الخميس 17 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

حلبة مصارعة

الأكاديمى الإيرانى مهدى التسخيرى: من سخرية القدر أن يُسمى الغازى مدافعًا عن حقه والمعتدَى عليه منتهكًا للأعراف الدولية

التسخيرى
التسخيرى

- إن احترام الحرية وحقوق الإنسان من قبل الحكام يكسب المجتمع قوة ذاتية

- الإسرائيلى لا يرى نفسه وحشًا لأنه يعيش الجهل المركب ويرى الظلم عدلًا والليل نهارًا

- كيف يتحدث مندوب الكيان فى الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان والعدل والسلام؟!

- على إسرائيل الابتعاد عن الخرافات التاريخية بكونها الأمة الأفضل

- أمريكا أنفقت 7 تريليونات دولار على الحروب ولو أنفقتها عُشر المبلغ على الثقافة لتخلصت من الإرهاب

- كل التيارات السياسية المعارضة للنظام دعمت «إيران الوطن» فى مواجهة العدوان

فى ظل تصاعد التوتر الإقليمى، تتداخل العوامل التاريخية والجغرافية لتشكل خلفية معقدة للصراع بين إيران وإسرائيل، بالتزامن مع مواجهة تجاوزت الإطار العسكرى التقليدى إلى ما يشبه الصراع التاريخى الطويل حول الهوية والنفوذ والسيطرة على الرواية التاريخية.

يتميز هذا الصدام بتباين حضارى بين طرفيه، حيث إيران ذات التراث الحضارى العريق، تواجه كيانًا نشأ فى إطار مشروع استعمارى، ويعتمد على دعم خارجى لترسيخ وجوده فى بيئة ترفضه، وهو واقع يجعل من فهم جذور الصراع مفتاحًا أساسيًا لفك تعقيدات الحاضر واستشراف المستقبل.

فى هذا السياق، أجرت «حرف» حوارًا مع الدكتور محمد مهدى التسخيرى، الأكاديمى الإيرانى البارز المفكر فى شئون الأديان، والذى يتعمق فى تحليل هذا الصراع بعيدًا عن السطحية، مجيبًا عن أسئلة جوهرية حول طبيعة الحرب، ودور العقل فى زمن الصراع.

■ كيف يمكن فهم الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل فى سياق التاريخ السياسى للمنطقة؟ هل تراها امتدادًا لصراعات قديمة أم لحظة مفصلية جديدة؟

- لا يمكن لنا أن نفصل الترابط بين ماضى الحكومات وحالها ومستقبلها، عالم الحضارات يشهد لبعض الشعوب كمصر وإيران وحضارتهما القديمة ودورهما فى بناء المجتمع الإنسانى فى الماضى والحاضر، ومن الطبيعى أن دويلة لقيطة كالكيان الصهيونى، لا يمكن لها التمسك به كخلفية حضارية، لأن فاقد الشىء لا يعطيه.

وأما بالنسبة للتاريخ السياسى لهذه الدويلة؛ فقد كان تأسيسها بناءً على قرار سياسى لقوى مستعمرة، من أجل أن تقوم هذه الدويلة بدور نيابى لتلك القوى، وهذا ما يقره القادة الغربيون ويعترفون به حتى خلال هذه الحرب القائمة فعلًا، ويكفى أن نرجع إلى ما قاله المستشار الألمانى قبل أيام بأن إسرائيل تقوم بدور قذر نيابة عن الدول الغربية.

التاريخ السياسى يكشف حقيقة دولتين: واحدة منهما تمتد إلى قرون ولها جذور فى أرضها وحضارتها معروفة، وعلماؤها فى كل العلوم والفنون يُشار إليهم بالبنان، وأخرى بلا أصالة وحضارة وجذور أو علاقة بالمنطقة، زُرعت فى منطقتنا وفقًا لمنطق التسلط والنهب وغطرسة المستعمرين.

ومن الطبيعى عند تضارب المصالح العامة للشعوب أن يحصل التصادم بينهما، وباعتبار أن الأخيرة منذ التأسيس كانت ولا تزال مدعومة من قبل قوى السلطة العالمية، استطاعت أن تستغل ضعف دول المنطقة وأسست لها كيانًا غير شرعى.

ولا ننسى أن الحكم السابق فى إيران قبل إقامة الجمهورية الإسلامية كان مماشيًا بل وساندًا للدويلة الصهيونية، ومع ذهابه برزت الخلافات إلى السطح، فكان من الطبيعى أن لا يتفقا على مشروع سياسى مشترك، لأن الفروقات متنوعة وعديدة، أعمّ من التاريخ والثقافة والجغرافيا والسيادة، وكون الكيان الصهيونى وجودًا طارئًا على منطقتنا، مهما حاول الآخرون إلصاقه بشتى المعاهدات والاتفاقيات والفبركات، فإنه جسم دخيل غير منسجم، لذلك نشهد منذ تأسيسه بأنه قام على مشروع العصابات والاغتيالات والحروب والمكر والدعم الدولى المزيف.

