أولاد العم خان!.. من الخمسينيات حتى ترامب.. أخطر أسرار «إخوان أمريكا»
- الجماعة تنشط فى الولايات المتحدة منذ الخمسينيات بشكل أكثر تنظيمًا من فرنسا وبريطانيا
- البداية كانت بتأسيس «جمعية الطلاب المسلمين» التى جندت الآلاف من الطلاب
- «وزير مالية الإخوان» يوسف ندا رسخ وجودها منذ السبعينيات عبر شبكة متبرعين أثرياء
- «مؤتمر لوجانو» أسهم فى تغلغل فكرها بمختلف الولايات من خلال مركز أبحاث «IIIT»
- التجنيد فى مصر والانضمام فى أمريكا عبر أئمة مساجد مُحددين كما حدث مع مرسى
- الجماعة بسطت هيمنتها على 4 مناطق: الشرقية والجنوب والغرب الأوسط والغرب
- أقاموا مخيمات خارجية للاجتماع بانتظام.. كل منها كان يضم حوالى ٢٥٠٠ شخص
تشهد الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة الأخيرة تحركات غير مسبوقة لتصنيف جماعة «الإخوان» كتنظيم إرهابى، وصلت إلى إدراجها بالفعل فى قائمة المنظمات الإرهابية من قبل ولايتى تكساس وفلوريدا.
ويتزامن قرار الولايتين الأمريكيتين مع أمر تنفيذى أصدره الرئيس دونالد ترامب، أواخر نوفمبر الماضى، يتضمن تكليف وزيرى الخارجية والخزانة، ماركو روبيو وسكوت بيسنت، بتجهيز تقرير يُسلم إليه خلال 30 يومًا، والبدء بعده فورًا فى تطبيق عقوبات على «الإخوان»، تتضمن حظر أنشطتها، ومصادرة أموالها. وإلى جانب التحركات الأمريكية لتصنيف «الإخوان» كتنظيم إرهابى على مستوى البلاد ككل، أعلن رئيس الوزراء البريطانى، أن حكومته تجرى مراجعة دقيقة حول «جماعة حسن البنا»، مع دراسة إمكانية حظرها.
وفى هذا السياق، تبرُز دراسة بحثية نشرتها جامعة «جورج واشنطن» ذائعة الصيت، قبل فترة وجيزة من تلك التحركات، تحمل عنوان «جماعة الإخوان المسلمين فى أمريكا: تاريخ موجز»، كيف رسخت «أقدم حركة وأكثرها نفوذًا» وجودها فى الولايات المتحدة، قبل عقود من تحولها إلى موضوع جدل سياسى فى الفترة الأخيرة، وهو ما تستعرضه «حرف» فى السطور التالية.

البداية: الخمسينيات
بين خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بدأ طلاب مهاجرون من الشرق الأوسط فى إنشاء مؤسسات ومنظمات طلابية، كان أولها ما تسمى «جمعية الطلاب المسلمين» أو «MSA»، وهى أول منظمة طلابية تنتمى لـ«الإخوان» فى الولايات المتحدة.
ولعب أعضاء ومتعاطفون مع فروع مختلفة من جماعة «الإخوان»، والذين استقروا فى الولايات المتحدة منذ خمسينيات القرن العشرين، دورًا محوريًا داخل المنظمة سالفة الذكر، والتى رغم أنها لم تكن منظمة «خالصة» فى تبعيتها لـ«الإخوان»، ارتبطت بصلات قوية بها.
ومنذ نشأتها، شغل أعضاء «الإخوان» مناصب رئيسية فى «جمعية الطلاب المسلمين»، مؤثرين فى أيديولوجيتها وتوجهاتها. علاوة على ذلك، أصبحت «MSA» بمثابة هيكل موازٍ لجماعة «الإخوان»، مُستقِلة، لكنها فى الوقت نفسه تمثل مصدرًا لا ينضب للتجنيد، وقناة مثالية لنشر أفكار الجماعة، خاصة مع إنشائها فروعًا فى مئات الجامعات، وتجنيدها آلاف الأعضاء والمتعاطفين الجدد.
