الأستاذة حين تتكلم.. عواطف عبدالرحمن: أكتب رواية عن الصعيد بعيون طفلة جاءت من الجنوب
- جدى كان وفديًا ومن خلاله عرفت جريدة «المصرى»، ومن حكاياته بدأت أتعرف على ثورة 1919 وسعد زغلول وصفية زغلول ورموز الحركة الوطنية.
- اعتقلت فى سبتمبر 1981 مع مجموعة من المثقفات وقضينا 100 يوم فى المعتقل
- سألت أستاذ الجغرافيا: «لماذا يُخصص لإفريقيا صفحة ونصف فقط» فقال: «مجرد مستعمرات»
- أمى كانت تذهب إلى القاهرة وتعود إلى أسيوط مُحمّلة بالجرائد
- الانحياز لقضايا الوطن وقضايا هذا الشعب العظيم يجب أن يكون جوهر الرسالة الإعلامية فالإعلام الحقيقى هو الذى يعكس مصالح الناس وهمومهم ويعبّر عن تطلعاتهم.
- جدى كان يطلب منى جلب «الأهرام» من صندوق «البوستة» لأقرأ له العناوين
- ترقيت بسرعة استثنائية فى التعليم بفضل شيوخ المدرسة الذين امتحنونى واقتنعوا بتقدّمى
- أنهيت دراسة 3 سنوات فى عام.. وحصلت على الثانوية وأنا فى الـ16 من عمرى
فى قرية الزرابى بمحافظة أسيوط فى صعيد مصر، ولدت الدكتورة عواطف عبدالرحمن، أستاذة الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، لتبدأ حياة ملؤها الإنجاز والنجاح، وتخوض رحلة استثنائية وصلت خلالها إلى أرقى المناصب الأكاديمية والإعلامية، وتلقب بعد ذلك بأستاذة الأجيال.
ووسط بيئة ريفية صلبة، كان لها أثر بالغ فى تشكيل شخصيتها، نشأت وعاشت تجربة إنسانية فريدة مع جدتها الكفيفة التى غرست فيها قيم الصبر والعدل والتمسك بالمبادئ، لتصبح هذه القيم لاحقًا أساسًا لمسيرتها الفكرية والمهنية.
منذ طفولتها، انجذبت «عواطف» إلى عالم الصحافة عبر جرائد القاهرة التى كانت تصل إلى قريتها، فكوّنت وعيًا سياسيًا وفكريًا مبكرًا جعلها تدرك قوة الكلمة وقدرتها على التغيير، ومع مرور السنوات، اتسع شغفها ليشمل القارة الإفريقية وحركات التحرر، فكان ذلك مدخلًا لتجربة أكاديمية وصحفية ثرية أسست من خلالها مدرسة كاملة فى التفكير النقدى والمستقبلى، وكرّست جهودها لتطوير الصحافة المصرية والإفريقية.
وفى حوارها مع «حرف»، تكشف أستاذة الأجيال عن مسيرتها الممتدة، ورؤيتها لمستقبل الإعلام والصحافة الورقية، والتحولات العميقة التى يشهدها التعليم الجامعى، مؤكدة أهمية استقلالية الجامعات وتشجيع البحث العلمى بعيدًا عن الشللية والمصالح الضيقة، ومشددة على أن رسالة الإعلام الحقيقية هى الانحياز لمصالح الوطن والشعب.

■ وُلدتِ فى عام ١٩٣٩ فى قرية الزرابى بمحافظة أسيوط، وحقَّقتِ تميّزًا أكاديميًا من المراحل الأولى «الابتدائى، الإعدادى، الثانوى» فى القاهرة.. كيف أثرت عليك هذه البدايات من الصعيد إلى العاصمة فى تكوين وعيك الإعلامى؟
- قضيتُ السنوات السبع الأولى من حياتى فى قرية الزرابى بمحافظة أسيوط، وهى فترة قصيرة لكن شديدة الأثر؛ إذ قضيتها مع جدّتى الكفيفة والدادة التى كانت مسئولة عنى. كانت الدادة قاسية، بينما كانت جدّتى مثالًا للحنان والصبر، فشكّل هذا التناقض أول نموذج إنسانى أواجهه: امرأة ضريرة تدير بيتًا صعيديًا كاملًا، بما فيه من أعباء ومسئوليات، بإيمان ورضا لا يتزعزعان.