وكان عليه أن يُخطئ فى مهاجمة إيران، وهذا الخطأ هو الذى سيؤدى إلى خاتمة الإرهاب الذى نشأ عليه.

■ هل هناك منطق عقلى يُمكن أن يُبرّر استمرار الحروب فى القرن الحادى والعشرين أم أن العالم لا يزال أسيرًا لنظريات الردع والقوة؟ ولماذا سعت إسرائيل لإشعال هذه الحرب؟

- الكلام عن المنطق العقلى يمكن تداوله فى مجموعة النخب والعقلاء، لأن الحوار له أصوله ومبانيه، ومن خلاله يكتشف الإنسان الحقائق المختلفة ليؤلف وجهة نظر متكاملة يصوغ وفقها منهجًا للحياة والتعامل الإنسانى.

لكن عندما يكون الطرف الآخر مستعليًا، ويرى لنفسه ما لا يراه لغيره، ويفسر الألفاظ والمصطلحات وفقًا لقاموس لغة قد اخترعه لنفسه وحزبه ومجموعته، آنذاك يختل النظام العقلانى، وبدلًا من حاكمية قوة المنطق، سيكون منطق القوة هو الحاكم، وشتان بينهما.

عالم اليوم فيه مدّعو العلم والثقافة والحرية وحماة حقوق الإنسان.. وهم أبعد الناس عن حقيقة هذه المفاهيم، يكفى مراجعة كلام مندوب الكيان الصهيونى فى الأمم المتحدة عندما يتحدث عن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، ويرى أن إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تدافع عن الإنسان وحقوقه والعدل والإنصاف والسلام والأمن الدولى.. وأن ما يدور فى غزة من قتل للنساء والأطفال والعُزل، وهدم للمدارس والمستشفيات والمساجد.. هو لصالح الفلسطينيين ونجاتهم من سلطة الإرهابيين كما يدّعى!

فهل يمكن لأمثال هذه العقليات أن تجعل المنطق حكمًا فى المجتمع الإنسانى؟ وكيف يمكن إقناع مثل هؤلاء بأنه وحش مفترس وذئب بثوب إنسان، وأنه يعيش الجهل المركب، وينظر إلى الظلم عدلًا، وإلى الليل نهارًا؟

وكما يقول المثل: يمكنك أن توقظ النائم أو تصحى الغافل، لكن هل باستطاعتك إيقاظ المتغافل؟!

مع الأسف، هؤلاء هم الذين يسودون فى القرن الحادى والعشرين، وكلمتهم تحكم فى المنظمات الدولية، وزعماء الدول الغربية الديمقراطية وعلى رأسهم أمريكا، هم السند لهذا الكيان الإسرائيلى المتوحش، وقد شاهدتم فى الآونة الأخيرة أن الدول السبع وقفت بكل وقاحة إلى جانبه فى ضربه لإيران، واعتبروه مدافعًا عن حقه! ومن سخرية القدر أن يكون الغازى مدافعًا عن حقه والمغزو منتهكًا للأعراف الدولية!

فى هذا عالم، من الطبيعى أن يتفرع القوى الظالم، وينتفض المظلوم المغصوب حقه، وعندما يكون الحاكم هو الحكم، ستكون النتيجة هى الحروب والأحقية للغالب والمتغطرس، وهذا ما يعطى أصحاب السلطة التمادى فى الاعتداء على حقوق الآخرين، وباعتبار أن المنظمات الدولية ممولة من السلطات العالمية، فإنها تقف مع الأسف غالبًا إلى جانب المعتدى وتبرر له اعتداءاته، وتحجب المظلوم حقه.

أى دولة غير إسرائيل، عندما لا يقف بوجهها رادع يوقفها عند حدّها، سوف تتمادى فى التطاول على حقوق الآخرين، سواء أكان هذا فى القرن الأول أو الواحد والعشرين أو القرن الخمسين!

■ ما الدور الذى يجب أن يلعبه المثقف فى لحظة الصدام العسكرى؟ وهل من واجبه تحليل الحدث أم المساهمة فى تهدئة العقول؟

- للمثقفين الدور الأساس فى الظروف الحرجة التى تستولى على الطابع العام للمجتمع.ومفهوم المثقف لغويًا يحمل معنى الريادة، كما هو فى قاموس اللغات؛ كلمة «المثقف» تطلق على مقدمة الرمح، والرمح هو مصدر قوة الفارس، والفارس هو المتقدم فى كل جيش عند الحروب، فإذا انكسر مثقف الرمح، سيسقط الفارس، وإذا سقط الفرسان سيخسر الجيش الحرب.

لذا، عندما نشاهد تهميش النخب المثقفة فى مجتمعاتنا الإسلامية، نكتشف بوضوح أسباب التخلف فى هذه المجتمعات، لأن المثقف دوره الحفاظ على وحدة المجتمع وانسجامه وتنميته، وتطويره، والوقوف أمام الغزو الفكرى والثقافى الذى لا يتناسب مع ثقافة شعوبنا وأمتنا.

