السبت 12 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

فاطمة وهيدى: الكتابة للأطفال ليست اختيارى بل نداء داخلى يسكننى

حرف

- «جائزة المبدع الصغير» تحوّل الأطفال إلى مبدعين وقراء

- أنجزت «سيرة حياتية» عن أول طبيبة مصرية هى الدكتورة توحيدة عبدالرحمن

- الصغير قارئ ذكى وعفوى يلمس الصدق فى النص ولا يحب التزييف أو الافتعال

- «أدب الطفل» حاضر على الخريطة الثقافية لكن يحتاج لأن يكون فى قلبها لا هامشها

يمكن وصف تجربة الكاتبة فاطمة وهيدى بنموذج الكتابة التى لا تعرف القيود، بل تتنقل برشاقة بين القصة القصيرة والقصيرة جدًا، وبين الشعر و«أدب الطفل»، لتؤكد أن الإبداع لا يمكن حبسه فى قالب واحد. 

فى ديوانها الأخير «الغاوون لا يتبعهم أحد»، تكشف فاطمة وهيدى عن قدرة لغوية وبنائية تُسائل الواقع وتعيد تشكيله بأسلوب يمتزج فيه السرد بالحس الشعرى، بينما يتضح شغفها الخاص بالأدب الموجّه لليافعين من خلال تقديمها 9 روايات تفتح نوافذ سردية لطفولة تبحث عن واقع مختلف.

ومن خلال ورش الأطفال وتجربتها الممتدة فى هذا الحقل، تبدو «فاطمة» منشغلة بسؤال جوهرى: ما موقع «أدب الطفل» على خارطة الثقافة المصرية؟ وكيف أثّرت الجوائز الثقافية، وعلى رأسها «جائزة الدولة للمبدع الصغير» فى تحريك هذا الحقل الإبداعى؟ 

فى هذا الحوار الذى خصت به «حرف»، نقترب من رؤى فاطمة وهيدى فى مجال الكتابة للطفل، ونتأمل معها خصوصيات هذا النوع الأدبى، وتحدياته، وأثره فى تشكيل وعى الأجيال المقبلة، بل وفى إعادة صياغة علاقة الكاتب بالقرّاء الصغار فى زمن يفرض تحوّلاته ووسائطه.

■ على كثرة الأجناس الإبداعية التى تنقلتِ بينها، لم تخضعى لغواية الرواية بعد.. هل فى الأمر قصدية أم سباحة ضد تيار سائد؟

- فى الحقيقة لم أتجنب كتابة الرواية أبدًا، بل كتبتُ عدة روايات لليافعين، لم يُنشر منها حتى الآن سوى رواية «١٣ درجة تحت الماء»، إلى جانب مشاركتى فى رواية جماعية بعنوان «كهنوف» مع مجموعة من الكتّاب، وهى تجربة أعتز بها كثيرًا لأنها أتاحت لى اكتشاف أفق الكتابة المشتركة. 

كما أنجزت رواية «سيرة حياتية» عن أول طبيبة مصرية، الدكتورة توحيدة عبدالرحمن، لكنها لم تُنشر لأسباب وظروف خاصة.

أؤمن بأن لكل نص موعدًا مناسبًا للظهور، وربما تأتى اللحظة التى تخرج فيها هذه الأعمال إلى النور حين تتهيأ لها الظروف التى تليق بها.

■ أكثر من ٩ أعمال لكِ فى مجال الكتابة للأطفال واليافعين.. ما الذى جذبكِ فى هذا العالم للكتابة عنه وله؟

- أظن أن الكتابة للأطفال ليست اختيارًا بقدر ما هى نداء داخلى. منذ طفولتى كانت الحكايات هى طريقتى لفهم العالم، وحين كبرت اكتشفت أن الطفل قارئ ذكى وعفوى، يلمس الصدق فى النص بسرعة، ولا يحب التزييف أو الافتعال. هذا التحدى كان ولا يزال يجذبنى: كيف أخلق عالمًا صغيرًا يمنح الطفل لحظة دهشة وسؤالًا جديدًا؟ أكتب لهم لأبقى ذلك الطفل داخلى يقظًا، ولأقول إن الحكاية قد تغيّر طريقة نظرنا للحياة ولو لوهلة.

