أسئلة المستقبل.. الثقافة
متى تبدأ «الصحوة الثقافية»؟
فى عام 1938م، وفى خضم صراع مصر من أجل هويتها، أطلق عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين رؤيته التنويرية فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر». لم يكن الكتاب مجرد خطة إصلاح تعليمى، بل كان بيانًا ثقافيًا وسياسيًا يهدف إلى تأسيس عقلية وطنية متحررة. لقد قام طه حسين على دحض تفوق العقلية الأوروبية، مؤكدًا الإرث الحضارى المصرى، وشدد على مبدأ ديمقراطية التعليم.
تتلخص رسالته فى مبدأ محورى لا يزال صداه يتردد حتى اليوم، حيث أكد طه حسين بوضوح أن: «التعليم الإلزامى ركن من أركان الحياة الديمقراطية الصحيحة»، وشدد على دور الدولة بالإشراف عليه وتوفيره للجميع. وكان من المبادئ المهمة لطه حسين فى هذا السياق هو قوله إن الفقر والغنى يجب ألا يكون لهما أثر فى تحقيق العدل والمساواة فى فرص التعليم. بالنسبة له، كان التعليم هو القوة الصانعة للوحدة الوطنية والتقدم، وهو الأساس الذى يُبنى عليه أى طموح مستقبلى للدولة.
بعد مرور ما يقارب القرن على هذا النداء، يفرض التساؤل نفسه: هل حققت مصر رؤية طه حسين؟ وما الذى يجب أن نكرره اليوم؟
لقد نجحت مصر فى تحقيق انتشار واسع للتعليم الأساسى، محققةً بذلك جزءًا مهمًا من مفهوم «التعليم الإلزامى». إلا أن جوهر رسالة طه حسين فى «مستقبل الثقافة فى مصر»، المتعلق بالعدالة فى الجودة وتكافؤ الفرص، لا يزال يتطلب تفعيلًا أعمق. فالفوارق الشاسعة اليوم بين مستويات المؤسسات التعليمية المختلفة، تعيد إنتاج التمايزات الطبقية التى حذر منها الأديب مبكرًا، وتجعل مفهوم المساواة عرضة للتهديد.
إننا بحاجة اليوم إلى استدعاء مطالب طه حسين، مؤكدين أن جودة التعليم حق دستورى يجب ألا يفرق بين غنى وفقير. كما يجب العمل على صقل العقلية المصرية بالقدرة النقدية والإبداعية اللازمة لمواجهة تحديات العصر، بدلًا من تركها للإهمال أو الاكتفاء بالحد الأدنى من المعرفة. وفى هذا السياق، تدرك الدولة أهمية الأمر، وتقوم بالفعل بخطوات جادة نحو تحقيق هذه الرؤية الطموحة، ولكن يبقى التحدى الأكبر والحاجة الملحة هى توفير وتدريب الكوادر البشرية المؤهلة التى ستقود عملية التنفيذ الفعّال لهذه الإصلاحات على أرض الواقع.
فلا يمكن لبلد طموح أن يقود حركته الثقافية والإصلاحية دون هذا الجيل المدرَّب، والذى يشكل فى جوهره الأساس العقلى القوى الذى طمح إليه طه حسين، وهو ما يمكّن مصر من ترجمة إرثها الضخم إلى قوة ناعمة عالمية. ونرى اليوم بوادر نشاط حقيقى تكللت بنجاحات دولية فى ملف التراث، لعل أبرزها فوز الدكتور خالد العنانى بمنصب المدير العام لهذا الصرح الثقافى الكبير «يونسكو». إن هذا الإنجاز لا يمكن النظر إليه باعتباره إنجازًا فرديًا، بل هو نتاج دعم الدولة التى تضع ملف التراث والثقافة فى مقدمة أولوياتها، وهو ما يمنحنا شعورًا بالصحوة الوطنية فى هذا القطاع.
ولعل الأهم فى هذه المرحلة هو الالتفات إلى كنوزنا من التراث الثقافى غير المادى، الذى يشمل الحرف اليدوية، والقصص الشفوية، والموسيقى الشعبية، وفنون الأداء التقليدية.. إلخ. هذا التراث هو الروح الحية التى تثبت هوية الأمة وتجددها، وهو ما يجب أن ندرجه ضمن أولوياتنا فى التوثيق والحماية والتوريث للأجيال الجديدة، بالتعاون مع آليات يونسكو. إن الحفاظ على صناعة النسيج اليدوى أو تقاليد المطبخ المصرى الأصيل لا يقل أهمية عن ترميم الآثار، بل هو تعزيز حى لـ«العقلية المصرية» التى نادى بها طه حسين كدليل على التفوق الحضارى.
هذه الصحوة تجاه التراث والثقافة تلزمنا أن نراجع جميع نقاط قوتنا وأركان هذا الكيان الضخم، وأن نصلح ما يحتاج إصلاحه ونستبدل ما يحتاج استبداله. يجب أن نكون بالقوة التى تمكننا من خوض المرحلة الجديدة المقبلة المليئة بالطموحات العالية والانتقال إلى الصف الأول من الدول المعنية والمؤثرة فى الثقافة العالمية. لقد كنا كذلك على الدوام، واليوم نعلن أننا بدأنا هذا الأمر مجددًا، بوصلتنا هى عدالة التعليم، وساحتنا هى التراث العالمى.