كنت أتأملها وهى تهبط السلالم المتآكلة بلا درابزين، تخطو بثبات عجيب رغم فقدان بصرها، فيما أقف وفى داخلى خوف وحيرة وأنا طفلة فى الخامسة. لم ترتجف مرة واحدة، وقد غرست فىّ تلك المشاهد ما أسميه اليوم القوة الداخلية.
تعلمت منها منظومة قيم كاملة: الصبر، الرضا، العدل، والتمسّك بالحق وعدم مجاراة الخطأ مهما كان صاحبه قويًا. كانت دائمًا تستشهد بالقرآن حين تواجه موقفًا أو خطأ داخل البيت، وتقول: «ربنا قال كذا» فتربط السلوك بالمبدأ.
ورغم فقدانها البصر، كانت تتمتع بوعى عميق بالتنوع الإنسانى؛ كانت تدرك أنّ داخل البيت الواحد يوجد الصالح والطالح، وأن التعامل مع البشر يحتاج صبرًا وعدلًا لا يخرج عن الإطار الأخلاقى أو التعاليم الدينية.
تعلمت القرآن على يد الشيخ خالد، وكان يزورنا مرتين أسبوعيًا. هو من علّمها التلاوة، وكانت قد ختمت القرآن مرات عديدة. كان وجوده فى البيت جزءًا من المشهد اليومى، يقرأ لنا بعد العصر آيات قليلة بصوت رخيم، وكانت تستشيره فى كل ما يخص حالتها النفسية أو همومها.
ومن جدّتى اكتسبت أيضًا أهمية احترام الكبير، وفضيلة الكرم رغم محدودية الإمكانات؛ فبيتُنا كان مفتوحًا دائمًا، والطعام حاضرًا مهما كانت الظروف. كانت تقول لى: «عيشى على قد ما ربنا يديكى، عشرة ولا ألف، المهم الرضا».
كبرتُ على وعى مبكر بالفوارق الطبقية داخل العائلة نفسها؛ فبينما كان بيتنا أفضل حالًا من بيوت أقاربى من حيث الطعام والملبس والبناء، كنت أستغرب هذه الفوارق وأبحث عن تفسير لها. لم أقتنع يومًا بإجابات جدّتى الدينية وحدها، ولم أفهم الأسباب بوضوح إلا حين قرأت لاحقًا كتاب «أصل العائلة» لفريدريك إنجلز، الذى كشف لى عن البعدين الاقتصادى والاجتماعى لتكوين الأسرة. ومن هنا بدأت رحلتى نحو الفكر الاشتراكى، الذى دخلته من الباب الاجتماعى لا السياسى.
أما وعيى الإعلامى فقد نشأ مبكرًا أيضًا. كانت أمى تذهب إلى القاهرة وتعود إلى أسيوط محمّلة بالجرائد. وكان جدى يطلب منى جلب «الأهرام» من صندوق البوستة لأقرأ له العناوين. ومن هنا التصق اسمى بالأهرام، وأصبح هذا الجورنال جزءًا من تاريخى الشخصى.
جدى كان وفديًا، ومن خلاله عرفت جريدة «المصرى» أيضًا. ومن حكاياته بدأت أتعرف على ثورة ١٩١٩ وسعد زغلول وصفية زغلول ورموز الحركة الوطنية، فأصبحت الصحافة نافذتى إلى العالم.
وحين انتقلنا إلى القاهرة تغيّرت حياتى التعليمية. رفضت المدارس قبولى؛ لأن عمرى كان سبع سنوات، لكن أمى أصرت على أن التحق بالروضة، ثم ترقيت بسرعة استثنائية بفضل شيوخ المدرسة الذين امتحنونى واقتنعوا بتقدّمى. فى عام واحد أنهيت ثلاث سنوات، وحصلت على الشهادة الثانوية وأنا فى السادسة عشرة، ونلت جوائز عدة، منها خمسة جنيهات وقلم «باركر» وشنطة مدرسية.