كان لدى «MSA» أجندة أكثر طموحًا، وأصدرت أول مجلة لها حملت عنوان «الاتحاد». وغالبًا ما نشرت مواقف وكتابات كبار قيادات «الإخوان» مثل حسن البنا وسيد قطب، وأقامت مؤتمرات سنوية اجتذبت العديد من الطلاب وقتها، بالإضافة إلى تأسيس دار نشر للكتب، وكيانات مالية لجمع التبرعات.
وخلال سبعينيات القرن الماضى وأوائل ثمانينياته، عمل أفراد من المنظمات التابعة لـ«الإخوان» بالولايات المتحدة فى شركات مختلفة يملكها يوسف ندا، العضو البارز فى الجماعة، الذى لعب، من منفاه فى إيطاليا، دورًا حاسمًا فى تمويل الوجود الناشئ للجماعة فى الغرب ككل وليس الولايات المتحدة فقط، منذ ستينيات القرن الماضى.
كان «ندا» هو من عرّف القادة بمنظمة «MSA» على شبكته من المتبرعين الأثرياء. وكانت العلاقة وثيقة للغاية بينه وبين الولايات المتحدة، لدرجة أنه لم يكتفِ بشراء منزل فى إنديانابوليس، بل ولد ٣ من أبنائه الأربعة فى الولايات المتحدة.
فى عام ١٩٧٧، لعب يوسف ندا دورًا محوريًا فى تأسيس أحد أكثر مراكز الفكر تأثيرًا فى حركة «الإخوان» العالمية، من خلال دعوة بعض قادة الفكر الرئيسيين فيها إلى مؤتمر عُقد فى «لوجانو». ولم يكن اختيار المدينة السويسرية الساحرة عشوائيًا، إذ لطالما كانت «لوجانو» مقرًا لأنشطة «ندا» التجارية. وباعترافه، لعب دور «وزير المالية» الثرى لجماعة «الإخوان».
وخلال هذا المؤتمر، اتفق الحاضرون على أنه من أجل ترسيخ مكانتهم فى الغرب، كان على «الإخوان» تطوير منهجية علمية لتحسين نشر أيديولوجيتها. وكان من الأمور الحاسمة فى هذا المسعى إنشاء مركز أبحاث، هو المعهد الدولى «IIIT»، الذى قرر المشاركون فى المؤتمر اتخاذ الولايات المتحدة مقرًا له.
تأسس المعهد رسميًا فى ولاية «بنسلفانيا» عام ١٩٨٠، قبل أن ينتقل لاحقًا إلى ضواحى واشنطن العاصمة. وعُقد أول اجتماع لمجلس إدارته فى منزل أحد أعضاء الجماعة المقربين من يوسف ندا بولاية «ماريلاند».
ومنذ ذلك الوقت، عمل مركز أبحاث «IIIT» كعامل محفز لانتشار الفكر الإخوانى، مع تركيزه على ترجمة أعمال «مفكرى» وقيادات الجماعة البارزين إلى لغات غربية مختلفة ونشرها.
ومن المنظمات الطلابية إلى مرحلة النضج، أدرك قادة «MSA»، فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أن منظمة طلابية غير كافية. نتيجةً لذلك، أسسوا منظمة «ISNA»، وهى منظمة جامعة أُنشئت لتنسيق أنشطة «MSA» وغيرها من المنظمات المنبثقة عن نفس فكر جماعة «الإخوان».

ربع قرن من البحث
تستند الدراسة الأمريكية إلى ٢٥ عامًا من البحث، وتتضمن وثائق قضائية، ومنشورات داخلية، ومقابلات مع أعضاء سابقين فى «الإخوان»، كاشفة كيف ركزت الجماعة داخل الولايات المتحدة بشكل كبير على شبكات الطلاب والأوساط الفكرية، كجذور مبكرة نمت من خلالها، وصولًا إلى تأسيس منظمات ومؤسسات رئيسية كبرى تابعة لها فى أكثر من ولاية، مثل «CAIR» و«MSA» و«ISNA».
