«معجمُ الفُجيرة الفلسفىّ» واستِنهْاضُ الفلسفة العربية

تُعد المعاجم الفلسفية أحد أهم المصادر العلمية فى العلوم الإنسانية، وتساهم مساهمة دقيقة فى التعريف بالمفاهيم ونشأة المدارس الفلسفيّة وأعلامها ونظرياتها والإشكاليات التى تثيرها. يتطلب الإعداد لمعجم فلسفى نهجًا علميًا صارمًا، يحدد عبره تاريخ الأفكار الفلسفية، وما ينبثق عنها من مصطلحات ومذاهب وأسئلة مفتوحة حول الإنسان والكون والله؛ أى «النظر فى الوجود الإنسانى من حيث هو وجود تاريخى»، عبر «فعل التفلسف»، كما ينبهنا الفيلسوف اللبنانى ناصيف نصّار.
يأتى «معجمُ الفُجيرة الفلسفىّ» (الطبعة الأولى، الفجيرة، ٢٠٢٤، ٣٠٤ صفحات) الصادر عن «بيت الفلسفة» فى إمارة الفجيرة فى جزئه الأول فى سياقين: الأول: ترجمة الاهتمام الرسمى بالفلسفة، والثانى: استِنهْاض القول الفلسفى العربى وتفعيل حضوره فى العالم.
أشرف إداريًا على المعجم مدير بيت الفلسفة أحمد السماحى، وضمت لجنة الإشراف العلمى كلًا من: أحمد برقاوى، «عميد بيت الفلسفة»، باسل الزّين، الزّواوى بغورة، محمّد محجوب، مشير باسيل عون. شارك فى المعجم نخبة من المشتغلين فى الفلسفة والعلوم الإنسانية، وجاء فى خمسة أقسام: القسم الأول: أعْلاَم، القسم الثّانى: مفاهيم، القسم الثالث: مشكلات، القسم الرّابع: مدارس، القسم الخامس: كُتب.
تناول القسم الأول المخصص للأعلام «٢٥» فيلسوفًا، نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: أبوبكر ابن باجَّة (١٠٨٥-١١٣٨) «محمد بنساسى»، أرسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق.م) «سليمان الضاهر»، أوغسطينوس (٣٥٤-٤٣٠) «جوزيف معلوف/ معز مديونى»، فرانسيس بيكون (١٥٦١-١٦٢٦) «محمد أحمد السيد»، محمد عابد الجابرى (١٩٣٥-٢٠١٠) «نايلة أبى نادر»، بولس الخورى (١٩٢١-٢٠٢١) «مشير باسيل عون»، فؤاد زكريا (١٩٢٧-٢٠١٠) «مايكل مدحت»، وديفيد هيوم (١٧١١-١٧٧٦) «محمود سيد أحمد» وغيرهم. درس القسم الثانى «٢٥» مفهومًا فلسفيًا مثل: «الأنا» (أحمد برقاوى)، «التجاوز» (بول دواليبى)، «جسد» (مارلين كنعان)، «الحاضر» (فتحى المسكينى)، «السَّرمد» (باسم الرّاعى)، «المفهوم» (منير الطيباوى) و«ممكن الوجود» (عزمى طه). أما القسم الرابع فركز على «١٣» مدرسة فلسفية بينها: «البراغماتية» (ناريمان عامر)، «الفلسفة التحليلية» (منير الطيباوى)، «التوموية» (فادى عبدالنور)، «الفينومينولوجيا» (فتحى إنقزّو) «الماركسية» (حميد بن عزيزة)، و«الوجودية» (رندى أبى عاد).
اتسم المعجم بميزتين عبر تخصيصه القسمين الثالث والخامس لمباحث جديدة فى إعداد المعاجم الفلسفية العربية، فلم ينهض على الأعمدة الأساسية لأى معجم فلسفى، القائمة على المفاهيم والأعلام والمدارس فحسب، بل وضع أُطر تفكير جديدة فى مبحث «المشكلات» الفلسفية التى دارت حولها سجالات كثيرة، ونشر عنها كتب عدة فى المكتبة العربية والعالمية، مثل: «الأصالة والمعاصرة» (أحمد برقاوى) و«المسألة الجندرية» (ريتا فرج)، و«إشكالية التقدم والتأخر» (جيرار جهامى). أما قسم الكتب، أى القسم الخامس، فقد كان مدفوعًا بأمرين: أولًا: التركيز على مصادر فلسفية عربية وأوروبية، تركت أثرًا لافتًا فى الوعى الفلسفى العربى المعاصر، عبر ابتكار النظريات والتأثر فى الفكر الفلسفى العالمى وحركة التعريب، والثانى: تعددية الأطروحات الفلسفية، كما يتضح من اختيار عناوين الكتب مثل: «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا (جيرار جهامى)، «الاعترافات» لأوغسطينوس (معز مديونى)؛ «طريق الاستقلال الفلسفى» لناصيف نصّار (نجم بو فاضل)، «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» لابن سينا (محمد المصباحى)، «الفعل بالكلمات» لجون لانغشو أوستن (طلال وهبة)، «فينومينولوجيا الروح» لهيغل (يوحنا عقيقى)، «الكلمات والأشياء، أركيولوجيا العلوم الإنسانية» لميشيل فوكو (الزواوى بغورة)، و«نقد العقل المحض» لإيمانويل كانط (أم الزين بن شيخة المسكينى).