■ فى مرحلة دراستك الجامعية بكلية الآداب جامعة القاهرة تخصصتِ فى الدراسات الإفريقية، ثم حصلتِ على الماجستير فى صحافة الثورة الجزائرية عام ١٩٦٨.. ما الذى جذبك إلى الصحافة الإفريقية والثورات الإفريقية تحديدًا؟ وكيف أثَّرت هذه الدراسة فى رؤيتك الإعلامية؟
- التحقت بكلية الآداب قسم الصحافة، وكانت لى علاقة قوية بأساتذة كبار فى الصحافة والاجتماع واللغة الإنجليزية والتاريخ. كنت أحضر محاضرات التاريخ التى كان يلقيها الدكتور محمد أنيس، وتأثرت به لما قدمه من رؤية مختلفة لتاريخ مصر.
حين تدرّبت فى الأهرام، كنا مجموعة طلاب، وبعضنا ذهب إلى «الأخبار»، وكان يدرس لنا كبار الكتّاب مثل مصطفى أمين. وتدربت على الأخبار، والتحقيقات، والتغطيات، على يد أساتذة من كليات الطب والحقوق.
انتقلتُ لاحقًا للعمل فى الأهرام رسميًا، ورغم تعيينى بمرتب كبير نسبيًا «خمسة عشر جنيهًا»، واجهت صدمة شخصية حين تزوجت واضطررت للاستقالة بسبب قواعد العمل وقتها. جلستُ فى المنزل خمس سنوات، ثم عدت للصحافة عبر مسارات أخرى، بينها صحافة الثورة الجزائرية.
ويعود ارتباطى بإفريقيا مبكرًا جدًا، قبل الجامعة بسنوات طويلة. فى بيت خالى فى القاهرة كان يعيش معنا رجل يُدعى عم عبدالكريم، جاء من جذور إفريقية بعيدة، وكان يروى لنا- أطفال البيت- قصصًا عن إفريقيا، وعن القبائل، وعن تجارة العبيد التى كانت فى أسيوط سوق لها تنعقد مرتين فى العام. هذه الحكايات زرعت داخلى شغفًا بالقارة قبل أن أفهم معناها الجغرافى والسياسى.
وعندما التحقت بقسم الصحافة، فوجئت بأن كل مقررات الجغرافيا السياسية تقريبًا تتحدث عن أوروبا وأمريكا، بينما لا يُخصص لإفريقيا سوى صفحة ونصف! سألت أستاذ الجغرافيا وقتها، فكان جوابه يعكس نظرة استعمارية وعنصرية شائعة فى تلك السنوات: «ما القيمة؟ إنها مجرد مستعمرات». هذا الرد استفزنى بشدة، وربما كان اللحظة المفصلية التى دفعتنى إلى اختيار إفريقيا كاختصاص أكاديمى.
فى السنة الرابعة، بينما اتجه جميع زملائى إلى الدبلومات التقليدية، اخترت وحدى التقدم لتمهيدى الماجستير فى الدراسات الإفريقية. كان هذا القرار غريبًا فى وقت لم تكن فيه إفريقيا مجالًا دراسيًا جاذبًا. لكنى كنت مدفوعة بمزيج من العاطفة والمعرفة، عاطفة تغذت من قصص عم عبدالكريم، ومعرفة بدأت تتشكل بإدراك الظلم والاستعمار والتاريخ المنسى للقارة.
ثم جاء اختيارى للبحث فى صحافة الثورة الجزائرية عام ١٩٦٨؛ فقد كانت الثورة الجزائرية نموذجًا ملهمًا لحركات التحرر الوطنى فى إفريقيا والعالم العربى. دراسة إعلام تلك الثورة فتحت أمامى رؤية جديدة لدور الصحافة فى تحرير الشعوب، وكيف يمكن للكلمة أن تكون سلاحًا.
هذه الدراسة كانت لحظة نضج مهنى وفكرى؛ فقد علمتنى أن الإعلام ليس مجرد نقل أخبار، بل وعىٌ سياسى وتاريخى، وأن الصحفى يجب أن يمتلك حسًا نقديًا تجاه القوة- أيًا كانت- وأن يكون منحازًا لمن لا صوت لهم.