كما تشمل المصادر كتابات أكاديمية، ومنشورات لمنظمات وأفراد مرتبطين بالجماعة، ووثائق من المحاكم. وتُستكمل هذه الأدلة بشهادات شخصية عديدة لأفراد ينتمون أو كانوا ينتمون إلى الجماعة فى الولايات المتحدة.
وتؤكد الدراسة أن وجود «الإخوان» فى الولايات المتحدة كان منظمًا تنظيمًا جيدًا، حتى مقارنة مع دول أوروبية مثل فرنسا والمملكة المتحدة، مع وجود نفوذ قوى للجماعة داخل المجتمع المدنى الأمريكى والأوساط السياسية وصناع القرار.
الدراسة أعدها الأكاديمى لورينزو فيدينو، مدير «برنامج التطرف» فى جامعة «جورج واشنطن»، ونُشرت فى وقت لافت للنظر، خلال يوليو الماضى، تزامنًا مع تحركات داخل «الكونجرس» الأمريكى، تتمثل فى تقديم السيناتور الجمهورى، تيد كروز، من جديد، مشروع قانون لتصنيف «الإخوان» كتنظيم إرهابى، يحمل عنوان: «قانون تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية لعام ٢٠٢٥»، وكان النواة للأمر التنفيذى الصادر عن «ترامب»، أواخر نوفمبر الماضى.
وبحسب مؤسسة «هوملاند سيكيوريتى توداى» الأمريكية المتخصصة فى مجالات الأمن الداخلى، تُلقى الدراسة الضوء على تاريخٍ طالما أُسىء فهمه، أو لم يُدرس بالقدر الكافى، أو تم إنكاره تمامًا، مشيرة إلى أن وجود جماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة يعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضى، ومن يومها لم يكن توسعها عشوائيًا.
ومع اقتراب تسليم التقرير الذى طلبه «ترامب» من وزارتى الخارجية والخزانة، وتشكيل عدة لجان تشريعية لسن قانون لتصنيف جماعة «الإخوان» كتنظيم إرهابى، يصبح فهم ما قامت به الجماعة فعلًا داخل الولايات المتحدة أمرًا بالغ الأهمية، ما يعظم أهمية الكشف عن تفاصيل الدراسة الأمريكية.
تبدأ الدراسة بتأكيد أن قليلين حاولوا الكتابة أو البحث عن أصول «الإخوان»، وتحركاتها داخل الولايات المتحدة، معتبرة أن المعلومات المتوفرة حول تاريخ الجماعة فى البلاد كانت قليلة.
ورغم أن البعض شكك فى وجود «الإخوان» فعليًا فى الولايات المتحدة، تُشير أدلة كثيرة بوضوح إلى أن الجماعة كانت نشطة فى الولايات المتحدة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضى، بل كان وجودها كبيرًا ومنظمًا تنظيمًا جيدًا، حتى مقارنة مع دول أوروبية مثل فرنسا والمملكة المتحدة، حيث تتمتع الجماعة بحضور قوى هناك.
وتعد المعلومات الواردة فى الدراسة ثمرة أكثر من ٢٥ عامًا من البحث الدءوب الذى أجراه المؤلف، والذى لا يسعى إلى تقديم نظرة شاملة عن جماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة، وهى مهمة بالغة الصعوبة، بل يهدف إلى تقديم لمحة موجزة ولكنها مستنيرة عن تاريخ الجماعة هناك، متتبعًا أصول العديد من المنظمات التى حققت اليوم درجة عالية من النفوذ داخل قطاعات المجتمع الأمريكى، ولدى صانعى السياسات الأمريكيين.

السم فى العسل
من بين المصادر التى توثّق السنوات الأولى لجماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة، محاضرة ألقاها زيد النعمان، وهو مسئولٌ فى المكتب التنفيذى للجماعة فى الولايات المتحدة، أمام أعضاء آخرين من الجماعة، فى مدينة «كانساس»، أوائل ثمانينيات القرن الماضى.
