الخميس 06 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

وائل ياسين: الانتشار والموضات الأدبية «وهم».. والدهشة ضالة المبدع

وائل ياسين
وائل ياسين

- الكتابة لعبة «بناء فخاخ» بهدف توريط القارئ فى النص ليكون أحد شخوصه

- «سيرة حنان» واقعية حتى تكاد تشم تراب الشارع ورائحة عرق الأبطال

- فى الرواية لا أعرف أى جبل بنيت من الأكاذيب

- نفض الاشتباك بين الماء وما يحسبه الظمآن ذلك

- زمن الأسطورة المتعارف عليها ولى إلى غير رجعة

بين الشعر العامى، والسرد الروائى، وعوالم الترجمة، يتحرك الكاتب وائل ياسين بخفة المبدع الذى لا يعرف حدودًا لجنس أدبى، وهو ما تجلى فى روايته الأخيرة «سيرة حنان» التى أثارت اهتمامًا نقديًا واسعًا، بما تحمله من تحولات سردية جريئة، وبطلة خارجة من الهامش تتحول من «فتاة ليل» إلى صاحبة مقام روحى يحج إليه المريدون. 

ووائل ياسين مبدع متعدد الاتجاهات، فهو شاعر وروائى ومترجم وصدرت له أعمال متعددة، منها رواية «لا شىء يحدث هنا» الصادرة عن دار العين، وترجماته لرواية «المحتال وحفلته التنكرية» لهيرمان ميلفيل، و«منزل أحلام آن» للكاتبة لوسى مود مونتجمرى، و«آخر الأباطرة» لسكوت فيتزجيرالد. 

فى حواره مع «حرف»، يتحدث «ياسين» عن بطلة روايته، وعن العامية كلغة سرد وترجمة، وعن المشهد الثقافى الراهن، وتقاطعات الإبداع والتأويل.

■ ذهب بعض الآراء النقدية إلى أن روايتك «سيرة حنان» سيرة لمجتمعنا لكنك تقول إنها تروى عن المسكوت عنه.. ما القصة؟

- يظل الراوى يتحرى ثغرة ينفذ منها إلى عالم يرجوه، قد يتصور البعض فى القراءة أن الحكى عبر راو عليم، كلى المعرفة، غير أن تلك أول لعبة وأول شرك يُنصب له. الكتابة لعبة بناء الفخاخ، بهدف توريط القارئ فى النص، ليس بمنطق المتعاطف إنما كأحد شخوصه.

الراوى لا يعرف شيئًا، يدعى المعرفة كحال كل شخص يحكى فى سيرة الناس، ونحن لا نفعل المزيد، نخوض فى «سيرة حنان»- بتلك البساطة الموجعة- وبينما نفعل، نُكيف الحقائق على الهوى.

أى جبل بنينا من الأكاذيب؟ لا نعرف. ولو أننا نحاول التعرف على من اعتصم به وكيف أسس سرديته وساق الجميع إلى الحج إليه. فى طريقنا إلى ذلك نفض الاشتباك بين الماء وما يحسبه الظمآن ذلك. وما بين الصدق والكذب، السؤال والإجابة، الحقيقة والضلال، الواقع والوهم، يرجحه غلبة الظن.

■ كيف تحولت «حنان» من بائعة هوى إلى صاحبة مقام يحج إليه؟

- يبدأ النص بما يشبه الأسطورة، فى الطريق إلى صناعتها تفاجئنا بما بعد الحداثة بتقنياتها، لندرك أن زمن الأسطورة المتعارف عليها ولى إلى غير رجعة. تدخل العلم بنتائج يقينية تُوجب علينا لى حقائقه لنشرع فى العمل، بنفس طريقة عمل المخيلة الشعبية، على إثر ارتباك فكرة الحداثة وتعطل مفاهيمها، فى صنع سرديتها الخاصة، تجد «حنان» أسطورتها جاهزة للعمل عند غرفة النهر.

لم ترجع إليها بعد رحلة خاضتها فى بحر الحياة، كمصب لفائض الهشاشة الذكورية، المهزومة- وهكـذا كل رجـل باختراعاتـه المدهشـة- كأنـما جـاء كل واحـد فيهـم بجنـس جديـد، وأوضـاع وشروح و«قومــى واقعــدى» ومحــاولات لفعــل قلمــا تــراه، ودائــمًا هــى الســبب فى فشـله، والزبـون دائمـًا عـلى حـق. الرجــال يأتــون إلى هنــا ليكونــوا زبائــن، ليكونــوا دائــمًا عــلى حــق فى هــذه المسـألة ولـو لمـرة واحـدة عـلى سـبيل التغيـر، وعليهـا أن تقنـع كل واحـد فيهــم بأنــه عـلـى حــق فعــلًا كــما يقــول، أو حتــى يتمنــى وكل هــذا العــالم «ابـن الكلـب» عـلى خطـأ، هـو سـيد الرجـال، لكنـه الحـظ اللعـين الـذى يغـرف ويعطـى الأكتـع. هـى تعـرف كيـف تفعـل ذلـك، تـكاد تكـون لا تعـرف غيـره. لـو يهـدأ الرجـل علـى نفسـه قليـلًا ويكـف عـن التـسرع!

