إسماعيل ولى الدين.. الأديب الغامض الذى اعتزل فى قمة مجده (ملف)

- إعلان اعتزال الكتابة أمر فعله كتّاب كبار من قبل وبعد إسماعيل ولى الدين دون أن يتهمهم أحد بالإفلاس
فى عالم الفن والأدب ثمّة أسماء تظهر فجأة وتُضىء المشهد لفترة قصيرة، ثم سرعان ما تتوارى وتختفى، فيما نعرفه فى عالم الغناء بـ«مطرب الغنوة الواحدة»، تمامًا كما فعل المطرب على حميدة بـ«لولاكى» التى هزّت العالم العربى فى الثمانينيات، ثم توارى بعدها تمامًا عن الأضواء. لكن هناك من لا تنطبق عليهم هذه القاعدة رغم اختفائهم المفاجئ! ومن أبرزهم- وربما أكثرهم غموضًا- الروائى المصرى إسماعيل ولى الدين؛ الشخصية الأكثر إثارةً للجدل فى تاريخ الرواية المصرية الحديثة، والذى تخطّت رواياته مبيعات عمالقة عصره، من نجيب محفوظ إلى إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس، وتحوّلت أعماله إلى أفلام اجتاحت وجدان المشاهد العربى فى السبعينيات والثمانينيات، لا عبر رواية واحدة أو فيلم واحد، بل عبر موجة من الروايات التى تحوّلت إلى أفلام أصبحت علامات فى تاريخ السينما المصرية، من «حمام الملاطيلى» 1973، الذى فجّر عاصفة فى الوسط الفنى والثقافى، إلى «الأقمر» 1978، و«الباطنية» 1980، و«السلخانة» 1982، و«درب الهوى» 1983، ثم «بيت القاضى» 1984، و«أبناء وقتلة» 1987، و«حارة برجوان» 1989، ومنها ما نال شهرة أسطورية لدرجة أن صناع الدراما عادوا لإنتاجها تليفزيونيًا مثل «الباطنية» عام 2009، فى محاولة لإحياء وهج لم يخفت أبدًا فى ذاكرة الجمهور، رغم اعتزال الكاتب واختفائه المفاجئ فى قمة مجده فى ظاهرة لا تزال تثير العجب والأسئلة إلى اليوم.
فى حوار سابق، وجّه الناقد الراحل «مصطفى بيومى» سهام نقده القاسى للكاتب «إسماعيل ولى الدين» فى يوم وفاته!؛ معتبرًا أدب إسماعيل أحد تجليات التفسخ بعد نكسة ١٩٦٧، مفسرًا اعتزاله المبكر بالإفلاس، بل اعتبره مُفلسًا من البداية!، زاعمًا أنه لم يكن يستطيع الاستمرار فى ظل وجود مستويات أعلى منه أدبيًا بكثير من أبناء جيله، مثل بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، مشيرًا إلى أن شخصياته مهزوزة، وبناءه الفنى هش، وتطورات الأحداث فى أعماله عشوائية. ثم ذهب إلى أقصى درجات الهجوم، حين زعم أن إسماعيل ليس مجرد كاتب ضعيف، بل لص!؛ مدّعيًا أن إحدى قصصه فى «الباطنية» مأخوذة حرفيًا من قصة بولندية، لم يغير فيها غير الأسماء، ناقلًا الترجمة التى قام بها غيره ونسبها لنفسه.
ورغم أن إسماعيل ولى الدين طالما كان محط انقسام حاد بين النقاد، بين من اتهمه بالركاكة وضعف الموهبة، ومن اعتبره مجرد «كاتب تجارى» كتب وعينه على السينما، وركزت أعماله على الجنس والشذوذ والإباحية، وبين من وجد فى كتاباته تشريحًا عميقًا للواقع المصرى، لا يخلو من الجرأة التى طالما أربكت الذوق المحافظ والتصنيفات المريحة. إلا أن أشرس منتقديه لم يبلغوا هذه الدرجة من العنف والتجنى التى عبّر بها الناقد «مصطفى بيومى».
