اعترافات صاحب نوبل.. لازلو كراسناهوركاى: أنا إنسان كئيب!

- الكئيب مقاوم.. يقاوم العالم القائم على النشاط والعمل المستمر
- الشر طليق فى الشارع.. والكتابة سلاحنا الوحيد للدفاع عن أنفسنا ضده
- لا أحتاج إلى إلهام للكتابة.. وأكتب أعمالى فى رأسى قبل الورق
بعد فوزه بجائزة «نوبل» فى الأدب لعام 2025، يحتفى العالم بالكاتب المجرى لازلو كراسناهوركاى، الذى تُرجمت أعماله إلى عدة لغات، من بينها «الإنجليزية» و«العربية».
وأثار الفوز المفاجئ بـ«نوبل» الكثير من التساؤلات عن «كراسناهوركاى»: ما أسلوبه المفضل فى الكتابة؟ ما الذى يميز أعماله؟ وما الذى تحمله سيرته من محطات مفصلية؟.
وللاقتراب أكثر من إجابة هذه التساؤلات، تترجم «حرف» فى السطور التالية حوارًا عميقًا وممتدًا مع الكاتب المجرى المُتوّج بـ«نوبل»، كان قد أجراه معه الصحفى والروائى البريطانى جيمس هوبكن، ونُشر على موقع «Literature Across Frontiers».
فى الحوار الذى أُجرى قبل الفوز بالجائزة العريقة، يتحدث «كراسناهوركاى» عن مفهوم الكآبة الذى يهيمن على أعماله، وعلاقته بالشاعر الأمريكى آلن جينسبرج، وتجربته فى الكتابة بين برلين وجبال بودابست.

■ كيف أتتك فكرة عملك المشترك مع الرسّام ماكس نويمان «الوحش فى الداخل» الذى تتناوب فيه اللوحات مع النصوص؟
- كانت الفكرة أن أشاهد إحدى اللوحات بعمق ثم أكتب عمّا رأيت فيها، بعدها أقدّم النص للرسّام فيرسم هو لوحة جديدة كردّ فعل على ما كتبت، ثم أكتب أنا مرة أخرى ردًا على لوحته، وهكذا نشأ بيننا نوع من الحوار المتبادل، وخرج من هذا التفاعل شىء جديد لم نخطط له مسبقًا.
فى البداية كتبت نصًا قصيرًا مستوحى من إحدى لوحات ماكس نويمان، كانت تتناول فكرة الشرّ، ولم أستطع التحرر من تأثيرها. شعرت بأن الابتعاد عنها لن يحلّ الأمر، لأن شيئًا منها يبقى فى داخلك دائمًا، فقررت أن أكتب عنها.
راودتنى فكرة الكتابة عن «الوحش فى الداخل» فذهبت إلى «نويمان» فى اليوم التالى، وترجمت النص إلى الألمانية وقدّمته له. بدا عليه الحماس الشديد لكنه لم يقل شيئًا. وبعد أيام اتصل بى وسألنى إن كان بإمكانى الحضور إلى المرسم. عندما ذهبت، عرض علىّ نسخة جديدة من اللوحة نفسها، وكانت مذهلة. لم يكن يعرف شيئًا عن خطتى. عندها كتبت نصًا جديدًا ردًا على لوحته الثانية، واستمررنا على هذا المنوال حتى أنجزنا ١٤ لوحة و١٤ نصًا. لماذا ١٤؟ ببساطة لأن ١٣ رقم قليل، و١٥ أكثر من اللازم!

■ ما الأسئلة أو التأملات التى أثارها هذا العمل داخلك؟
- حين انتهينا واجهتنى أسئلة صعبة: هل يمكن أن نرسم الشرّ؟ هل يمكن أن نكتب عنه؟ وهل سندفع ثمن ذلك؟ وإذا كان الجواب «نعم»، فمتى؟ كانت النصوص، مثل اللوحات، قاسية ومظلمة جدًا. أدركت منذ البداية أن تمثيل الشرّ لا يمكن أن يتم إلا من الداخل، لأن النظر إليه من الخارج لا يمنحنا فهمًا حقيقيًا له. أما الانغماس فى أعماقه فأمر خطير.
حينها ظلت جملة تتردد فى رأسى، أو ربما كان هناك من يهمس بها، تقول: «عن الشرّ، يجب على الناس أن يتحدثوا». هذا النوع من الشرّ فى هيئة الوحشية يعود دائمًا عبر تاريخ البشرية. نحن نعيش أحد تلك الأزمنة. الوحش حاليًا طليق فى الشوارع، والشىء الوحيد الذى أستطيع فعله دفاعًا عن أنفسنا هو أن أكتب. فالكتابة نوع من المقاومة. لم أكتب كهذا العمل من قبل. رواياتى وقصصى الأخرى مختلفة تمامًا. «الوحش فى الداخل» هو صرخة، وهو أول تعاون لى فى حياتى وربما الأخير، لكنه كان تجربة مثيرة جدًا.

