الإثنين 16 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

33 عامًا على استشهاد فرج فودة دفاعًا عن الدولة المدنية

فرج فودة
فرج فودة

منذ أكثر من ربع قرن، أدرك فرج فودة حجم الخطر الذى يتربص بالدولة المدنية فى مصر، صعودًا واضحًا لنشاط جماعات العنف المسلح «الجماعة الإسلامية»، ونشاط أوضح للجماعات السلفية بتعدداتها الفكرية وتخصصاتها الوظيفية المختلفة ظاهريًا، والمتفقة والمتكاملة باطنيًا فى هدف واحد، هو ابتلاء الوطن بأحداث طائفية متكررة، اتساع وتيرة اللغة الدينية فى الإعلام والتعليم، يقابله تدنٍ ملحوظ لسيطرة وسيادة القانون، بل ربما غيابه كليًا فى معالجات عديدة لأحداث عديدة، ظهور ما يسمى بالاقتصاد الإسلامى وما اتبعه من وصف أنشطة الحياة بلفظ دينى طائفى هو «الإسلامية»، فصار هناك الطب الإسلامى، والهندسة الإسلامية، والتجارة الإسلامية، والاحتفال الإسلامى، والتحية الإسلامية، إلى آخر قائمة طويلة وتطول كل يوم. وما تخسره الدولة المدنية كل يوم جراء تلك الممارسات، ناهيك عن أوسع العوامل خطرًا على الدولة المدنية، وهو تبنى القيادة السياسية المصرية، متمثلة فى الرئيس السادات، هذا الفكر المتطرف أو هذا الفكر الإقصائى أو التمييزى الهادم لمبادئ المواطنة وسيادة القانون لحساب الطائفية وتديين الحياة العامة بصيغة إسلامية متطرفة، ما شجع تلك التيارات لتبنى أسلوب الإرهاب والتصفيات الجسدية.

لاحظ فودة ذلك وسجل تفاصيله وحلل ما وراءه من فكر ومن دوافع سياسية، وكتب كتابه «قبل السقوط» صوتًا نذيرًا قبل فوات الأوان، لكن الدولة لم تهتم، وبرغم اغتيال السادات بيد هذه الجماعات فإن مبارك لم يتخذ الإجراء الناجز لحماية الدولة المدنية من هذه التيارات الدينية التى كشفت عن هدفها الأول، وهو استعادة الخلافة الإسلامية من جديد، حيث لا وطن سوى الإسلام، ولا عقيدة سوى الإسلام، ولا قانون سوى الشريعة الإسلامية، ولا مواطنين بل رعايا وذميين، ولا حريات سوى ما يسمح به الخليفة، ولا علوم سوى علوم الدين.

وتتكرر حوادث القتل والإرهاب والعنف والترويع من هذه الجماعات الإرهابية ضد فصائل الشعب المصرى، فتعقبوا الشرطة والأقباط والمفكرين والساسة، فيستشعر الجميع الخطر، لكن فودة ينبرى ليسطر كتابه «الإرهاب» يحذر ويشرح أسباب الإرهاب ودوافعه وكيف نواجهه وسبل الحل، وكان كعادته محللًا دقيقًا صائبًا ومدافعًا عن الدين ضد من أرادوا استخدامه مطية لأغراضهم الجهنمية كما وصفها، ومدافعًا بالأساس عن الوطن، اقرأ معنا كلماته هذه المعبرة فى هذا المعنى: «الله قد ترك شئون السياسة والحكم لاجتهاد المسلمين، لعلمه وهو العليم أن العصور تتغير، وأن الأزمنة تتوالى، وأن أنظمة الحكم تتغير مع هذا كله، وأن الإسلام لو اشتمل على ذلك نصًا وتحديدًا لفرض الثبات على ما لا ثبات فيه، الضيق على ما هو محل للسعة، والحسم على ما هو مجال للاجتهاد». «من كتاب الإرهاب ص٥٤».

فرج فودة.. عايشته ما يقرب من ست سنوات حتى يوم الاستشهاد، رجل متميز بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، يملك قدرًا هائلًا من الشجاعة.. شجاعة المواجهة، يملك قدرًا هائلًا من المنطق ومن إعمال العقل، يملك قدرًا أكبر من حب الوطن ومن حب الحياة، ينحاز دائمًا للحقيقة لا يضيف إليها ولا ينقص منها، هكذا نعرف عنه وهكذا قال فى مقدمة كتابه «الحقيقة الغائبة». هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس بما تهواه، وتعشق ما استقرت عليه ويصعب عليه أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة.. هذا حديث قصدت به أن أكون واضحًا كل الوضوح، صريحًا كل الصراحة. 

فرج فودة الذى استشهد دفاعًا عن الدولة المدنية أو دفع حياته من أجل أن يحافظ على الدولة المدنية بكل مكوناتها، بكل مؤسساتها، بكل مكاسب الوطن فيها، دفع حياته من أجل حرية الفكر والرأى والتعبير وحرية الإبداع وحرية الاعتقاد، ولم يكن هذا بالأمر الهين، فقد واجه فودة فى ذلك أعتى الجماعات والمؤسسات المناهضة للوطن المتسربلة بالدين، واجههم بشجاعة وأخلاق وقوة، كانت أدواته المنطق والعقل والحجة، ففى دفاعه عن حرية الفكر ضد ممارسات الأزهر فى تكفير المفكرين وملاحقتهم، قال: «ما شأن الأزهر بما يكتبه المفكرون وغيرهم.. أقصى ما يفعله الأزهر فى تقديرى هو أن يرد ويوضح، وليس له ولن يكون أن يمنع أو يقمع أو يحاكم أو يدعو للعقاب». 