من الصعب اعتبار اعتزال إسماعيل إفلاسًا، لأن الواقع يروى قصة مختلفة، لأن إعلان اعتزال الكتابة أمر فعله كتّاب كبار من قبل وبعد إسماعيل ولى الدين، دون أن يتهمهم أحد بالإفلاس، منهم من أعلن اعتزاله والتزم به مثل «محمود السعدنى»، ومنهم من أعلن اعتزاله ولم يلتزم به مثلما فعل «محمد حسنين هيكل» على صفحات جريدة الأهرام فى مقال بعنوان «استئذان بالانصراف». صحيح أن إسماعيل ولى الدين صرّح فى آخر حواراته الصحفية قبل وفاته بأن «طاقته الإبداعية نفدت»، لكن المدهش أنه لم يتوقف عن الكتابة بعد اعتزاله، حيث أنجز بالفعل خمسة أجزاء من رواية طويلة بعنوان «شجرة العائلة»، لم تنشر بسبب عراقيل نشر مرتبطة بجرأة موضوعها السياسى، حيث تناولت بالنقد الفترة من ١٩٥٢ حتى ١٩٨٢، وهذه الرواية لا تزال بخط يده عند ورثته، وكان من المفترض أن تتحول إلى عمل درامى، لكن المشروع توقف أيضًا بعدما رفض إسماعيل طلب منتج خليجى بحذف الأجزاء السياسية، متمسكًا برؤيته كاملة.
هذا الموقف، وحده، يكفى لنقض أسطورة أنه كان كاتبًا تجاريًا كما يُشاع، بل المشكلة الحقيقية أنه لم يكن كذلك!، فهو لم يدخل عالم الأدب إلا متأخرًا جدًا، بعد تخرجه فى كلية الهندسة عام ١٩٥٦، وبعد أن قضى عقدين فى خدمة القوات المسلحة، ولم يكتب إلا بعد هزيمة ٦٧، حاملًا هم تشريح أسباب الهزيمة فى كتابته، عكس ما يدّعى بيومى الذى اختزل مشروعه فى أنه أحد تجليات تفسخ ما بعد النكسة، متجاهلًا أن هذه الكتابات نفسها فى الحقيقة تشريح لهذا التفسخ الاجتماعى لا سبب له.
لقد عجز بيومى عن تفسير لمعان اسم إسماعيل ولى الدين بين كل أبناء جيله عبر عقد من الزمن، وزعم أنه كان لصًا لقصص بولندية أجنبية، فى حين كان احتفاء الأديب الكبير يحيى حقى بروايات إسماعيل لكونها غارقة فى الخصوصية، وكتب عنه بإعجاب، مشيرًا إلى قدرته على نقل نبض أحياء القاهرة الشعبية وتحويلها إلى مسرح حى للدراما الإنسانية يتحرك عليها أبطاله. وهو نفس ما كتبه نقّاد كبار مثل عبدالفتاح البارودى، وأحمد أبوكف الذى علّق على رواية «حمام الملاطيلى» بقوله إن كاتبها «عاش وسط ضباب الحمام الشعبى بحى الجمالية، استوعب لغتهم، وعايش طباعهم، وغاص فى نخاع حياتهم».
من العجيب أيضًا أن تلك الخصوصية التى اتسمت بها أعماله كانت هى نفسها سببًا لانتقاده من عدد من النقاد اتهموه بالتأثر بعالم نجيب محفوظ الذى كان يستعير أسماء الأحياء الشعبية فى القاهرة القديمة كعناوين لرواياته، عاكسًا خصوصية هذه الأحياء التى تشكل البيئة المؤثرة فى حياة من يعيشون داخلها، حتى ذهب الناقد عاطف فتحى، فى مقال بمجلة «أدب ونقد»، إلى عكس ما ذهب إليه مصطفى بيومى تمامًا حين زعم أن قصص إسماعيل منتحلة من قصص أجنبية لم يغير فيها سوى الاسم، فى حين هاجم عاطف تكرار شخصيات روايات إسماعيل ولى الدين وتقاطعها فى أكثر من رواية، مشيرًا إلى التشابه الكبير بين شخصيات السلخانة والمدابغ، وأن شخصية كمال البلبيسى فى «الأقمر» تحمل أصداء متنوعة من شخصيات عديدة من الملاطيلى، وكأن ذلك عيب!.