ومن هنا، صار ارتباطى بالقارة الإفريقية ارتباطًا فكريًا وإنسانيًا، لا مجرد موضوع دراسى. إفريقيا بالنسبة لى قضية ورسالة وأصل انتماء.

■ تدرّجتِ فى العمل الصحفى فى الصحف والمجلات، مثل جريدة «الأهرام» ومجلة «السياسة الدولية»، وأجريتِ أكثر من ٥٠ حوارًا مع سفراء العالم الثالث.. من بين هذه اللقاءات، هل هناك حوار تذكرينه على نحو خاص؟ وماذا تعلمتِ منه؟
- بدأت تجربتى المهنية فى الأهرام بداية صعبة للغاية. قضيت أربع سنوات فى قسم الأخبار، ثم تزوجت من رئيس القسم ممدوح طه. هذا الزواج أدى إلى أزمة داخل المؤسسة؛ إذ كان نظام العمل صارمًا فى ذلك الوقت بقيادة محمد حسنين هيكل لا يسمح باستمرار العلاقة داخل العمل. فقيل لى بوضوح: إما أن تتركى العمل أو تتركى الزواج. وكان القرار قاسيًا، لكنى قدّمت استقالتى وجلست فى البيت خمس سنوات كاملة.
■ لم أستطع الاستمرار بلا عمل، فبدأت رسالتى للماجستير عام ١٩٦٦، وقتها أخبرنى زوجى بوجود احتفال كبير تنظمه الجزائر ويحضره الرئيس جمال عبدالناصر، وكان ممدوح طه من أوائل المدعوين. رافقته وهناك التقيت بالسفير الجزائرى الأخضر الإبراهيمى، ثم جاء لطف كبير من القيادة الجزائرية حين قالوا لممدوح: زوجتك كانت تريد إعداد موضوع عن الجزائر، فلِمَ لا نساعدها؟
وبالفعل، دعونى للقاء الرئيس عبدالناصر، الذى استقبلنى ببساطة وودّ، ثم وجّهنى الأخضر الإبراهيمى إلى المسئولين للإعداد للموضوع. بعدها بأسبوع، وصلتنى كل الوثائق التى أحتاجها، وسافرت إلى الجزائر، حيث كان ابنى هشام لا يزال فى عامه الثانى. هذه التجربة كانت نقطة تحول ضخمة فى مسيرتى، فتحت لى أبواب صحافة حركات التحرّر، وأشعلت اهتمامى بالكتابة عن إفريقيا.
من هنا بدأت رحلتى: أنجزت الماجستير، ثم توالت الكتابات حول القارة، وشهدت احتفالات معظم سفارات إفريقيا الخاصة بالاستقلال، منها سفارات زيمبابوى وناميبيا وكينيا وموزمبيق؛ وغيرها، كما كنت أرافق القيادات الإفريقية التى كانت مصر تحتضنها فى الجمعية الإفريقية بشارع حسين حجازى.
أما أهم مراحل عملى فكانت فى الأهرام تحت رئاسة الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالى، الرجل الذى تعلمت منه الكثير فى الإدارة وفهم القضايا العالمية، كان يملك قدرة مذهلة على توظيف مهارات كل صحفى فى المكان الأنسب له. قال لى يومًا: «أنتِ قادرة على بناء علاقات قوية مع إفريقيا.. أنتِ ستتولين ملف سفراء دول الجنوب».
كانت الدول الكبرى- أوروبا وأمريكا- تحظى باهتمام واسع داخل المؤسسة، بينما كانت دول الجنوب مهمشة. فجاء القرار ليعيد التوازن. خلال ثلاث سنوات فقط أجريت نحو ٥٠ حوارًا مع سفراء من الصين وكينيا والهند ودول لم تكن قد نالت استقلالها بعد، مثل جنوب إفريقيا. هذه التجربة صنعت خبرتى الحقيقية: لغويًا، وثقافيًا، ومهنيًا، وفى إدارة الحوارات.
