ندى فاضل الربيعى: الهواتف سجون نحملها فى جيوبنا
- كل «تطبيق إلكترونى» ندخله نتنازل له عن جزء من خصوصيتنا
- عندما تصبح الأجهزة قادرة على مراقبتنا نفقد جزءًا من إنسانيتنا
- الخطر الحقيقى أن نسمح لـ«الأتمتة» أن تكون بديلًا عن الاختيار
غادرت الباحثة العراقية، الدكتورة ندى فاضل الربيعى، وطنها برفقة عائلتها، فى ثمانينيات القرن الماضى، لتبدأ رحلة منفى طويلة، كانت محطتها الأولى سوريا، قبل أن تستقر فى هولندا.
وفى عام 2023 حصلت الدكتورة «ندى» على درجة الدكتوراه من جامعة «ماريلاند» الأمريكية فى مجال إدارة الصحة العامة، من خلال رسالة تناولت استخدام القنب الهندى فى العلاج داخل الولايات المتحدة، لتصبح بذلك أول امرأة عربية متخصصة فى هذا المجال.
ابنة الباحث العراقى الكبير فاضل الربيعى، أحد أبرز الأسماء فى علم الآثار والتاريخ، تفتح قلبها لـ«حرف»، فى حوار يتوقف عند محطات رحلتها بين المنافى وصولًا إلى الاستقرار، ويكشف كيف استطاعت أن تصبح من أبرز رائدات الأعمال فى هولندا مع حفاظها على هويتها، إلى جانب دور الأب فى مسيرتها، وجهودها لاستكمال أبحاثه غير المنشورة مثل «اكتشاف أورشليم».

■ مررتِ برحلة طويلة من العراق مرورًا بسوريا وقبرص حتى هولندا.. ما أبرز كواليس هذا المشوار؟
- رحلتى لم تكن مجرد انتقال جغرافى، بل كانت سلسلة من التحوّلات الإنسانية. غادرنا العراق فى وقتٍ كانت فيه الظروف صعبة للغاية، فكانت سوريا محطتنا الأولى، وهناك تعلّمت معنى التكيّف والصبر. ثم انتقلنا إلى قبرص ويوغسلافيا. وكانت تلك المرحلة مليئة بالتحديات المتعلقة باللغة واختلاف الثقافة، لكنّها منحتنى مساحة لاكتشاف نفسى وإمكاناتى. وفى النهاية وصلنا إلى هولندا البلد الذى بدأ فيه كل شىء من جديد.
فى كل محطة كنت أتعلم: كيف أكون أقوى، وكيف أبدأ من الصفر دون أن أفقد هويتى أو ثقتى. هذه الرحلة الشاقة صنعت ما أنا عليه اليوم، امرأة تؤمن بأن الظروف قد تغيّر مسار الإنسان، لكن لا يمكنها أن تسلبه إصراره.
■ لم تعوقكِ اللغة والثقافة عن مواصلة دراستك حتى أصبحتِ من أبرز سيدات الأعمال فى هولندا، تحديدًا فى مجال صناعة الدواء (الصيدلة).. كيف تغلّبتِ على الصعاب، وما دور والدك فى ذلك؟
- الصعوبات كانت كثيرة: لغة جديدة، مجتمع مختلف، ومسار أكاديمى صعب. لكننى كنت أؤمن بأن العلم هو الطريق الأقوى للاندماج والنجاح. بدأت بتعلّم اللغة بجدية، ليس فقط من أجل الدراسة، بل لفهم الثقافة وطريقة التفكير هنا.
أما عن دور والدى د. فاضل، فكان محوريًا؛ كان دائمًا يذكّرنى أن الإنسان لا يُقاس بظروفه بل بما يصنعه من هذه الظروف. دعمنى نفسيًا وعلميًا، وغرس فىّ الانضباط، والإيمان بأن النجاح العلمى والمهنى مسئولية وليس امتيازًا.
ومع الوقت، تمكنت من دخول مجال صناعة الدواء والصيدلة، مجال دقيق يتطلب فهم العلم والاقتصاد والإدارة، وهنا بدأت رحلتى الحقيقية كريادية.