■ فى رأيك.. لماذا لا يلقى «أدب الطفل» واليافعين الاهتمام الكافى بما يناسب دولة بحجم مصر وتعدادها؟

- لا يمكن أن نُنكر أن لمصر دورًا رياديًا قديمًا فى مجال أدب الطفل؛ من روّاد كبار أسّسوا لهذا الفن وتركوا لنا إرثًا نحاول البناء عليه. كما أن السنوات الأخيرة شهدت مبادرات جميلة ومهمة مثل «جائزة الدولة للمبدع الصغير» التى تفتح الأفق أمام الأطفال ليكونوا مبدعين وقرّاءً فى الوقت نفسه. 

ومع ذلك لا زال أدب الطفل يحتاج إلى المزيد من الرعاية والانتشار، خاصة فى ظل هذا الزخم السكانى وتنوّع الفئات العمرية والثقافية. وهناك جهود صادقة، لكنها تحتاج إلى الاستمرار والتكامل بين الكُتّاب والناشرين والمؤسسات الثقافية، حتى يصبح الكتاب للطفل جزءًا من يومه مثل أى ضرورة أخرى.

■ إلى أى مدى يغيب «أدب الطفل» عن خارطة الثقافة المصرية؟ وبماذا تفسرين الأمر؟

- أظن أن «أدب الطفل» حاضر على الخريطة الثقافية المصرية، لكنه يحتاج إلى أن يكون فى قلبها لا على هامشها. لدينا تجارب فردية مهمة وكُتّاب مخلصون لهذا اللون الأدبى، لكن ما ينقصنا هو وجود خطة واضحة وطويلة الأمد تجعل الطفل شريكًا أساسيًا فى الفعل الثقافى، وليس مجرّد متلقٍ.

أعتقد أن جزءًا من التفسير يعود إلى أن بعض المؤسسات الثقافية والإعلامية لم تُدرك بعد أن الاستثمار الحقيقى يبدأ من كتاب الطفل، وأنه حجر أساس فى بناء وعى الأجيال الجديدة.

■ كيف تقيمينه على خريطة المشهد الآن؟

- أرى أن «أدب الطفل» يشهد حالة حراك ملحوظة فى السنوات الأخيرة، بفضل جهود كتّاب ومؤسسات ومبادرات أدركت أن الاستثمار فى عقل الطفل ضرورة وليس ترفًا. صار هناك وعى أكبر بأن هذا الأدب ليس مرحلة مؤقتة بل أساس لتكوين القارئ الواعى مستقبلًا. ومع ذلك، يظل أمامنا الكثير لنحققه، خاصة على مستوى الوصول إلى القرى والأقاليم وأطفال الطبقات الأقل حظًا من الخدمات الثقافية. 

النجاح الحقيقى هو أن يكون كتاب الطفل حاضرًا فى كل بيت ومدرسة، وأن يجد كل طفل نفسه ممثَّلًا فى القصص التى يقرأها. 

الطريق بدأ، لكن استمراره يعتمد على دعم مستدام من الدولة والمؤسسات، وتفعيل مشروعات حقيقية مثل مكتبات قصور الثقافة ومكتبة الأسرة، لتصل الكلمة إلى كل طفل مهما كان مكانه أو ظروفه. 

■ هل يضع «أدب الطفل» شروطًا مغايرة عن تلك القديمة خاصة فى ظل ثورة التكنولوجيا والاتصالات؟

- بالتأكيد، قارئ اليوم مختلف تمامًا. الطفل صار أكثر انفتاحًا على العالم بفضل الشاشات والتطبيقات والألعاب، ولم يعد الكتاب وحده نافذته للمعرفة أو التسلية. لهذا صارت الكتابة للطفل تتطلب وعيًا بالتغيرات فى لغته واهتماماته وطريقة تلقيه. على سبيل المثال، الطفل الذى يلعب ألعاب الواقع الافتراضى ويشاهد الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد لن يشده كتاب خالٍ من الخيال أو الصور الجاذبة. لذلك أصبحت كتب الأطفال الآن تمزج بين النص الجيد والإخراج البصرى المبتكر، وأحيانًا تتكامل مع أنشطة أو تطبيقات مصاحبة تجعل التجربة أكثر حيوية. ومع ذلك، تبقى روح الحكاية هى الأصل، لأن النص الصادق وحده هو الذى يصمد أمام هذا الطوفان الرقمى. 