■ لكنك تعاونت مع المخرج بيلا تار فى أفلام مثل «تناغمات فيركمايستر» المأخوذ عن روايتك «كآبة المقاومة».. ما الفارق إذن؟
- هذا شىء مختلف تمامًا، لأن للفيلم مخرجًا واحدًا هو المسئول، وأنا لست كاتب السيناريو. فى هذا الفيلم تحديدًا كانت مهمتى مع بيلا تار تحديد الخلفية الفلسفية للسؤال الذى نعمل عليه. هوسه بتحويل أعمالى إلى أفلام أمر لطيف، لذا أقول لنفسى: سأحاول أن أفهم لماذا يرى أن الفيلم مهم، ثم أسأل عن نوع الفيلم الذى يريد صناعته من كتابى، وبعد فهم ذلك، أطرح السؤال الأخير: كيف أساعده؟ هدفى أن أساعد خياله الإبداعى.
فى فيلمه الأخير «The Turin Horse»، المستوحى من مقالة مبكرة لى عن يوم فى مدينة «تورينو» مع فريدريك نيتشه. كانت لدىّ فكرة مختلفة: نعرف الكثير عن «نيتشه» و«الرجل صاحب الحصان»، لكن لم يسأل أحد: ماذا حدث للحصان نفسه؟ فكتبت عن ذلك.

■ هل صحيح أن فيلم «حصان تورينو» هو تعاونك الأخير مع «تار»؟
- نعم، «حصان تورينو» آخر تعاون بينى وبين بيلا تار، بعد ٦ أفلام جمعتنا. واجهنا دائمًا صعوبات مادية وفنية، لكن القرار بإنهاء الشراكة كان سهلًا بالنسبة لى. فلم أحب عالم صناعة السينما أبدًا. من بين أعمالنا: «الرجل من لندن»، الوحيد الذى كتبت السيناريو الخاص به ولم يؤخذ عن رواياتى. لكن «بيلا» قدّمه برؤية مختلفة. هكذا انتهت تجربتنا المشتركة، بعد مسار طويل بدأ بـ«اللعنة» واختُتم بـ«حصان تورينو».
■ ألا تقدّم السينما فرصًا كافية للمقاومة؟
- فى رأيى، السينما لا تملك قوة المقاومة، فهى ليست دفاعًا عن شىء. الأفلام خفيفة وهشة أمام الشرّ والوحشية. حاولتُ مع «بيلا» الابتعاد عن السرد، لكنه يظل قيدًا لا يمكن الفكاك منه، إذ يبدو أن التحرر الكامل منه مستحيل. أما «الوحش فى الداخل» فشىء مختلف تمامًا، لا قصة له، ولا يمكن وصفه بسهولة.

■ ما رأيك فى القصة القصيرة كشكل أدبى؟
- القصة القصيرة بالنسبة لى شكل أدبى كلاسيكى، لكننى أكتبها بلغتى الخاصة، بإيقاعى وطقوسى. أُكوّن الجمل فى ذهنى أولًا، ثم أكتبها عندما أشعر بأنها نضجت. أتحرك بين لغتين: لغة غنية وجميلة، وأخرى قريبة من الكلام اليومى الذى أسمعه فى الشوارع والحانات، وأسعى لدمجهما فى توازن دقيق.

■ هل تكتب قصصك القصيرة انطلاقًا من تقليد أوروبى؟
- لا، قصصى القصيرة لا تنتمى إلى التقليد الأوروبى، بل تنبع من أسلوبى الخاص فى الكتابة، والذى يمكن اعتباره مع الوقت تقليدًا شخصيًا. كتابى الثانى، مثلًا، كان مجموعة من القصص الكلاسيكية، من بينها «القارب الأخير»، الذى تحول لاحقًا إلى فيلم.
■ فى روايتك «حرب وحرب»، التى تبدو كأنها تتنبأ بأحداث «١١ سبتمبر» وانهيار الإنسانية المشتركة يظهر أثر أفكار ميرتشا إلياده عن «الزمن المقدس» و«العودة الأبدية».. إلى أى مدى أثّر «إلياده» فى هذا العمل؟
- أعرف «إلياده» جيدًا، وكان بالنسبة لى صدمة كبيرة وخيبة أمل أكبر. كنت أظنه فيلسوفًا عميقًا وذكيًا جدًا، لكن بعد قراءة كتبه أدركت أن أفكاره سطحية رغم ثراء تجربته وحياته. كنت أبحث فى كتبه عن نقطة ارتكاز جديدة، عن طريق مختلف لفهم الأسئلة الروحية الكبرى فى حياة الإنسان، لكننى لم أجد ذلك. فى النهاية، كانت خيبة أملى فيه جزءًا من رحلة بحثى نفسها عن المعنى، وعن الروحانية التى لم أجدها لا فى أفكاره ولا فى أى طريق آخر واضح.