سيرة «حنان» فى الحقيقة ليست سيرة عاملة الجنس إنما هى سيرة الأنثى، نخوضها عبر تفكيك السردية الذكورية إلى عناصرها الأولية وإعادة ترتيب تلك العناصر بأشكال وحكايات شتى تأخذنا من «حنان» بنت زقردة صاحبة نصبة النشان، التى وجدها منصور الصياد بين الغاب فى حرم النهر، إلى «حنان» بنت سيدى منصور الغائب، كعادة الذكور بالغياب هربًا من عبء الذكورة كما تعرفها السردية الشعبية حصرًا، وكما لاحظت الناقدة د. رشا الفوال فى دراستها تفكيك الشخصيات المظلمة فى رواية «سيرة حنان»: «قوة الوهم؛ فالغياب يُنتج القداسة، ما دام منصور غائبًا، فهو لا يخطئ، ويمكن لكل أحد أن يضع فى غيابه ما يشاء من رموز ومعانٍ؛ ولأن الوهم أقوى من الحقيقة حتى مَن صنعوا الوهم مثل: حنان قد يصدقونه، أو على الأقل يسلمون به».

يمكنه الغياب ببساطة من ترميم أسطورته الذكورية الخاصة، بديلًا عن الوصم الذى يطال كل من حاول المجاهرة بالخروج على السردية الشعبية.

■ تمتزج الغرائبية بالواقعية فى «سيرة حنان» وسط عبثية الواقع.. هل ما زال هناك حيز للخيال والدهشة لدى المبدع؟

- الدهشة ضالة المبدع أنى وجدها، وهى بحطة يدى «الجاحظ» معان مرمية على جانبى الطريق، لكن أى سؤال يُفضى إليه؟ فوضى الواقع وعبثيته فى حقيقتها هى جبال من الإجابات، حتى وإن كانت نموذجية وصحيحة راكمتها براكين الأسئلة الخاطئة لتسد كل طريق.

لن يقدر سوى خيال المبدع وبوصلته كإنسان على فتح ثغرة فيها عبر طرحه السؤال الصحيح النابع من ضميره كإنسان، أولًا. ثم صاحب موهبة ومشروع فنى. أى شىء أكثر دهشة من اكتشاف حقيقة بسيطة، وفك تعويذتها ليراها الجميع. أو كما يحكى هانز أندرسن فى «ثوب الإمبراطور» على لسان طفل لَما رأى موكب الملك: «لكنه عارٍ!».

■ أين يبدأ الخيال وينتهى فى الرواية؟ وهل لها ملامح واقعية؟

- وأين يبدأ الخيال وينتهى الواقع أو العكس فى الدنيا وما فيها، نذهب مع الرواية: «أليــس كل شىء فى هــذا العــالم بســاحر؛ مــن أول صاحــب المقــام الــذى غــرس ســحره الأكــبر عـلـى حيــاة عينــه، حتــى رجــل الثــلاث ورقــات والبنــورة المســحورة، وتــلال الحمــص وطبلــة الأطفــال؟ أتقــول لى إن نظـرة مـن المحبـوب تبـدل روحـك فى ثانيـة فتصيـر إنسـانًا آخـر ليسـت بسـحر؟! النظـر فى وجـوه النـاس فى الزحـام، تعلـق كـف الصغـرة بذيـل الجلبـاب، لمعـة عـين الصغـير عـلى كتـف أبيـه، الوجـد يشـد أجسـاد أهله فتتمايــل يمنــة ويــسرة. أليــس الإيقــاع بســاحر؟ أليســت الربابــة ســيدة السـحر؟ وتـر واحـد يصاحـب روحـك فى رحلـة تمشـى فيهـا علـى المـاء أو تحـج بيـت الله وتعـود بينمـا أنـت واقـف مكانـك. أيمكـن لهـذا التجلـى أن يكـون، الحركـة السـهلة السلسـة فى الانتقـال مـن مقـام لمقـام، عربـة الشـيخ عاصـم الصافيـة الجليلـة ليسـت بسـحر؟ مـن سـمع ليـس كمـن رأى، ومنصـور رأى حتـى ارتـوى، وكلما ارتـوى زاد عطشـه حتـى صـار خيـالًا»، الرواية واقعية حتى لتشم تراب الشارع ورائحة عرق أبطالها، وليس فى الواقع ما هو ساحر كالحياة. ولا خيال كالحب والأمل.

