما زالوا يقرأون يُفضِّلون الروايات.. تحدث إلى أى ناشر أو بائع كتب، وسوف يؤكد لك ذلك، ما زالت الرغبة فى قراءة الروايات هى الأوسع انتشارًا، وما زال الإقبال على شرائها أمرًا واسع النطاق.. إن استمرارية الروايات الطويلة ليست مجرد معجزة صغيرة فى عالمٍ تُشكله المعلومات المفرطة، والاستهلاك السريع، وعبادة الإشباع الفورى».
«إننا نعيش فى عصرٍ تكثر فيه المعلومات، لكن دون معرفة كافية، المعرفة فيه قليلة، والحكمة أقل بكثير، هذا الفائض من المعلومات يُشعرنا بالغرور، بالغطرسة، وهو ما يؤدى إلى فقداننا للإحساس، يجعلنا مخدرين، وهو ما يجعلنى أظن أنه يجب علينا تغيير هذه النسبة، والتركيز أكثر على المعرفة والحكمة.. للمعرفة نحتاج إلى الكتب، ونحتاج إلى الصحافة المتأنية، والبودكاست، إلى التحليلات المتعمقة، والفعاليات الثقافية.. وللحكمة، من بين أمور أخرى كثيرة، نحتاج إلى فن الحكى، فن السرد القصصى.. نحتاج إلى الكتابة المطولة».
وتضيف شافاق: «لا أزعم أن الروائيين حكماء، لكننا على أى حال على العكس من ذلك تمامًا، نحن نسير وسط فوضى عارمة. لكن الشكل المطول من الكتابة، يحمل فى طياته شكلًا من أشكال البصيرة والتعاطف أو الذكاء العاطفى والشفقة، وهذا هو ما كان يقصده ميلان كونديرا بقوله: (إن حكمة الرواية تختلف اختلافًا كبيرًا عن حكمة الفلسفة)، وفى نهاية المطاف، فإن فن السرد القصصى هو الأقدم والأكثر حكمة منا جميعًا، الكُتّاب يدركون ذلك فى قرارة أنفسهم، وكذلك القراء أيضًا».

«فى السنوات الأخيرة، لاحظتُ تغيرًا فى تركيبة الأشخاص المشاركين بفعاليات الكتب والمهرجانات الأدبية فى جميع أنحاء المملكة المتحدة، وما زلت أرى عددًا متزايدًا من الشباب وصغار السن، بعضهم يأتى مع والديه، لكن الكثيرون يأتون بمفردهم أو مع أصدقائهم، ويمكن بسهولة ملاحظة أن هناك عددًا أكبر من الشباب الذين يحضرون الفعاليات الأدبية، إذ يبدو لى أنه كلما ازدادت فوضى عصرنا، ازداد عمق حاجتنا للتمهل وقراءة الأدب.. فى عصر الغضب والقلق، وتضارب اليقينيات، وتصاعد التعصب القومى والشعبوية، يتعمق الانقسام بين (نحن) و(هم)، هنا يأتى دور الرواية، فهى التى تعمل على تفكيك تلك الثنائيات».
وتضرب شافاق مثالًا حول حكمة الأعمال الملحمية المطولة، بقصيدة «جلجامش»، وتقول: «ألقى السرد الطويل، منذ ملحمة جلجامش سحره على البشرية بهدوء، وهى واحدة من أقدم الأعمال الأدبية الباقية، يعود تاريخها إلى ٤ آلاف سنة على الأقل، سابقةً لتحولات أوفيد، والإلياذة والأوديسة لهوميروس.. وهى قصة غير عادية تدور حول بطل غير متوقع.. فى القصيدة، يظهر الملك جلجامش كروح قلقة، مثقلة بعاصفة فى قلبه، إنه كائن وحشى، أنانى، مدفوع بالجشع والسلطة والتملك، إلى أن تُرسل له الآلهة رفيقًا (إنكيدو)، فينطلقان معًا فى رحلات بعيدة، مستكشفين أراضى أخرى، ويعيدان اكتشاف نفسيهما أيضًا.. إنها قصة عن الصداقة، لكنها تتناول أيضًا أمورًا أخرى كثيرة، مثل قدرة الماء والفيضانات على تدمير بيئتنا أو تجديدها، ورغبتنا فى إطالة أمد شبابنا، وخوفنا من الموت.. فى العديد من الأساطير الكلاسيكية، يعود البطل إلى دياره منتصرًا، ولكن ليس فى ملحمة جلجامش. فهنا نجد بطلًا فقد صديقه العزيز، وفشل فى كل شىء تقريبًا، ولم يحقق نصرًا واضحًا، ولكنه بعد أن عانى من الفشل والهزيمة والحزن والخوف، تطور (جلجامش) إلى كائن ألطف وأكثر حكمة، وهكذا يمكننا أن نقول إن القصيدة القديمة تدور حول إمكانية التغيير وحاجتنا إلى الحكمة.. ومنذ أن رُويت (ملحمة جلجامش)، ودُونت، قامت إمبراطوريات كثيرة واندثرت، وهلك ملوك عظماء، ورجال أقوياء، ودمرت بعض أطول الآثار وتمت تسويتها بالأرض، لكن هذه القصيدة صمدت فى وجه تقلبات التاريخ، وها نحن، بعد آلاف السنين، نتعلم منها، وما زال الملك جلجامش، بعد رحلاتٍ وإخفاقاتٍ عديدة، يستعيد التواصل مع هشاشته وقدرته على الصمود. ويتعلم كيف يصبح إنسانًا، تمامًا كما نفعل نحن عندما نقرأ روايات عن أشخاص آخرين».