■ لماذا يُحجم الناشرون عن نشر «أدب الطفل» مقارنةً بغيره؟

- الناشرون أحيانًا ينظرون لـ«أدب الطفل» باعتباره مشروعًا مُكلفًا نسبيًا؛ فهو لا يتوقف عند جودة النص فقط، بل يحتاج إلى رسومات عالية الجودة، وإخراج فنى مميز، وتسويق ذكى للوصول إلى القارئ الصغير وذويه. 

أضف إلى ذلك أن توزيع كتب الأطفال قد يكون أكثر تحديًا، لأن هناك منافسة قوية من الوسائط الترفيهية الأخرى. ومع ذلك بدأت بعض دور النشر تدرك أن الاستثمار فى كتاب الطفل هو استثمار فى القارئ القادم، وهذا يمنحنا أملًا فى تغيير النظرة التقليدية إلى «أدب الطفل» كمجرد «كُتيّب صغير» ويجعله مشروعًا ثقافيًا وتربويًا حقيقيًا. وأظن أن دعم المؤسسات الثقافية والجهات المعنية لصناعة الكتاب المصوَّر سيمنح الناشرين دفعة أكبر للاستمرار فى هذه المغامرة الجميلة.

■ صدر لكِ رواية لليافعين بعنوان «١٣ درجة تحت الماء» ولاقت استحسانًا نقديًا واسعًا.. حدّثينا عن موضوعها وأفكارها الرئيسية وما أردتِ بثّه للقراء من خلالها.

- «١٣ درجة تحت الماء» أعتبرها تجربة أكثر من كونها مجرد مشروع أدبى؛ كتبتها بدافع ثقافى وإنسانى معًا. هذه المرحلة العمرية- من اليافعين والمراهقين- هى أخطر مرحلة فى تشكيل قيم الشباب وصورتهم عن أنفسهم.

قدّمتُ من خلال بطل الرواية نموذجًا لفتى مراهق يملك شغف البحث والاكتشاف، يغامر بخوض تجربة سفر ومسابقة عالمية بعيدًا عن علم والديه، ثم يواجه تحديات أكبر من سنّه: إقناع الأسرة، التعامل مع ثقافات ولغات متعددة، وصولًا إلى مواجهة خطر حقيقى حين يتعرّض للاختطاف.

كنتُ أريد أن أقول من خلالها إن الشباب قادرون على بناء هويتهم وتحديد مساراتهم إذا وجدوا الثقة والدعم من أسرهم. طرحتُ قضايا تلامس واقع اليافعين مثل هوس التطبيقات الإلكترونية وحلم الثراء السريع، وكيفية التفكير بطرق غير تقليدية.

كل هذا حاولت تقديمه فى إطار مشوق، دون رسائل مباشرة أو وعظ ثقيل، لأننى أؤمن بأن الأدب يمكنه غرس القيم حين يحترم عقل قارئه ويمنحه مساحة لطرح الأسئلة.

■ يغلب الطابع النسوى على مجموعتك «قلوب ضالة»؛ إلى أى مدى تنقل الكتابة النسوية صوت المرأة؟ وهل يقتصر ذلك الطابع على قضاياها؟ أم أنك ترفضين التصنيف من أصله؟

- فى رأيى، الكتابة الجيدة لا يمكن حبسها داخل تصنيفات جامدة. صحيح أن «قلوب ضالة» كتبتُ فيها عن نساء يُصارعن صمتَهنّ وهواجسهنّ وأسئلتهنّ الصعبة، لكن ما يهمّنى دائمًا هو الإنسان بكل هشاشته وقوّته، أكان امرأة أم رجلًا.

أفهم لماذا يُقال عن نصوصٍ مثل هذه إنها «نسوية» لأن المرأة هنا تتحرّر من الصور النمطية لتقول ما تخفيه غالبًا. لكنّى شخصيًا لا أرى نفسى «كاتبة نسوية» بالمعنى الحصرى؛ أرى أن كل كتابة حقيقية هى فى جوهرها صوتٌ للحياة والعدالة، ولا تُفرّق بين قضايا النساء والرجال بقدر ما تُنصت إلى معاناة الإنسان عمومًا، وتضعه تحت ضوء الأسئلة بلا خوف. فالكتابة الحقيقية أوسع من أى لافتة، وأجمل من أن تُؤطَّر فى خانة جاهزة.