■ إلى أى مدى تأثرت لغتك السردية بتجربتك فى شعر العامية؟

- أصدق فى بلاغة المصريين وأراها ملهمة وساخرة وموغلة فى العمق ونافذة فى معناها. بنت جذر ضارب فى القدم وفرع ناظر على أعتاب الحداثة وما بعدها مشدوه نصف مبتسم. لا تكف عن نحت المفردات شديدة التفرد والسحر. ثم كيف هى مكثفة فى مبناها، مقتصدة لا يشغلها سوى المعنى.

لا يكف هذا المجتمع بمختلف طوائفه عن إعمال المجاز وفقًا لتجربته فى الحياة للمشاركة فى قاموس العامية الحى الكبير. قد نجد فى جملة واحدة مفردة انتخبها السائقون وأخرى دفع بها الخبازون وغيرها شاعت بين البنائين، بل والعاطلة وغيرهم من مختلف الطوائف والطبقات. عجنها المصريون بمزاج رائق فى بنية لغوية واحدة. وصارت بنت سياق واحد، يروح للمعنى من كل صوب فى آن.

أنحاز لقاموس المصريين وما تواضعوا على استعماله غير متشكك فى بلاغته التى تكشف عن سحرها مع الاستعمال، ولا تكف عن إدهاشى. واقف أمام الجملة كمن أعاد اكتشاف النار.

ليست اللغة محايدة بحال، هى أداة وأحد موضوعات النص فى آن واحد. كل لفظة تأتى إلى فضاء النص بحمولتها المعرفية وانحيازها السابق، لتلعب دورًا اعتادت عليه، وعبر التعاطى مع هذا الدور، وعبره فقط، تُصنع الدهشة أو الألفة أو استبصار خفى، أو كشف مسكوت عنه.    

بينما نحت الشعر شخصيتى فى الكتابة، شكل نظرتى للجملة، صنع ما يشبه العداء بينى وبين الحرف الزائد والمفردة الزائدة عن المعنى. يوجب الشعر عليك وضع كل حرف فى مكانه، كما يضطرك للاستماع إلى موسيقى الجملة الداخلية وضبطها على وجدانك، بناء على معيار تسلل إليه دون أن تدركه بالضرورة.

■ أى شخصيات الرواية كانت الأصعب فى خلقها؟ وأيها استعصت على مصائرها كما شكلتها؟

- عرفت كل الشخصيات مع الكتابة، فهمتهم جملة وراء جملة، وكلما ورطتنا الحياة أكثر وعجنتنا فى نفس الحكاية توقعت تصرفاتهم، استبصرتها دون خطة مسبقة أو معرفة يقينية لأى فعل. أعرف أننا سنتحرك من ألف إلى ياء، لكن المسافة بينهما غائمة حتى على أبطالها، يستكشف كل منا مصيره مع الرحلة.

■ مَن مِن أبطالك كان الأكثر التصاقًا ومطاردة لك؟

- فرج الشاعر، وجع الكتابة وظل الجميع، والمأزق الوجودى الذى كُتب عليه كقدر، صخرة سيزيف، لا يستطيع الكتابة سوى بالتعرف على نفسه كشاعر، ولا يقدر على تعريف نفسه بهذا التوصيف فى مجتمع كالذى نحيا فيه. بلغة الرواية «ثــم مــن كــم ســنة كان هــذا الشــاعر؟ ثــم هــل كان هــذا الشــاعر فى أى وقـت؟ كان يــرص المفــردات بعضهــا جــوار بعــض. صحيــح أنــه يشــبكها بروحـه، لكـن أى معنـى وجـده بعـد ذلـك؟ مـن كثـرة مـا شـاف مـن النـاس أصبـح يرتـاب كلمـا عاملـه أحـد معاملـة البنـى آدم، يعنـى يسـلم عليـه بمحبـة، يبتسـم لرؤيتـه، شـيئًا كهـذا. كأن عطـلًا أصـاب بوصلتـه فجــأة ولم يعــد يعــرف أى الأشــياء يصــدق. صـدق الوحـدة بـكل أسـف. ولمـا دخـل، لم يجـد شـيئًا لـه قيمـة تُذكـر، غـير أوجـاع عميقـة لم يجـرؤ عـلى الكشـف عنهـا، وكلـما حـاول ارتجـف، فكتـب عـن غيرهـا، ثـم لم يحـب مـا كتبـه. «هـل كنـت هـذا الشـاعر فى أى وقــت؟».