من أبرز جوانب محاضرة «النعمان» مستوى التنظيم الذى وصفه، فبينما كانت الجماعة قد بدأت للتوّ فى ترسيخ وجودها فى البلاد، حدّد «النعمان» هيكلًا رسميًا بالغ التعقيد، موضحًا أن الجماعة كان لديها ما لا يقلّ عن ٢٠ هيئة ولجنة جماعية تعمل وفق تسلسل هرمى واضح، وتجتمع بانتظام. بينما ناقشت بعض اللجان أساليب الأمن أو الدعوة، وعملت الهيئات المركزية على صياغة والإشراف على خطط عمل دقيقة طويلة الأجل.
ووفقًا لـ«النعمان»، وافق «مجلس شورى الإخوان» فى الولايات المتحدة على خطط خمسية لأنشطة الجماعة، ووضع المكتب التنفيذى، الذى كان «النعمان» نفسه عضوًا فيه، برامج عمل سنوية لتنفيذ توجيهات «مجلس الشورى». وكانت خطة الفترة الخمسية ١٩٧٥-١٩٨٠ مجرد «عمل عام»، لكن الفترة الخمسية ١٩٨١-١٩٨٥ كشفت عن تحول كبير فى آراء «الإخوان الأمريكيين» وتصوراتهم لأهدافهم، فقد أدرك «مجلس الشورى» والمكتب التنفيذى أن بناء أنشطة الحركة على أساس منظمة طلابية كان أمرًا مقيدًا، وأنه كان لا بد من إيجاد حل أكثر استدامة.
وبحسب وثيقة بعنوان «مذكرة توضيحية حول الأهداف الاستراتيجية للجماعة فى أمريكا الشمالية»، والتى تُعدّ مذكرة داخلية من ١٨ صفحة أرسلها محمد أكرم، عضو «مجلس شورى جماعة الإخوان» فى الولايات المتحدة إلى بقية أعضاء المجلس، فى عام ١٩٩١، يذكر «أكرم»، الذى شغل لاحقًا منصب الأمين العام لمؤسسة إخوانية ترأسها يوسف القرضاوى، الزعيم الروحى لجماعة «الإخوان»: «بات من الواضح والمؤكد أن الجميع متفقون على أنه يجب علينا ترسيخ حركة الإخوان فى هذا الجزء من العالم (يقصد أمريكا)».
كان الهدف الاستراتيجى العام لـ«الإخوان» فى أمريكا، والذى وافق عليه «مجلس الشورى»، والمؤتمر التنظيمى لعام ١٩٨٧، هو إنشاء منظمة فعّالة ومستقرة بقيادة «الإخوان». ووفقًا لـ«أكرم»، كان من الضرورى إبقاء بعض أنشطة الجماعة الأساسية، والأهم من ذلك أهدافها، سرية. ومن أجل خلق وجود مستقر وواسع النطاق فى البلاد، تحتاج جماعة «الإخوان» إلى الانفتاح على العالم الخارجى، خاصة على المجتمعات المختلفة فى أمريكا الشمالية.
وأكد أن استيعابهم وكسب تأييدهم بكل فصائلهم وتوجهاتهم فى أمريكا وكندا أمر بالغ الأهمية لمشروع الاستقرار، وأنه يجب تعلم فن التعامل مع الآخرين. كما أن إتقان فن التحالفات، وفن الاستيعاب، ومبادئ التعاون، لا يقل أهمية، مضيفًا: «من أجل نشر رسالة الإخوان فى الولايات المتحدة، تحتاج الجماعة إلى أن تصبح منظمة منفتحة وعلنية، تتواصل مع الأعضاء والحلفاء المحتملين».