يتبادر إلى عقل القارئ أو مهتم فى الإنتاج الفلسفى العربى، حين يطلع على معجم الفجيرة الفلسفى، الذى من المقرر أن تصدر الأجزاء الأخرى منه تباعًا، كما أعلن القائمون عليه- ثلاثة أسئلة أساسية: ما هو الجديد الذى قدمه المعجم؟ هل ثمة حاجة عربية لمعجم فلسفى عربى، على الرغم من حركة التأليف المعجمى العربى السابقة- مثل المعجم الفلسفى لجميل صليبا «جزءين»- والترجمات- مثل موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة: خليل أحمد خليل؟ وما هو الهدف من هذا المعجم؟
يكشف المعجم عن همٍّ فلسفى يشكل عماد هويته، ألا وهو الكيفية التى ينظر بها الوعى الفلسفى العربى المعاصر للمفاهيم الفلسفية وأعلامها ومشكلاتها ومدارسها ومصادرها بصرف النظر عن جذورها، سواء أكانت أوروبية أو عربية أو أمريكية. ولعل الجديد الذى طرحه المعجم، كما شدد أحمد برقاوى فى التقديم، تجاوز مقولات «المركزية الأوروبية» المعاصرة «التى ما زالت عن وعى أو دون وعى تنظر إلى العقل الأوروبى على أنه العقل الفلسفى» الوحيد، فلا تولى اهتمامًا كافيًا للفلسفة العربية والإسلامية المعاصرة والمشتغلين بها، وهذا ما حاول المعجم تخطيه. والأهم أن المباحث المطروحة فيه تُركت مفتوحة على مسارات التفكير الحر، فلم تقدم أجوبة نهائية عن الإشكاليات والمسائل، إذ تصدر السؤال الفلسفى الجواب المغلق، وهذه ميّزة رئيسة.
يتطلب الاهتمام بالفلسفة العربية والإسلامية، الكلاسيكية والمعاصرة، تكثيف البحوت ونشر المزيد من المعاجم الفلسفية التى تناقش مسائل عدة فى الإنتاج الفلسفى، وذلك عبر استئناف حضارى ثقافى، يُعيد للفلسفة دورها ومكانتها فى المجتمعات العربية، لا سيما فى الجامعات والمدارس، بعد أن تراجع الاهتمام بها منذ عقود.
لا ينحصر الغياب التدريجى لتدريس الفلسفة فى المؤسسات التعليمية العربية. يتحدث الفيلسوف الفرنسى ريجيس دوبريه عن تراجع الاهتمام بالدراسات الإنسانية الكلاسيكية والاختصاصات الأدبية فى الغرب، وعن تفوق الإعلام البصرى، ودخول نمط من المقاربة التقنوية الشكلانية للنصوص المدرسية والآثار الثقافية همشت قليلًا أو كثيرًا «اختصاصات المعنى القديمة» مثل الأدب والفلسفة والتاريخ والفن.
تشكل الفلسفة الترياق ضد التطرف والأصوليات الجديدة والأيديولوجيات الهدامة، فهى التى تساعد على تشكيل الإنسان الديمقراطى والمواطنة الحقة، انطلاقًا من حق كل فرد فى التفكير الفلسفى منذ سن الطفولة، وهذا ما دفع بيت الفلسفة إلى إصدار «موسوعة الفلسفة للناشئة» إلى جانب هذا المعجم الذى عبّر عن روح اللغة العربية وثرائها بوصفها «لغةً حضاريةً فلسفية».
إن استِنهْاض الفلسفة فى المجتمعات العربية ضرورة ملحة لبناء نهضة جديدة، تأخذ بالاعتبار تطور العلوم والمعارف فى تأسيس «الروح العربية»، أى «الروحية الحضارية»، التى فكر ويفكر بها كل الفلاسفة فى فضاء هذه الحضارة التى كان لها إسهامات كبيرة فى تاريخ الفلسفة العالمى، ترجمةً وابتكارًا وإنتاجًا للمفاهيم.