■ بين الرواية والشعر والترجمة.. أين تجد نفسك أكثر؟

- أجد نفسى أنتج اللغة وأنحتها بمحبة غامرة، أصيغ أفكار غيرى فى الترجمة برهان مستحيل على إحداث نفس أثر النص الأصلى. وأكتب الشعر برهان مستحيل على الولوج إلى قلب المعنى، فى صورته السائلة، وأفكك الحكايات وأعيد تركيبها برهان مستحيل على التسلية، على حكاية تبقى. أجد نفسى أناغش المستحيل فى لعبة لا أرغب فى انتهائها.

■ فى رأيك لماذا اتجه العديد من الشعراء لكتابة الرواية؟

- ربما أضحت مرتبة الشعر بعيدة المنال، بالنسبة لى على الأقل، وربما لاقتناع البعض أن الرواية لغة العصر، تحظى بالنشر والجوائز. وربما هى الكتابة تعبر عن نفسها وتطل برأسها من وسيط إلى وسيط. أو الفن والإبداع واحد فى عمومه، الشعر هو الموسيقى باللغة. حضور الموهبة واحتشادها واحد والاختلاف فى الوسيط، عبر الصورة فى السينما أو الفن التشكيلى وعبر الكلمة فى الشعر والسرد، وعبر الصوت فى الموسيقى والغناء، وهكذا. ربما استدعى كل موضوع وسيطه المناسب أو كل وجدان طريقته فى التعبير عن نفسه.

■ لك العديد من التجارب فى الترجمة.. هل فكرت فى ترجمة أعمالك إلى لغات أخرى؟

- لو السؤال يقترح علىّ القيام بالأمر بنفسى، فهذا شبه مستحيل، أما أن تترجم أعمالى بمعزل عنى نتيجة لاِعتمال أثرها فى آخرين فهو حلم لا يفارقنى. لو ترجمت أعمالى لكتبت نصوصًا أخرى بالإنجليزية، فكما أوضحت اللغة ليس وسيط كتابة فحسب، ليست أداة فحسب، بل حمولة معرفية كاملة، أداة وموضوع فى آن. الكتابة بلغة أجنبية تعنى التفكير بها، لكن ترجمتها تعنى التفكير باللغة المُترجم إليها.

■ ما التحديات التى تواجهك خلال الترجمة، خاصة أنك فى الأصل مبدع؟

- الرهان المستحيل على إحداث نفس أثر النص الأصلى، وهو ما يعمل كهدف أمام عينى أقترب منه قدر إمكانى، كثير ما شعرت بالعجز أمام ألعاب كتابة وفخاخ منصوبة أردت وصولها للقارئ العربى بنفس الإيقاع، والكشف عن الدلالة بنفس ما يسمح به النص الأصلى. نفس بنفس، وهو الأمر الذى أدرك استحالته، لكن ككاتب أشعر بالأسى على الكاتب الأصلى، وأحاول تدارك الأمر فى الهامش، لذا ترجمتى دائمًا كثيرة الهوامش.

■ بالحديث عن الترجمة.. ما رأيك فى الترجمة بالعامية؟ وهل فكرت فى خوضها؟

- اللغة العامية هى لغة أدب، وتلك ليست مسألة للنقاش بعد إرث كتابها الكبار، فؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودى وغيرهم، غير أن السرد بها مسألة فى غاية الصعوبة وتحتاج إلى جهد غير عادى، تظل الفصحى مساحة يختبئ وراء جلالتها ومواربتها الكاتب، لا يجرؤ على صراحة العامية ولا فضحها الكاشف، شمسها تعمى. لن يفرق بينك وبين الناس سوى موهبتك. تحد مرعب فى حقيقة الأمر.

■ إلى أى مدى أسهمت وسائل التواصل الاجتماعى فى زيادة نسب المقروئية، خاصة مع انتشار «جروبات القراء»؟

- وجهت مسألة القراءة أكثر فى تقديرى، وأسهمت فى تشكيل تصورات تعامل معاملة اليقين بين القراء جُلها غير صحيح فى تصورى، لكن الحياة تسير للأمام وكل التجارب تصحح مسارها وتفرز مساحاتها الجادة، وجروبات القراءة تشبه سير الحياة إذ تتكئ على نفس أدواتها الجديدة، ربما نرى مجموعات تضيف للكتابة والقراءة مع نضج التجربة.

بما تصف المشهد الثقافى الراهن؟

- شديد التعقيد، غير أن الكاتب صاحب المشروع عليه ألا ينتبه لوهم الانتشار والموضات الأدبية، وطلبات الناشرين وغيره، أنا مضطر فى الحقيقة إلى التصديق أن الكتابة الجيدة ستبقى رغمًا عن الجميع، ولا أملك سوى الحلم بأن ما أكتبه سيقوى على الصمود.