■ ما حقيقة أن خروج العائلة من سوريا لم يكن خيارها؟
- نعم، يمكن القول إن خروجنا من سوريا لم يكن خيارًا كاملًا. الظروف السياسية فى تلك المرحلة فرضت علينا الرحيل. كان القرار صعبًا ومؤلمًا. أحيانًا لا تختار الرحيل، بل الحياة تختاره لك.
■ ذكرتِ أن الوالدة كانت صارمة فى كل ما يخص الهوية العراقية داخل البيت.. هل كنتِ تغضبين من ذلك؟ وما رأى والدك فيها؟ وكيف ترينها الآن؟
- فى بداياتى كنت أشعر أحيانًا بالضيق كأى طفل يريد التكيّف بسرعة مع بيئته الجديدة. لكن والدتى كانت تؤمن بأن الإنسان الذى يفقد جذوره يفقد توازنه مهما حقق من نجاح. كانت تُصر على اللغة، والطعام، والعادات، وعلى الحفاظ على الروابط العائلية.
أما والدى، فكان يرى أن التمسك بالهوية لا يتعارض مع الاندماج، بل يحمى الإنسان من الضياع.
اليوم، عندما أنظر إلى الماضى، أشعر بالامتنان. الهوية هى ما جعلتنى أقف بثبات فى كل تلك البلدان التى مررنا بها. ما كنت لأكون بهذه القوة لو لم يكن البيت يتمسك بجذوره بهذا الشكل الجميل.

■ خلال حديثك عن استخدام القنب فى علاج بعض الأمراض وشفاء والدتك، أشرتِ إلى أن ابن سينا وصفه لمرضاه.. ما القصة؟
- عندما بدأت أبحث فى خيارات علاج الألم والالتهابات المزمنة لوالدتى، اكتشفت أن القنب الهندى ليس مجرد علاج حديث، بل له جذور تاريخية عميقة.
فى «القانون فى الطب»، يذكر ابن سينا استخدامات نبات القنب فى تخفيف بعض أنواع الألم وفتح الشهية ومعالجة بعض الأعراض العصبية. وجود هذا الإرث العلمى أكد لىّ أن الموضوع ليس مجرد توجه حديث أو نقاش اجتماعى، بل له أساس طبى قديم.
ما كنت أشير إليه هو أن العودة للتراث الطبى يمكن أن تساعدنا على فهم بعض العلاجات الحديثة، وأن العلم لا يبدأ من الصفر، بل يبنى على خبرات تمتد لقرون.
وبالفعل، كان استخدام القنب الطبى جزءًا من خطة علاج والدتى، وأسهم بشكل ملموس فى تحسين حالتها، ما جعلنى أتجه لاحقًا للتخصص والبحث فى صناعة الدواء وفهم النباتات الطبية بشكل أعمق.
فقررت أن أحصل على شهادة الدكتوراه فى مجال القنب الهندى. وفى عام ٢٠٢٣ أنهيت رسالة الدكتوراه من جامعة ماريلاند فى أمريكا فى مجال إدارة الصحة العامة، والبحث كان حول استخدام القنب الهندى فى العلاج فى أمريكا، لأُصبح بذلك أول امرأة عربية متخصصة فى مجال العلاج بالقنب الهندى.
■ لماذا اتجهتِ إلى دراسة الصيدلة ولم تختارى التاريخ والآثار كوالدك؟
- رغم إعجابى العميق بمجال التاريخ والآثار بسبب والدى، فإن ميولى الطبيعية كانت مختلفة. نصحنى الوالد بأن أدرس ما يمكن أن يؤمّن لى حياة كريمة ومستقلة أستطيع حينها أن أكتب وأبحث كما أشاء.
لاحقًا شعرت بأننى أستطيع من خلال عملى أن أُحدث تأثيرًا مباشرًا على حياة الآخرين، وأن أسهم فى تطوير علاجات جديدة.
أما التاريخ، فظل شغفًا جانبيًا، شيئًا أحبّه، لكنّه لم يكن الطريق الذى أرى نفسى أُبدع فيه مهنيًا.