وأكد «أكرم»، فى الوثيقة، أن «الإخوان» مُطالَبة بإنشاء مراكز متعددة الوظائف، تُشكل قواعد تنطلق منها لاستقطاب أتباع جدد، مثل «خلية نحل تُنتج عسلًا حلوًا» وفقًا لوصفه، ويجب على أفراد الجماعة التخطيط والعمل من الآن لتجهيز أنفسهم وإخوانهم وأجهزتهم وأقسامهم ولجانهم، وإعدادها لتصبح منظمات شاملة بطريقة تدريجية ومتوازنة تتناسب مع الحاجة والواقع.
وتُفصّل الصفحات الخمس الأخيرة من مذكرة «أكرم» كيف يمكن لـ«الإخوان»، بل ويجب عليهم، تشكيل منظمات تعمل على مستويات مختلفة، لتعزيز أجندة الجماعة، مشيرًا إلى أن معظم هذه المنظمات موجودة بالفعل، لكنها تعمل دون سيطرة مركزية تُذكر، مضيفًا: «يجب أن يكون هدف الإخوان هو دمج الجماعة وتنسيق عملها بطريقة متماسكة».
وأخيرًا، تتضمن الوثيقة ملحقًا من صفحة واحدة يشمل قائمة بـ٢٩ منظمة أمريكية تنتمى إلى حركة «الإخوان»، يشير «أكرم» إلى أنها بحاجة إلى تخطيط مركزى. ويتصدر الصفحة تعليقٌ: «تخيلوا لو ساروا جميعًا وفقًا لخطة واحدة».
وذكر منظمات مثل «ISNA»، و«MSA»، و«NAIT»، و«IIIT»، وغيرها، باعتبارها كيانات تابعة لشبكة «الإخوان» فى الولايات المتحدة، ينبغى على الجماعة تحسين تنسيقها من أجل تحقيق أهدافها، مع إمكانية أن يُغذى التمويل الأجنبى الوفير نمو هذه الكيانات.

سماسرة الدعوة
خلال العقود الماضية، وسّعت معظم المنظمات الـ٢٩ المُدرجة فى الوثيقة سالفة الذكر نطاقها بشكل كبير، وأنشأت عددًا لا يحصى من الفروع. وتتألف هذه المنظمات من بضع مئات من الناشطين الأساسيين وبضعة آلاف من الأعضاء، وتشكل شبكة متماسكة من المنظمات، التى على الرغم من بعض الخلافات العرضية، تعمل معًا بتوزيع فعال للأدوار، وتمكنت من التفوق على تيارات ومنظمات «الإسلام السياسى» المنافسة بدرجة تتجاوز مثيلتها فى معظم الدول الأوروبية.
كان من الأمور الحاسمة لتطوير هذه الشبكة، والتأثير على العديد من الأفراد والمنظمات التى لم تكن تنتمى إلى «الإخوان»، هو الوصول إلى موارد مالية وفيرة. وبالتأكيد، لم يكن هذا النجاح ليتحقق لولا حماس أعضائها وقدراتهم التنظيمية. ولكن ضمان التمويل الكبير يُعد بلا شك العامل الأهم فى توسع جماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة، كما هو الحال فى دول غربية أخرى.
ونظرًا لعلاقاتهم الواسعة فى الشرق الأوسط، تمكنوا من جلب الأموال لبناء مؤسسات مختلفة، وأسسوا شبكة معقدة من الأنشطة المالية والسياسية والدينية التى بلغت قيمتها ملايين الدولارات. ويُعد إنشاء مؤسسة «SAAR»، ومقرها «شمال فرجينيا»، وهى الكيان القابض لهذه المشاريع، مثالًا واضحًا على وفرة الموارد المالية التى يتمتع بها «الإخوان» فى الولايات المتحدة.
منذ تأسيسها، تلقت «SAAR » دعمًا ماليًا كبيرًا من متبرعين أثرياء من دول الشرق الأوسط. ويقول يعقوب ميرزا، نائب رئيس المؤسسة الرئيس السابق لـ«MSA»: «طلبنا من الممولين للجماعة أن يمنحونا مبلغًا إجماليًا كبيرًا بدلًا من مبالغ أصغر كل عام».