وبالتوازى، كنت أعد ملفات شهرية فى السياسة الدولية، وهى دراسات مترجمة موسعة أضافت لى الكثير كباحثة، وأعطتنى فهمًا أعمق للعلاقات الدولية. لكن بعد فترة شعرت بأننى بلغت سقف ما يمكن أن أقدمه فى الصحافة، فبدأت أبحث عن أفق جديد يقودنى إلى الجامعة، أجريت تحقيقًا موسعًا حول فكرة إنشاء معهد قومى للإعلام- وكان حلمًا بعيدًا وقتها- لكن النقاشات التى أثارها التحقيق دفعت الأمور للأمام. وحين تأسس المعهد، تقدمت للعمل فيه، ثم انتقلت بعدها إلى كلية الإعلام.
استقلت من الأهرام، وبدأت رحلة جديدة مع التدريس الجامعى. كان التعليم عالمًا آخر تمامًا ركّزت فيه على علاقتى بالطلاب، وعلى نقل الخبرة المهنية لهم. طوال عملى فى الصحافة كنت دائمًا أتساءل: كيف يستقبل القارئ ما أكتب؟ أما فى الجامعة، فكان أمامى الطالب نفسه، أرى تفاعله مباشرة، وأشاهد تطوره، وهذا ما منحنى شعورًا مختلفًا تمامًا بالقيمة والتأثير.

■على مدار رحلتك الطويلة فى تدريس الصحافة والإعلام، ما أبرز التحولات التى شهدها التعليم الإعلامى فى مصر والعالم العربى؟
- شهدت كلية الإعلام- فى مصر كما فى غيرها- تحوّلات كبيرة عبر العقود. فرغم إنشاء أقسام جديدة مثل الإذاعة والتليفزيون والعلاقات العامة، بقى قسم الصحافة هو الأصل والأقدم، وهو الذى أسّس الكلية وخرّج أساتذتها. ولهذا كان التقسيم الأكاديمى دائمًا يميل لصالحه.
بدأت رحلتى بعد حصولى على الدكتوراه، وكانت رسالتى تحت إشراف الدكتور محمد أنيس، وبمشاركة الدكتور إبراهيم إمام، والدكتور عبدالملك عودة. ورغم ما واجهته جامعة القاهرة وقتها من اضطرابات- مثل أزمة فصل الدكتور إبراهيم إمام- إلا أن مناقشة رسالتى فيما بعد كانت من أجمل التجارب الأكاديمية فى حياتى.
كنت ضمن أوائل الدفعات التى شاركت فى إصدار جريدة «صوت الجامعة»، وكنّا نتلقى تدريبًا صحفيًا حقيقيًا فى المؤسسات الكبرى، مثل «أخبار اليوم» و«الجمهورية». فى تلك الفترة كان الاهتمام الأكبر بالقضية الفلسطينية، وهو ما جعلنى أختار موضوع رسالتى: «الصحافة المصرية والقضية الفلسطينية».
حدثت لاحقًا أزمة بين المشرفين على الرسالة، إذ حاول الدكتور التهامى نقل الإشراف إلى أحد أساتذة قسمه. لكنها كانت لحظة فاصلة بالنسبة لى؛ رفضت التخلّى عن أستاذى إبراهيم إمام مهما كان الثمن، وتمسكت بمبدئى رغم أن ذلك كان قد يؤدى إلى إلغاء الرسالة بالكامل. وبعد فترة عاد الدكتور أنيس واتصل بى ليبلغنى أنه راجع موقفه تمامًا، وقال لى: «تمسّكك بمبدأك كان درسًا لنا جميعًا».
■ كيف وجدت التدريس الجامعى؟
- دخلت التدريس الجامعى وأنا محمّلة بخبرة مهنية قوية، ومع الوقت أدركت الدور الإنسانى الذى يلعبه المدرّج. فقد مررت بأزمة شخصية كبيرة عندما انتزع القضاء ابنى منى، لكن دعم الطلاب غير المقصود كان سندًا إنسانيًا هائلًا أعاد إلىّ القدرة على الاستمرار.
ومع ازدياد انخراطى فى العمل العام، وخصوصًا بعد اتفاقية كامب ديفيد، كنت أحرص على تحويل المحاضرات إلى مساحة تفكير نقدى. أتذكر مناظرة مهمة أجريتها مع الطلاب حول الاتفاقية، حين انضم الجميع للفريق المعارض، فاضطررت أن أقود الفريق المؤيد لأجبرهم على رؤية الصورة كاملة. كانت مناظرة لا تُنسى حتى اليوم.