لم يُلام إسماعيل ولى الدين على الشىء ونقيضه فقط، بل كان يُلام على اختياره العامية والفصحى المباشرة البسيطة فى أعماله الأدبية لملامسة الواقع والوصول إلى أكبر قدر من الجمهور. فاتُّهم بالركاكة لأنه كتب بأسلوب مباشر، وبالسطحية لأنه استعمل العامية، بل اعتبر البعض هذا الأسلوب استخفافًا منه فى التعامل مع الأدب، واحتاروا فى تصنيف أعماله التى اتسمت بالقصر الشديد، على أنها «روايات» أو «روايات قصيرة»، رافضين الاعتراف بأى شكل جديد أو مختلف من الأدب، وسرعان ما تم تهميشه بعد اعتزاله.
اعتبر النقاد كتابات إسماعيل ولى الدين تتميز بالركاكة اللغوية، وضعف الموهبة، وسطحية الأسلوب، وافتقاد أى أبعاد جمالية وفنية، فى حين وصف الناقد حسين حمودة أعماله بأنها كتابة «جماهيرية»، راهنت على البسطاء، وقدّمت شخصيات وأحداثًا محلية ببنية درامية واضحة دون زينة لغوية أو فذلكة فنية، ما يفسر لجوءه إلى الأسلوب البسيط كضرورة فنية لملامسة الواقع كما هو، لا كما تريده الصالونات الثقافية.
اللافت أنه حين قورن بنجيب محفوظ، لم يتصنع التواضع، بل قالها بوضوح: «تمنيت كثيرًا أن يصبح أسلوبى فى الكتابة مشابهًا لنجيب». وأضاف أنه «لا يوجد وجه شبه بين كتاباتى وكتابات نجيب محفوظ، حيث إن أسلوب نجيب محفوظ شديد الرصانة، أما كتاباتى شديدة المباشرة». ومع ذلك، من يقرأ أعماله الأدبية الآن يشعر وكأنه أمام صوت أدبى له نكهة تاريخية خاصة أشبه ما تكون بطريقة الجبرتى المميزة.
الأكثر غرابة أن شهرة أعماله السينمائية لم تُحسب له، بل اعتبرها النقاد عيبًا وتهمة، فبدلًا من التعامل معها باعتبارها تأكيدًا على قدرة نصوصه على الحياة والتأثير، ظنوا أن السينما لم تُقبل على نصوصه إلا لأن عالمه مشبع بالجريمة والجنس والمطارات والمخدرات. وكأن تلك المفردات لا تحتوى مضامين اجتماعية وسياسية وأسئلة كبرى عن الصراع الطبقى، والعدالة، والتدين الزائف، وتفكيك النكسة، وتحولات ما بعد حرب أكتوبر. بل ويحسب له أنه أول من قدّم شخصية المتطرف الدينى فى السينما المصرية من خلال فيلم «بيت القاضى».
لكن المفارقة أنه كان يرى أن السينما نفسها خانته، عندما شوّهت بعض أعماله وجرّدتها من أبعادها السياسية والإنسانية، واكتفت بتجارية الحكاية، إذ جاء فيلم «درب الهوى» ليحكى عن البغاء فى فترة الأربعينيات، بينما كان يحكى النص الأدبى عن البغاء فى فترة الثمانينيات!.
اليوم، بعد كل هذا التهميش والتشويه والتغييب، أعتقد أنه قد حان الوقت لإعادة قراءة إسماعيل ولى الدين خارج قوالب الاتهامات المعلبة. فما بين «الركاكة» و«السرقة» و«التقليد»، ضاعت أعمال لم تأخذ حقها من النقد الحقيقى، وتحوّلت حياة كاتب معقّدة الطبقات إلى مادة جاهزة للرفض الكسول، فى حين أنه يستحق بالفعل إعادة الاعتبار لأديب اختار أن يكون مختلفًا، فدفع ثمن ذلك عزلة وصمتًا.