وأوضح «يعقوب» آليات جمع التبرعات التى اتبعتها المؤسسة فى أوائل الثمانينيات، قائلًا: «بهذه الطريقة كنا نجمع ما بين ١٠ ملايين دولار و٢٠ مليون دولار سنويًا». وكشف تقرير استقصائى نشرته صحيفة «واشنطن بوست» عام ٢٠٠٢، عن تفاصيل تلك التمويلات المشبوهة.
كان التمويل الوفير من دول الشرق الأوسط عاملًا حاسمًا فى نمو جماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة. تضاءل هذا التدفق إلى حد ما فى السنوات الأخيرة، بعدما أدت الأحداث الجيوسياسية إلى تخلى معظم تلك الدول عن أى دعم للجماعة. لكن «الإخوان» تمكنت على مر السنين من خلق إيراداتها الخاصة من خلال الاستثمارات فى مجالات شديدة التباين: من العقارات إلى التمويل، ومن شركات البرمجيات إلى مصانع الدواجن، مع تطوير شبكات واسعة لجمع التبرعات على مستوى البلاد. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن المنظمات المرتبطة بالجماعة أظهرت قدرة ملحوظة على الحصول على تمويل من الولايات والحكومة الفيدرالية للعديد من أنشطتها.
أخونة الكونجرس
بدأت الجماعة فى دخول الحياة السياسية الأمريكية. وفى عام ١٩٨٦، ذكرت لجنة التخطيط التابعة لمنظمة (ISNA) أنه «من أجل التأثير على عملية صنع القرار السياسى يجب إطلاق حملة توعية للمنتمين للمنظمات الإخوانية بحقوقهم الانتخابية وحثهم على التصويت».
وفى غضون سنوات قليلة، تم إنشاء العديد من المنظمات من قبل جماعة «الإخوان» لزيادة مشاركتها فى الحياة السياسية الأمريكية. وفى عام ١٩٩٠، أسس محمود أبوالسعود، الزعيم البارز بالجماعة فى مصر، أحد آباء الصيرفة الإسلامية الحديثة، منظمة «AMC» مع نشطاء آخرين.
ترأس «AMC» عبدالرحمن العمودى، الذى كان يشغل حتى ذلك الحين منصب ممثل منظمة «ISNA» فى منطقة واشنطن. واستغلت «AMC» ثروة قادتها وعلاقاتهم لإقامة روابط مهمة مع نخب واشنطن، وسرعان ما أصبح أعضاؤها زوارًا منتظمين للبيت الأبيض، وأقاموا علاقات ودية مع كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية، وعقدوا اجتماعات متكررة مع أعضاء «الكونجرس»، بل ونجحوا فى الضغط على «الكونجرس» للسماح لعضو من «الإخوان» بإلقاء أول خطاب افتتاحى فى دورة البرلمان.
ومن منتصف التسعينيات، أصبح «العمودى» شخصية بارزة فى الحياة السياسية بواشنطن، وخططت منظمته لفعاليات مع جماعات الحوار بين الأديان، وتواصلت مع قادة البلاد البروتستانت والكاثوليك واليهود على أعلى المستويات.
وحضر ممثلو «الكونجرس»، وأعضاء مجلس الشيوخ والأساقفة وشخصيات إعلامية، حريصون على إقامة علاقات مع «الإخوان»، فعاليات الجماعة بحماس شديد، التى كانت تُعقد غالبًا فى أفخم فنادق واشنطن.
وبعد اجتماعات مطولة، وضعت وزارة الدفاع «العمودى» فى موقع قوى لتدريب الأئمة فى الجيش الأمريكى، والتحقق من خلفياتهم. ولسخرية القدر، أشاد مكتب التحقيقات الفيدرالى «أف بى آى» بمنظمته، واصفًا إياها بأنها «أكثر جماعات الإسلام السياسى انتشارًا فى الولايات المتحدة»، بل إن وزارة الخارجية عينته «سفيرًا للنوايا الحسنة»، وطلبت منه بانتظام السفر حول العالم.