لاحقًا جاءت أحداث سبتمبر ١٩٨١، وتم اعتقالى مع مجموعة من المثقفات مثل الدكتورة أمينة رشيد، والدكتورة نوال السعداوى، وصافيناز كاظم.

■ كيف تم القبض عليك؟
- كنت عائدة من مؤتمر دولى فى أوروبا، وكان بإمكانى البقاء هناك، لكننى فضّلت العودة لبلدى.
قضينا مئة يوم فى المعتقل، وكانت تجربة قاسية لكنها ثرية. حولنا العنبر إلى ورشة حياة: ننظم الوقت، نزرع نباتات صغيرة، ونقيم ندوات داخلية، حتى أصبحت التجربة- رغم قسوتها- درسًا عميقًا فى معنى الحرية والالتزام.
كانت والدتى تزورنى كل يوم إثنين، وتجلب طعامًا يكفى جميع السجينات. ومع الوقت سمحوا بدخول الصحف، وبدأت أقرأ ما يُكتب عنّا، فاكتشفت حجم التضامن الخارجى.
بعد الإفراج، عدت إلى الجامعة أكثر قوة ونضجًا. واستكملت مشوارى الأكاديمى وقدّمت أول رسالة فى الإعلام داخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو ما فتح بابًا جديدًا للدراسات الإعلامية فى ذلك الوقت.
■ من بين مؤلفاتك المتعددة فى الإعلام العربى والمرأة والمستقبل، ما الكتاب الذى تعتبرينه الأقرب إلى قلبك؟ ولماذا؟
- الحقيقة أن علاقتى بالمجال الأكاديمى لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت مشروعًا تبنيناه فكريًا وبحثيًا. فقد تبنيت «النظرية النقدية» وهى عنوان كتاب من كُتبى، وأسست مدرسة بحثية كاملة فى التفكير النقدى داخل كلية الإعلام. هذا الاتجاه الفكرى كان بالنسبة لى جوهريًا، لأنه يعيد للعلم دوره الحقيقى: دور النقد والمقاومة- مقاومة الفساد، ومقاومة التبعية، ومقاومة الجمود الأكاديمى.
أيضًا؛ من الكتب التى أعتز بها أيضًا غير النظرية النقدية كتاب «بوابات التفكير فى المستقبل»، فقد فتح لى هذا العمل الباب واسعًا على مجال المستقبليات. وأصبحتُ بالفعل مشرفة على هذا التخصص، وسعدت بأن الجامعة وافقت أخيرًا على تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية فى كلية الإعلام. وأتوقع أن يكمل هذا المشروع طريقه بعدى، لأن التفكير المستقبلى هو مستقبل العلم نفسه.
لقد أدّى الجمود عند «النظرية الوظيفية»- التى توظّف العلم لخدمة السلطة التنفيذية- إلى تخلف كبير فى البحث العلمى. العلم الحقيقى يجب أن يكون محرّكًا للتغيير، والتغيير يبدأ بالتفكير النقدى، والتفكير النقدى هو المدخل الطبيعى للتفكير المستقبلى.
أنا محظوظة بفريق من الباحثين الشباب، عددهم ليس كبيرًا، لكنه فريق نوعى ومتميز، وقادر على الاستمرار. أهم ما نعمل عليه هو تغيير العقلية الجامعية، لتصبح عقلية تحليلية نقدية، قادرة على إنتاج معرفة تُسهم فى نهضة الوطن.
أما كتاب «القضية الفلسطينية» فقد كانت القضية وما زالت محورًا رئيسيًا فى عملى الأكاديمى. فهى قضية مركزية، وعلى أساسها يتحدد مستقبل الوجود العربى: نكون أو لا نكون.
كتبت عنها فى رسالة الدكتوراه، وتناولت دور مصر التاريخى فى دعمها، وتوسع اهتمامى إلى دراسة المشروع الصهيونى فى مصر، وتوثيق دور اليهود والصهاينة منذ عهد محمد على وحتى ٢٠١٧. وما زال طلابى يسيرون على نفس الدرب؛ فمدرستنا البحثية تضع فلسطين فى القلب، باعتبارها معيار الوعى العربى.