■ ما الذى اكتسبتِه وتعلمتِه من والدك خاصة فى جانب البحث العلمى؟
- تعلمت من والدى ثلاثة مبادئ أساسية فى البحث العلمى: الدقة قبل الشهرة: وكان يؤكد دائمًا أن الباحث الحقيقى لا يلهث وراء الأضواء، بل وراء الحقيقة، والشك منهج، إذ علمنى ألا أقبل أى معلومة كما هى، بل أراجع مصادرها وأسأل لماذا وكيف؟
وكذلك الأخلاق العلمية، فكان يقول إن البحث دون أخلاق هو مجرد بيانات لا قيمة لها.
هذه المبادئ رافقتنى طوال دراستى وحتى عملى، وجعلتنى أرى العلم كمسئولية اجتماعية، لا مجرد مهنة.

■ هوجمت دراسات وأبحاث والدك د. فاضل.. كيف كان يتعامل مع ردّات الفعل حول عمله؟
- كان أبى يمتلك قدرة نادرة على فصل شخصيته عن نقد عمله. لم يكن يغضب، بل كان يعتبر الهجوم فرصة لتوضيح أفكاره أو لإعادة النظر فيها إن تطلب الأمر.
كان يؤمن بأن الفكرة القوية تصمد وحدها مهما اشتد الهجوم، وأن الحكم النهائى يجب أن يبقى للزمن ولتطبيقات العلم نفسها.
■ هل كان اتجاهك لكتابة «العبودية مقابل الأمن» قرارًا مؤجلًا لحين نجاحك العلمى؟
- نعم، يمكننى القول إن الكتابة كانت دائمًا بداخلى، لكنها كانت مؤجلة حتى أمتلك التجربة والرصيد العلمى الذى يجعل صوتى مُقنعًا. كنت بحاجة أن أعيش، وأتعلّم، وأفهم العالم قبل أن أكتب عنه.
كتابى «العبودية مقابل الأمن» لم يكن مشروعًا عابرًا؛ كان نتيجة سنوات من الملاحظة والدراسة والاحتكاك بثقافات وأنظمة مختلفة. شعرت بأن الوقت أصبح مناسبًا عندما وصلتُ إلى مرحلة مستقرة مهنيًا، تسمح لى بأن أكتب بموضوعية ووعى.
التجربة الثانية التى أعمل عليها الآن هو عملى فى مجال الموت الرحيم. أتمنى أن أستطيع إكمال كتابى حول هذا الموضوع قريبًا.
■ فى الكتاب أشرتِ إلى أن مع كل قفزة تكنولوجية تتآكل خصوصية الإنسان.. هل يعنى أننا نختار سجونًا نحيا فيها؟
- إلى حد كبير.. نعم. نحن نقبل التسهيلات التى تقدمها التكنولوجيا، لكننا نغفل أثمانها. كل جهاز ذكى هو باب مفتوح، وكل تطبيق مجانى هو عقد غير معلن نتنازل فيه عن جزء من خصوصيتنا.
نحن لا ندخل السجون بالقوة، بل نحملها فى جيوبنا ونسمح لها أن تعرف كل شىء عنّا. المفارقة أننا نحارب من أجل الحرية فى العالم الواقعى، بينما نتخلى عنها فى العالم الرقمى بإرادتنا.
■ ذكرتِ أن «إنترنت الأشياء» أشبه بالديستوبيا.. هل صار وجود البشر مهددًا من اختراعاتهم؟
- التهديد ليس وجوديًا بمعنى الفناء، بل وجوديًا بمعنى الهوية، التحكم، والخصوصية. عندما تصبح الأجهزة قادرة على مراقبتنا وتحليل سلوكنا والتنبؤ بقراراتنا، فإننا نفقد جزءًا من إنسانيتنا لصالح المنظومات الآلية.
إنترنت الأشياء ليس شرًا بحد ذاته، لكنه قد يتحول إلى بيئة ديستوبية إذا غاب التنظيم والوعى والاستخدام الأخلاقى.
الخطر الحقيقى هو أن نسمح للراحة أن تصبح بديلًا عن الوعى، وللأتمتة أن تكون بديلًا عن الاختيار.