■ لننتقل إلى مفكر رومانى آخر، إميل سيوران، الذى يبدو أثره حاضرًا فى أعمالك أيضًا.. هل تعرف مقولته الشهيرة: «لإبقاء العقل متيقظًا، لا يوجد سوى أربعة أشياء: القهوة، المرض، الأرق، وهوس الموت»؟
- إنها نكتة رائعة، ولهذا أحب «سيوران» كثيرًا. بالنسبة لى كان دائمًا مصدرًا للفكاهة، ويمكن اعتبار أعماله مجموعة مذهلة من النكات الذكية. كان رجلًا لامعًا بحق، ورومانيًا بكل ما يعنيه ذلك من تفكير عميق ومتعدد الطبقات. أنا معجب جدًا بالأدب والفلسفة الرومانيين فى القرن الـ٢٠.
«سيوران» يتمتع بقدرة فريدة على المزج بين الكآبة والسخرية، وهو مزيج مثالى لشخص مجرى مثلى، وربما لغيرى أيضًا. عندما كنت أمرّ بأسوأ لحظاتى، كان يكفينى أن أنظر إلى عناوين كتبه، مثل «إغواء الوجود» لأبتسم. حتى عنوان كهذا فى حد ذاته نكتة ذكيه.. أنا ممتن جدًا له.
وهو يكتب أيضًا عن الكاتب بوصفه كائنًا شيطانيًا، يفرز شياطين فى كل عمل يكتبه.
نعم، للشيطان حضور قوى جدًا فى رواية «حرب وحرب». هناك عدة شياطين تؤدى أدوارًا مختلفة، أحدها مخصّص للبطل «كورين»، يخبره بأنه لا لزوم لوجوده على الأرض، وأن أفضل ما يمكنه فعله هو الانتحار، لكنه فى الوقت نفسه يقوده لمهمة أخيرة قبل موته، كما رآها فى رؤيا سابقة. أما فى المخطوطة داخل الرواية، فتظهر شياطين أخرى إلى جانب ٤ شخصيات ملائكية، وشخص يُدعى بالاسم العبرى لـ«لوسيفر». وهناك أيضًا شيطان ثالث، هو الذى «أوحى» لى بكتابة هذا الكتاب عن تجليات الشرّ المختلفة!

■ كيف تمكنت من مواجهة هذا العدد الكبير من الشياطين ووصفها؟
- لم يكن من السهل كتابة هذا الكتاب، لكنى لقيت دعمًا كبيرًا من بعض الأشخاص، وعلى رأسهم آلن جينسبرج، كان صديقى فى سنواته الأخيرة. كنت أقضى وقتًا طويلًا فى منزله بنيويورك، أثناء عملى «حرب وحرب». ساعدنى كثيرًا فى إيجاد أسلوب أدبى للتعبير عمّا أريد.
عادةً ما يحاول الفنانون عند وجودهم فى نيويورك رسم صورة فريدة ولافتة للمدينة، لكنى لم أرغب فى ذلك على الإطلاق. كنت أريد العكس تمامًا: أن أقدّم نيويورك منزوعة البريق. مجرد شوارع وأماكن عادية، مدينة محايدة تكاد تكون بلا ملامح. كنت أبحث عن صورة خالية من الزخرف والانفعال، وهذا ما جعل المهمة صعبة. تحدثنا كثيرًا عن الأسلوب الأدبى، وعن كيفية تصوير المشاعر دون الوقوع فى شغفها، وكيفية الموازنة بين الإحساس الشخصى والقوة التى تمنع التعبير عنه. تحدثنا ليالى كثيرة عن هذه المسائل.. كان حكيمًا وساعدنى كثيرًا.
■ بالحديث عن المدن الكبرى، ألا تقضى بعض وقتك فى برلين؟
- أقسّم وقتى بين برلين والجبال قرب بودابست. برلين مدينتى الثانية، مدينة صديقة وغريبة فى آن. وعندما أعود منها أحتاج إلى سكون الجبل والطبيعة الحية، فأمام منزلى الوادى والجبل، هذا الجمال الإنسانى البسيط الذى يمنحنى العزلة والسكينة التى أحتاجها.