وكذلك كتابى عن «الصحافة الصهيونية منذ محمد على وحتى عام ٢٠١٧»، وكتبى فى مواجهة الهيمنة الأمريكية، وفى الدفاع عن القضايا العادلة- من رفض اتفاقية كامب ديفيد، ورفض اتفاق أوسلو، والتأكيد على الحقوق التاريخية- أواصل العمل أنا وفريقى رغم كل الضغوط ومحاولات التهميش. لكننا نؤمن بأن هذا الطريق هو طريق الحق.. وطريق النور.

■ كيف ترين مستقبل الصحافة الورقية فى ظل صعود المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعى؟
- أنا أرى أن الحديث عن غياب مستقبل الصحافة الورقية فيه قدر كبير من التسرّع. صحيح أن الصحافة الورقية تعانى اليوم أزمة حقيقية بسبب التطورات التكنولوجية المتسارعة، لكن ما نمرّ به هو مرحلة انتقالية لا أكثر. فالصحافة الورقية ستستعيد دورها، ولكن من خلال الصحافة المتخصصة ومواد الرأى، وهى جوانب لا يمكن للإعلام الإلكترونى أن يملأ فراغها.
فالصحيفة والكتاب سيظلان- فى رأيى- الأداتين الأساسيتين للتنوير وتشكيل الرؤية وترسيخ الموقف الفكرى، بينما يظل الإعلام الإلكترونى أكثر ملاءمة للأخبار السريعة والترفيه والمواد الخفيفة. وحتى الدراما والمسلسلات، لا يُنتجها الإعلام الإلكترونى بحدّ ذاته، بل يكتفى بعرضها أو الترويج لها.
أما الذكاء الاصطناعى، فهو مجرد أداة فى يد من يستخدمه. يمكن توظيفه بشكل إيجابى لتطوير الأداء الصحفى، وللمساعدة فى تدريب الصحفيين وتحسين مهاراتهم، لكنه لا يصنع صحافة ولا يصنع فكرًا. ولذلك فإننى أؤكد دائمًا أن تأهيل الصحفيين يجب أن يقوم على مستويين: التدريب المهنى لصقل مهاراتهم العملية، والتثقيف المعرفى لبناء صحفيين مفكرين وقادة رأى، قادرين على التحليل والفهم وصناعة الموقف. وهذا هو الدور الذى أطالب به وأراه ضروريًا لمستقبل المهنة.
■ وماذا عن مستقبل التعليم الجامعى؟
- التعليم الجامعى فى مصر واجه، للأسف، العديد من المطبات بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١. قمنا بمجهود غير عادى لإعادة انتخابات القيادات الجامعية، وتمت بالفعل إعادة الانتخابات لمرة ثانية، وشهدت العملية انتخاب قيادات جامعية، آخرهم الدكتور جابر جاد نصار، قبل أن يُلغى النظام وتعود طريقة التعيين مرة أخرى، أرى أن المركزية المطلقة فى اختيار القيادات الجامعية وحرمان أعضاء هيئة التدريس من حقهم فى اختيار قياداتهم تُعدّ من أبرز المشكلات المستمرة.
كما أن تدخل الجهات السيادية فى الشئون الأكاديمية كان له تأثير سلبى كبير على العملية التعليمية والبحثية. فالتأخر فى البحث العلمى ليس مجرد نتيجة لضعف الميزانيات، بل يعود إلى المناخ الجامعى المقيّد، حيث كانت المجاملات والشللية تتفوق على قيم البحث العلمى، مما أعاق تشجيع الباحثين المتميزين القادرين على تقديم أبحاث رصينة، خاصة أن البحث الجيد كان يُقيّم أحيانًا على أسس سياسية.