لكن فى عام ٢٠٠٣، اكتُشف أمر غير متوقع، خلال تفتيش جمركى روتينى، إذ تبين أن «العمودى» أخفى ٣٤٠ ألف دولار فى حقيبته. وكشف تحقيق عن أنه كان يهرّب أموالًا من ليبيا بطريقة غير شرعية منذ عام ١٩٩٥، وأن جزءًا من هذه الأموال كان مخصصًا لدعم مؤامرة غامضة لتنفيذ اغتيالات.
وبعد عام، أقر «العمودى» بذنبه فى جميع التهم الموجهة إليه، وحُكم عليه بالسجن ٢٣ عامًا. كما كشف التحقيق أيضًا عن تعاملاته المالية مع منظمات إرهابية مصنفة من قبل الولايات المتحدة، مثل «القاعدة»، والتى اتهمته وزارة الخزانة الأمريكية بجمع الأموال لها فى الولايات المتحدة.
وبرز العديد من الانقسامات بين فصائل «الإخوان» فى الولايات المتحدة. وفى عام ١٩٩٢، ولمواجهة ظاهرة التآكل الجزئى لسيطرة الجماعة، اجتمع الطبيب المصرى أحمد القاضى، الذى كان آنذاك رئيسًا لـ«مجلس شورى الإخوان» فى الولايات المتحدة، مع نشطاء بارزين آخرين فى الجماعة، بمن فيهم مرشدها محمد عاكف، فى فندق على حدود «ألاباما» و«تينيسى»، بعدما خاب أمل «الإخوان» فى التوجه الذى اتخذته بعض المنظمات المنبثقة عنها، وخافوا من فقدان نفوذهم.
وأعرب قادة «الإخوان» فى الولايات المتحدة عن قلقهم البالغ بشأن منظمة «ISNA» تحديدًا، كما جاء فى مذكرة داخلية لـ«مجلس الشورى» عام ١٩٩١، حيث بدأ نشاطها فى التضاؤل تدريجيًا. وبسبب ذلك اتخذ قادة «الإخوان» قرارًا بإنشاء منظمتين جديدتين، هما «MAS»، و«CAIR»، اللتان تُمثلان فكر جماعة «الإخوان» بشكل مباشر.
هوس بالطاعة العمياء
يؤكد العديد من الوثائق الداخلية لجماعة «الإخوان»، التى استعادتها الحكومة الأمريكية، والكتابات المنشورة لأعضاء الجماعة، مدى تعقيد وحجم فرعها فى الولايات المتحدة، خاصة بداياته، وهو ما كشفته أيضًا اعترافات أفراد مختلفين كانوا على دراية وثيقة بالجماعة.
أحد هؤلاء المطلعين هو عضو سابق فى جماعة «الإخوان» بالولايات المتحدة، ويدعى حسين المشد، الذى نشأ فى أسرة متدينة بالقاهرة، وفى ستينيات القرن الماضى، أثناء دراسته الثانوية، بدأ بحضور حلقات دراسية لـ«الإخوان».
استمرت تفاعلات «المشد» وشغفه بالجماعة أثناء دراسته إدارة الأعمال فى الأزهر. ولم ينضم رسميًا إليها إلا فى عام ١٩٧٨. ومن المثير للاهتمام أن انضمامه لم يتم فى مصر، بل فى ولاية «نيوجيرسى»، التى انتقل إليها لمواصلة دراسته.
قبل مغادرته مصر، طلب منه أحد قادة «الإخوان» فى مصر أن يُعرّف نفسه على إمام مسجد فى «جيرسى سيتى»، كان تابعًا للجماعة، وذلك لاستكمال عملية اندماجه. وبالفعل، بعد أسابيع قليلة من لقائه بالإمام انضم «المشد» رسميًا إلى «الإخوان».
يقول «المشد» مُتذكرًا هذه الأيام: «كانت العملية سريعة، لأننى كنت قد بدأتها بالفعل فى مصر، حيث زُكّيتُ من قِبل أعضاء بارزين فى الجماعة هناك». وتُشير عملية انضمام «المشد»، التى بدأت فى مصر، وأُضفى عليها الطابع الرسمى فى الولايات المتحدة، إلى مستوى عالٍ من التواصل بين «الإخوان» فى العالم العربى والغرب والولايات المتحدة.