فرج فودة مارس الدفاع عن حرية الفكر والتعبير قولًا وفعلًا بالكتابة وعبر أحاديث مسجلة بالصوت والصورة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يؤخذ على القائمين على التليفزيون المصرى أنهم لم يسمحوا لفرج فودة بحديث واحد فى قنواتهم، ولا باستضافة واحدة على أحد البرامج السياسية أو حتى الثقافية، فى الوقت الذى كانوا يحتفلون بتوافه الأمور، وما زالوا، لم يتعلم مبارك من درس السادات، ورأينا ورأى فودة تناميًا أكثر لهذه التيارات فى مجالات عدة، ما دعا فودة إلى كتابة كتابه الثامن بعنوان «النذير» يدلل فيه على أن جماعات التطرف الإسلامى باتت تمتلك مقومات الدولة، وهى الاقتصاد والإعلام والقوة. وهددت شركات توظيف الأموال الإسلامية البنوك الوطنية، وغزا إعلام التطرف الإعلام الرسمى، وظهرت قنوات إعلامية متطرفة عديدة وصحف ومجلات بكاملها وأخرى جزئيًا، إضافة إلى اختراق الإعلام الرسمى. وتمثل امتلاك القوة وهى الملمح الثالث لشكل الدولة فى الأجنحة العسكرية الجهادية المدربة والقادرة على إحداث الفوضى من أجل السيطرة. كتب فودة هذا معبرًا من جديد عن قلقه على مستقبل الوطن. ظل يصرخ عبر مقالاته فى الصحف والمجلات مواجهًا بشجاعة منقطعة النظير، ومفندًا ومحللًا لمراوغات الإرهاب، ومدافعًا عن الوطن وعن الدولة وعن البشر وعن القيم وعن الإسلام الدين، دافع عن الإسلام الدين ضد المتاجرين به الداعين لإسلام الدولة، بح صوته بأن الإسلام الدين فى أعلى عليين، أما الإسلام الدولة فهو منتج بشرى يخطئ ويصيب، ولنا أن نختلف حوله كأى منتج بشرى. 

واستمر فى رصد ظواهر التطرف وما وراء فعل التطرف من أفكار متطرفة، وما وراء الأفكار المتطرفة من رجال دين ومؤسسات دينية وسياسية، وما وراء ذلك كله من تنظيمات عالمية تمول وتخطط. كشف فودة عن خباياهم المستورة وقبحهم الحقيقى وعدائهم للوطن وللدين، ولأن دولة مبارك فى ذلك الوقت كانت مشغولة بالمغانم الشخصية والمصالح الضيقة، فباتت بمثابة متفرج لا يدرك خطورة الموقف، ووقف فودة محاربًا بقلمه وكلمته دون ظهير رسمى يحميه، وتربص به الإرهابيون وأطلقوا عليه رصاصات غدرهم وجهلهم، بعدما أفتى لهم شيوخهم بذلك، أطلقوا رصاصهم على جسد فرج فودة ولم يدركوا أنهم أطلقوه على الوطن كله.. مؤامرة اشترك فيها الشيوخ والجهلة وضعف الدولة وجهل المسئولين، وكانت الخسارة فادحة ويجب ألا تتكرر، واليوم وقد مضى أكثر من ثلاثين عامًا على استشهاد فرج فودة، ولم يزل فودة حاضرًا بعرض المشهد، ذلك لأننا ما زلنا تحت خطر التطرف، الذى هو خطر الدولة الدينية، فها نحن نرى ونسمع كل يوم من مسئولين عن توجهات حكومية لتديين المجال العام، الإعلام والدراما والثقافة، بل تديين المستقبل بتديين التعليم، ووصل الأمر لتديين مؤسسات الدولة عبر سيطرة المسئولين والموظفين المتدينين الذين يخلطون كثيرًا بين ما هو شخصى وما هو عام، الأمر الذى يجهز مناخًا حاضنًا لتيار الإخوان الذى نجونا من خطره بثمن باهظ. لذلك نحن اليوم بحاجة إلى فكر فرج فودة الذى يعطى للدين استقلاليته وقدسيته، ويعطى للحياة المدنية تميزها واستقلاليتها أيضًا، فلا نقع فى خطر الخلط بين كليهما، ذلك الخلط المؤدى إلى الإضرار بالدين وبالحياة العامة، وإلى تمكين الإخوان من الوصول للحكم مرة أخرى. أرجو أن نكون قد تعلمنا من ماضينا القريب، ومما حدث لجيراننا الأقربين، وإننى أثق أننا تعلمنا لأننا مقودون بقيادة رشيدة تدرك أبعاد المخاطر جيدًا، وتتعامل معها بحكمة ويقظة وعلم.