أما الحركة الطلابية، فقد كانت سابقًا قوية ومؤثرة، لكن اليوم تراجعت بشكل كبير. فى السابق كونت ثلاث أسر طلابية بارزة، وهى: «جماعة ٢١ فبراير» فى أيام السادات، و«جماعة رفاعة الطهطاوى»، و«جماعة النديم»، وكنا نقيم ندوات عن القضية الفلسطينية، والتنمية، والديمقراطية، بالإضافة إلى مجلات حائط ونشاطات أسرية ورحلات ثقافية. اليوم اختفت الأسر تمامًا، واختفى النشاط الثقافى، وأصبح الانضمام نشاطًا فرديًا، وهو ما أعتبره كارثة حقيقية على الشباب الجامعى.
أيضًا، تدخل رأس المال من خارج الجامعة أثر سلبًا على العملية الأكاديمية، وأدى إلى ترسيخ قيم الشللية والواسطات والمصالح على حساب البحث العلمى، حتى فى منح الدرجات العلمية والامتيازات والشرف، وهكذا بدأ الميراث الذى ورثناه من أساتذتنا الرواد يتلاشى، وأصبح المهيمن تراث جديد يقوم على المصالح الشخصية وليس على العلم والبحث.
لذلك، أرى أن مستقبل التعليم الجامعى لا يمكن أن يبشر بأى إيجابيات فى ظل هذا المناخ، ولا بد من إصلاح جذرى يشمل: اختيار القيادات الجامعية بالانتخاب، ووضع ميزانية مناسبة للبحث العلمى ومرتبات لائقة للأساتذة، وإلغاء ما يُعرف بـ«التعليم المفتوح»، الذى كان بمثابة باب خلفى أفسد التعليم الجامعى إلى حد كبير.
هذه الإصلاحات ضرورية لاستعادة قيم الجامعة الأصيلة وضمان التعليم الجامعى الجاد والمستدام.

■ بالنظر إلى كل هذا التاريخ من العطاء الأكاديمى والصحفى، لو طلبتِ منك اليومِ أن تصفى رسالتك فى الإعلام بكلمة أو جملة واحدة، ماذا ستكون تلك الكلمة أو الجملة؟ ولو طلبنا منك تلخيص فلسفتك فى الإعلام فى جملة واحدة، ماذا ستكون؟
- الانحياز لقضايا الوطن وقضايا هذا الشعب العظيم يجب أن يكون جوهر الرسالة الإعلامية. فالإعلام الحقيقى هو الذى يعكس مصالح الناس وهمومهم ويعبّر عن تطلعاتهم. لكن المشكلة تظهر عندما يتحوّل الإعلام إلى أداة فى يد من يملك السلطة الاقتصادية أو السياسية.
فإذا كانت هذه السلطة منحازة لمصالح الجماهير وقضاياهم، يصبح الإعلام معبّرًا عن المجتمع، وداعمًا للتغيير الإيجابى، ومساهمًا فى تطوير الواقع. أمّا إذا كانت السلطة خاضعة لمصالح ضيّقة أو شخصية للمتنفذين فى مجالات الاقتصاد والسياسة، فإن الإعلام يتحول حينها إلى أداة تضليل، ووسيلة لإخفاء الحقائق، بل وقد يقود إلى الانحراف وتشويه الوعى العام.
■ ما مؤلفاتك الجديدة؟
- أحدث كتبى وصدر مؤخرًا يدور حول جامعة القاهرة وواقعها الراهن، إلى جانب عدد من المؤلفات الأخرى فى مجال المستقبليات أخطط لصدورها الفترة المقبلة، منها ما يتناول مستقبل الصراع العربى- الإسرائيلى، إضافة إلى دراسات معمّقة حول مستقبل إفريقيا والإعلام الإفريقى؛ وهى الموضوعات التى أواصل العمل عليها بكثافة.
أما فى مجال الرواية، فقد بدأت بالفعل مشروعًا روائيًا، لكنه يتقدّم ببطء شديد بسبب انشغالى الدائم بالعمل الأكاديمى. ومع ذلك أتمنى فى الفترة المقبلة- إذا سمحت لى الصحة والوقت- أن أتمكن من استكماله. الرواية تدور حول واقع الصعيد كما رأيته بعيون طفلة جاءت من عمق الجنوب، وسجّلت من خلال تلك الذاكرة الكثير من التفاصيل والتجارب. ما زال العمل يحتاج جهدًا ووقتًا، لكننى أطمح أن يكتمل قريبًا إن شاء الله.