حالة «المشد» ليست فردية، فمحمد مرسى الإخوانى الذى شغل منصب رئيس مصر بعد «الربيع العربى»، بدأ تعليمه فى صفوف الجماعة فى مصر، لكنه انضم إليها رسميًا فى «كاليفورنيا»، أثناء دراسته الدكتوراه فى الهندسة، وتدريسه كأستاذ مساعد بجامعة «كاليفورنيا»، فى ثمانينيات القرن الـ٢٠.
بعد انضمامه، وُضع «المشد» فى هيكل معقد، يُحاكى، وإن كان على نطاق أصغر، هيكل جماعة «الإخوان» فى مصر، وأصبح جزءًا من فرع الجماعة فى «نيوجيرسى»، والذى كان بدوره جزءًا من هيكل إقليمى معقد.
بسطت «الإخوان» هيمنتها على ٤ مناطق فى الولايات المتحدة، أولاها المنطقة الشرقية من «بوسطن» إلى «فرجينيا»، إلى جانب الجنوب، والغرب الأوسط، والغرب. وكان أعضاء كل منطقة يجتمعون بانتظام، غالبًا فى مخيمات خارجية. ويقول «المشد» إنه فى بعض هذه المخيمات، كان هناك حوالى ٢٥٠٠ شخص!
وبحسب «المشد»، لطالما كانت مناطق، مثل «شيكاغو» و«نيويورك» و«نيوجيرسى» و«واشنطن العاصمة» و«كاليفورنيا»، مراكز رئيسية لجماعة «الإخوان» فى البلاد. لكن للجماعة وجود أيضًا فى المدن الثانوية والمناطق النائية.
ويضيف: «جميع أعضاء جماعة الإخوان فى أمريكا يعرفون بعضهم بعضًا، فنحن عائلة واحدة كبيرة. وبينما يتفاعل القادة باستمرار، تُعد المؤتمرات الوطنية للمنظمات العامة فى هذا الوسط مناسبةً لاجتماعهم جميعًا. وبالمثل، تخدم هذه التجمعات غرض تعزيز الشعور بالانتماء لدى الكوادر، واستقطاب الأفراد الذين هم بصدد الانضمام إلى جماعة الإخوان».
ولعب «المشد» دورًا محوريًا فى هذا الوسط لنحو عقدين من الزمن، وكان مُقربًا من معظم كبار قادة جماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة. وكثيرًا ما كان قادة الجماعة من الخارج، من بينهم المرشد السابق محمد عاكف، يقيمون بمنزله فى «نيوجيرسى» عند زيارتهم الولايات المتحدة. وكما هو شائع، تزامنت عضويته فى الهيكل «السرى» للجماعة مع أدواره فى المنظمات «العامة» التابعة لها.
وكان حسين المشد عضوًا فى منظمة «ISNA»، وشغل منصب أمين صندوق جمعية «MAYA» لمدة ٦ سنوات، وشارك فى العديد من الأنشطة المالية لجماعة «الإخوان» فى الولايات المتحدة، بدءًا من جمع التبرعات لمدرسة الجماعة المحلية فى «جيرسى سيتى»، وصولًا إلى شغل مناصب رئيسية فى منظمات مختلفة مرتبطة بالجماعة. ويرى «المشد» الآن، بعد خروجه من «الإخوان» عام ٢٠٠٣، أن القيادة الحالية للجماعة، فى مصر كما فى الولايات المتحدة، انحرفت وفقدت بوصلة «الروحانية» و«العمل الشعبى»، لتركز على السياسة والسلطة، مؤكدًا أن «الهوس بالسرية والطاعة العمياء ليسا سوى بعض من الانحرافات العديدة التى يطبقها الجيل الحالى الذى يقود الإخوان».