■ هذا القرب من الجمال يساعدك فى عملك؟
- عندما أعمل تكون كل الستائر مغلقة. إذا كنت أعمل، فأنا فقط أعمل. يجب ألا أستمتع بالنظر إلى الطبيعة أو بجمال النساء مثلًا. فالعمل يحتاج فقط إلى غرفة صغيرة أو كبيرة وتركيز كامل على العمل.. لا أحتاج إلى إلهام.
■ إذن أنت تكتب أفضل أعمالك فى الوادى؟
- أنا لا أكتب فى برلين ولا فى هذا المنزل، بل فى رأسى. منذ ٦ أسابيع وأنا أكتب قصة قصيرة. عندما أكون مستعدًا تمامًا، عندها فقط أكتبها على الورق.

■ تتسم أعمالك بحضور قوى للكآبة لكنها ليست مجرد حالة تأملية أو شعور داخلى بل تبدو قوة فاعلة تدفع الحركة والفكر كما قال «سيوران»: «هناك كآبة تستطيع تحريك الجبال».. كيف ترى هذا النوع من الكآبة فى كتاباتك؟
- أنا إنسان كئيب. لازلو كراسناهوركاى بنفسه يقول لك إنه كئيب، ويعرف معنى الكآبة. فالعاشق، سواء رجلًا أو امرأة، بإمكانه القول إنه يعرف معنى الحب إن كان غارقًا فيه. لكن ماذا يمكننى أن أقول عن الكآبة؟
إنها حالة طبيعية للحياة الفكرية، لأن فى الكآبة يجد الناس سلامًا نابعًا من نوع من الحكمة والصبر. للكئيب وقت ليجلس، فقط ليجلس. الكئيب فى أوروبا يشبه إلى حد ما الرجل فى اليابان الذى يجلس فقط من أجل الجلوس. عند هذه النقطة يمكننا أن نجد صلة بين الثقافة الأوروبية والآسيوية.
فى أوروبا القديمة، مثلًا، كان البسطاء فى الأرياف، الفلاحون الفقراء الذين يعيشون وحدهم وسط الحيوانات، يمثلون تقليدًا خاصًا فى طريقة عيشهم. كانوا يملكون وقتًا لكل شىء، يعيشون بإيقاع مختلف عن عالم المدينة.
يذكر «تولستوى»، فى أحد نصوصه، أنه كان يتمشى يومًا فى أرضه، فرأى فلاحًا واقفًا لا يتحرك، فتقدّم منه ولمس كتفه، وكتب: «قبل أن ألمسه، لم يكن فى أى مكان. لم يكن خارج الزمن، بل ببساطة لم يكن موجودًا فى أى موضع محدد»! هكذا هو الفلاح، وهكذا هو الإنسان الكئيب أيضًا. الكآبة تمنحنا القدرة على الوجود الخالص، على أن نكون فقط. أن نوجد من أجل الوجود ذاته، دون رغبة أو سعى أو حتى وعى بالبقاء، بل فى حالة حضور هادئ، بلا هدف سوى أن نكون.

■ هذه الحالة من الوجود هى المقاومة القصوى؟
- نعم، فالكآبة فى حد ذاتها شكل من أشكال المقاومة، لأنها تقف فى مواجهة العالم الإنسانى القائم على النشاط والعمل المستمر. الكئيب يعترض بصمته على هذا الإيقاع، ولهذا قد يُعد وجود عدد كبير من الكئيبين خطرًا على المجتمع.
■ كيف تؤثر لغة بلد آخر على لغتك حين تكتب هناك؟
- اللغة الأخرى تبقى لغة. هم أيضًا بشر. أنا أحب جدًا أن أكون مُحاطًا بلغة مجهولة. فى بلد عربى مثلًا، هذا رائع. سأحكى لك قصة قصيرة. لا أعرف كم استغرقت، لكنى قضيت سنوات طويلة، أحاول العثور على عمارة بناها الإنسان دفاعًا ضد الشر، لهذا كنت فى الدنمارك بسبب سور إحدى المدن. فى الليل لم أستطع النوم، فكنت أستمع إلى الإذاعة الدنماركية بين الواحدة والثانية صباحًا. وجدت برنامجًا كان يقدمه أحيانًا رجل وأحيانًا امرأة، يقرآن قصائد مذهلة الجمال والحزن.
بعد أسابيع قليلة عدت إلى كوبنهاجن، إلى صديقتى، وقلت لها: لديكم برنامج أدبى رائع يُذاع بين الواحدة والثانية صباحًا! فقالت: ليس لدينا مثل هذا البرنامج. قلت: لكنى سمعته، لا بد أنه برنامج أدبى. فقالت: لا، لا يوجد. ثم قالت بهدوء، الساعة تقترب من الواحدة، من فضلك أرِنى. فوجدت المحطة على الراديو وقلت: اسمعى، فقالت: لا، هذه النشرة الجوية!