فإذا هُمّش المثقف وسُلب منه هذا الحق، آنذاك سيتحوّل المجتمع إلى مجموعة دون ريادة فكرية مرشدة تدافع عن حقوقه، وسيتحوّل إلى فريسة لكل الغزاة: العسكريين، والأمنيين، والاقتصاديين، والثقافيين.

هنا تكمن أهمية حضور المثقف فى الساحة لأداء دوره الإنسانى فى حماية مجتمعه وشعبه.

فالمثقف عليه من جهة تبيين حقائق ما يدور فى الساحة كى لا تُخدع الشعوب بالأضاليل الصادرة عن الأسطول الإعلامى المعادى. حيث نعلم جميعًا أن دول الجنوب كانت ولا تزال تتغذى من إعلام دول الشمال، باعتبار امتلاكها للتكنولوجيا الإعلامية المتطورة، والاقتصاد الممتاز، والأرضية الحرة لتربية ما يصب لصالحها فى الجانب الإعلامى على المستويين الإقليمى والدولى، وما لها من صيانة دولية.

والمثقف له دور كبير فى تثقيف الشعب كى لا ينجرّ إلى النزاعات الداخلية، وعلى عاتقه مسئولية تربية وتنمية جيل قادر على اكتساح سوق العلم والمعرفة، والتسلّح بهما لخلق عالم يستهدف القلوب والعقول قبل كل شىء.

■ هل تعتقد أن هناك تراجعًا لدور المفكرين فى التأثير على السياسات العامة أمام صعود الخطاب الإعلامى التعبوى؟

- هنا لا بد من الدعوة إلى التصالح بين مثقفى مجتمعاتنا والحكام، واحترام بعضهم البعض فى مسيرة أوطاننا.

إن احترام الحرية وحقوق الإنسان من قبل الحكام، ورجوع الحكام إلى إرادة شعوبهم، يكسب المجتمع قوة ذاتية، تُقدم أجيالًا تصنع حضارة بشرية تفوق أرضية الحروب والنزاع، وتحوّل تهديد النزاعات إلى فرص للتعاون فى مسيرة بناء الحضارة المعاصرة.

■ ما مسئولية النخبة الثقافية فى نقل صورة متوازنة ومعقولة عن بلادها خاصة فى ظل حالة الاستقطاب الشديدة؟

- احترام الآراء المختلفة، والثقافات المتنوعة، والديانات المتعددة، والمذاهب المتفاوتة، والقوميات، سيولّد مجتمعًا رحبًا يستوعب أبناءه بعضهم البعض، ويعمّ فيه التعايش والتكاتف والتعاون فى مسيرة بناء الأوطان.

والعنصر الأساسى فى تحقق هذا مجتمع هو الحوار ولا غير، والنخب المثقفة هى المنارة الراشدة فى نشر ثقافة الحوار فى المجتمع.

لأن الحوار المتوازن والعادل يمنع الحروب من الاندلاع، والحوار هو نهاية كل الحروب، والبلاد المحتلة بالحرب لا يمكن أن ترى بحر الأمان أبدًا، وأن الحوار هو طريق النجاة للجميع.

وصرح الرئيس ترامب فى زمن رئاسته الأولى قبل سبع سنوات، أن الحروب فى منطقة الشرق الأوسط كلفتنا ٧ تريليونات دولار، ولم نصل إلى بحر الأمان، ونقول له: «لو بُذل عشر ما ذُكر فى مسيرة نشر ثقافة الحوار والسلام، لتخلص العالم من الإرهاب والدمار والقتل والتهجير، خاصة الإرهاب الدولى».

■ ما دور مثقفى إيران فى الوقت الحالى.. وكيف يمكن أن يفصل المثقف بين توجهاته السياسية ودوره الوطنى تجاه بلاده؟

- من يتابع الوضع الداخلى فى إيران، يلحظ بوضوح أن التيارات السياسية- أعم من المتماشية مع النظام وأكثرية المعارضة- قد اتخذت مواقف صارمة فى دعم «إيران الوطن» فى مقاومتها للكيان الصهيونى، وللاستكبار الأمريكى الذى تجاوز القوانين والأعراف الدولية، والذى سمح لنفسه بأن يُثبت أنه شرطى العالم.

■ كيف ترى مستقبل المنطقة .. وما مسئولية الفرد والمثقف فى مواجهة ما هو قادم؟

- إن مستقبل المنطقة مرهون بمدى وعى شعوبها، وبقدرة المثقفين والنخب الفكرية على أداء دورهم التاريخى فى توعية الناس، وكشف الحقائق، ومقاومة المشاريع التى تهدف إلى تفكيك المجتمعات والسيطرة على مقدراتها.

والفرد الواعى هو اللبنة الأساسية فى بناء مجتمع قادر على المقاومة الفكرية والسياسية.

أما المثقف، فعليه أن يتجاوز الصمت، ويكون صوتًا للعدل، ودرعًا للهوية، وجسرًا بين الماضى والمستقبل، عبر قراءة دقيقة للواقع، والتصدى لمحاولات طمس الذاكرة، أو تزوير التاريخ، أو استبدال القيم بالأهواء.