■ تبدو فاطمة وهيدى شديدة الإخلاص للقصة القصيرة جدًا.. لماذا؟

- ربما لأن القصة القصيرة جدًا تشبه رعشة القلب الأولى: سريعة، خاطفة، لكنها تترك أثرًا عميقًا. فيها أجد مساحة لألتقط التفاصيل الصغيرة، وأطرح أسئلتى الكبيرة دون حاجة لحشو أو استطراد.

هى فن الاقتصاد فى اللغة والفكرة معًا، لكنها فى الوقت نفسه مساحة حرّة للتجريب والدهشة. القصة القصيرة جدًا تُشبهنى فى مزاجى الكتابى؛ تمنحنى فرصة أن أقول الكثير فى لحظة خاطفة، وأترك للقارئ متعة التأويل والفراغات البيضاء. لهذا ربما أبقى وفيّة لها، مهما تنقّلتُ بين الأجناس الأخرى. 

■ بين القصة و«أدب الطفل» والشعر.. أين تجدين نفسك أكثر؟ وهل يؤثر جنس منها فى البقية؟ وكيف؟

- أشعر بأن كل جنس أدبى هو مساحة خاصة تُخرج جانبًا مختلفًا منى، ولا أستطيع أن أفصل بينها أو أفضّل واحدة بشكل مطلق. الشعر بالنسبة لى هو صوتى الأصدق، لحظات البوح الخالص بلا حواجز ولا رتوش. القصة القصيرة هى مختبر الأسئلة والدهشة، أختبر فيها هواجسى وأتركها تتسلل للقارئ. أما الكتابة للأطفال واليافعين، فهى المساحة التى أشعر فيها بأننى أترك أثرًا يمكن أن يبقى ويكبر معهم.

■ نلتِ العديد من الجوائز والتكريمات.. ما الذى تعنيه الجوائز لكِ؟ وهل انتشارها مؤخرًا أسهم فى تشجيع الكُتّاب على خوض مجال «أدب الأطفال واليافعين»؟

- بالنسبة لى، الجوائز لحظة تقدير مهمة، لكنها لا تختصر المعنى الأعمق للكتابة. هى تذكّرنى بأن هناك من التقط ما كتبته وتأثّر به، وهذا أمر جميل، لكنه لا ينبغى أن يكون دافعًا وحيدًا للاستمرار. أكتب لأن الكتابة فى حد ذاتها مكافأة، لأنها تمنحنى حياةً إضافية.

أما عن أثر الجوائز على مشهد «أدب الأطفال واليافعين»، فأعتقد أن الجوائز المتخصصة مثل «جائزة الدولة للمبدع الصغير» أو بعض الجوائز العربية ساعدت فعلًا فى جذب الأنظار لهذا النوع من الكتابة، وأتمنى أن تواصل هذه الجوائز دورها فى تشجيع الكتّاب الشباب والأجيال الجديدة ليُقدِموا على هذه المساحة بكل جدية وإخلاص.

■ حدثينا عن ديوانك الأحدث «الغاوون لا يتبعهم أحد».

- «الغاوون لا يتبعهم أحد» هو أقرب نصوصى إلى نبض روحى الآن. هو محاولة للتصالح مع الأسئلة المعلّقة فى داخلى، والإنصات لصوتٍ خافتٍ ظلّ طويلًا يهمس ولا يُقال. فيه قصائد تقترب من فكرة النداء الفردى وسط صخب العالم، وكيف نحاول أن نصنع عزاءً صغيرًا بالكلمات حين نعجز عن تغيير الواقع. 

■ ما جديدك الإبداعى؟

- هناك دائمًا أفكار تتشكّل بهدوء، بعضها ما زال جنينًا ينتظر نضوجه. أعمل حاليًا على مشروعين؛ الأول مجموعة قصصية قصيرة أعود فيها لعوالم إنسانية شديدة البساطة لكنها تمسّ أسئلة وجودية عميقة. 

أما الثانى فهو ديوان جديد مختلف فى نبرته عن «الغاوون لا يتبعهم أحد»، يذهب نحو تأملات أكثر اتساعًا، وأجرّب فيه أساليب لغوية جديدة. بين هذا وذاك، أترك قلبى مفتوحًا لأى فكرة طازجة، لأن الكتابة فى النهاية لا تحدث وفق جدول صارم، بل حين تمنحك الحياة لحظةَ دهشةٍ تستحق أن تُكتَب.