■ إلى أى مدى يمكن للذكاء الاصطناعى وتطبيقاته توجيه الرأى العام واحتكار المعرفة؟
- الذكاء الاصطناعى أصبح قادرًا على التأثير فى الرأى العام إلى حدّ لم نكن نتخيله قبل سنوات قليلة. ليس لأنه يمتلك إرادة، بل لأنه يمتلك القدرة على معالجة البيانات بسرعة تفوق قدرة الإنسان بملايين المرات.
عندما تُغذّى الأنظمة ببيانات التفضيلات والسلوكيات، تستطيع أن تحدد ما نريد رؤيته، وما نميل لتصديقه، وما يمكن أن يغيّر قناعاتنا وهنا تكمن القوة والخطر.
الخطر الأكبر ليس فى قدرته على إنتاج المعرفة، بل فى قدرته على تنظيم ما نراه من معرفة، وبالتالى ما نفكّر فيه. إذا لم تكن هناك ضوابط أخلاقية وقانونية، يمكن للذكاء الاصطناعى أن يتحول من أداة للتقدّم إلى أداة لاحتكار المعلومات وتوجيه المجتمعات بشكل غير مباشر.
■ هل فقد الإنسان نفوذه بعد صعود الذكاء الاصطناعى؟
- لم يفقد الإنسان نفوذه تمامًا لكنه لم يعد يحتكر القرار. فى الماضى، كانت علاقة الإنسان بالتكنولوجيا قائمة على السيطرة- نحن نصمّم، ونحن نقرّر.
اليوم، ومع ظهور الذكاء الاصطناعى، انتقلنا إلى مرحلة تتداخل فيها الحدود: التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت شريكًا فى اتخاذ القرار، وأحيانًا بديلًا عنه.
النفوذ لم يُسلب من الإنسان، لكنه أصبح مشتركًا. والسؤال الحقيقى ليس: «هل فقدنا النفوذ؟» بل: «هل نحن قادرون على إعادة تعريف نفوذنا فى عالم تشاركه الآلات؟».
■ تعملين حاليًا على استكمال آخر مؤلفات د. فاضل الربيعى «اكتشاف أورشليم».. حدثينا عن الكتاب، وما طبيعة عملك عليه؟ وهل كانت بينكما نقاشات حوله؟ وما أهميته الآن؟
- «اكتشاف أورشليم» هو مشروع والدى الذى لم يكتمل وهو ثمرة سنوات طويلة من البحث فى الجغرافيا التاريخية ونقد الروايات التقليدية.
الكتاب ليس مجرد إعادة قراءة للتاريخ، بل محاولة جريئة لإعادة تحديد المكان والذاكرة والحدث.
عملى على الكتاب ليس مجرد جمع أوراق أو ترتيب مخطوطات. إنه فى الحقيقة استكمال لمشروع علمى لم يكتمل.
كانت بيننا نقاشات واسعة حول أفكاره الأخيرة، وكنت أتابع تطوّر أطروحاته خطوة بخطوة، لذلك أمتلك القدرة على مواصلة النهج ذاته دون الإخلال برؤيته.
أهمية الكتاب اليوم كبيرة جدًا، لأنه يأتى فى وقت يتصاعد فيه الجدل حول التاريخ والجغرافيا السياسية.
الكتاب يقدم قراءة جديدة ومختلفة عن السرديات التقليدية، ويمنح القارئ أدوات نقدية لفهم الجغرافيا التاريخية بعيدًا عن الأدلجة والقراءات الجاهزة.
■ هل فكّرتِ فى استكمال طريق د. فاضل فى أبحاثه حول التاريخ والآثار.. ولماذا؟
- فكّرت فى ذلك كثيرًا، وربما بطريقة لا يتوقعها البعض. أنا لا أرى نفسى باحثة آثار بالمعنى التقليدى، لكننى أرى أن مشروع والدى الفكرى لا يجب أن يتوقف بغيابه.
لذلك لن أسير فى الطريق نفسه تمامًا، لكننى سأعمل على نشر أعماله غير المكتملة وشرح منهجيته، وتقديم إرثه الفكرى للأجيال الجديدة.
الاستمرار فى مشروعه بالنسبة لىّ ليس بدافع التخصص، بل بدافع المسئولية. لقد ترك وراءه فكرًا يستحق أن يُسمع ويُناقش ويُفهم.. وهذا ما أراه دورى فى المرحلة المقبلة.







