الأربعاء 27 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

سر الشاعر الأصم.. البريطانى ريموند أنتروباس: الشعر منحنى حريتى

حرف

- الكتابة جعلتنى لا أخجل من إعاقتى وسماعاتى

- أنا ابن مهاجر جامايكى كان يتعمد إهانتى فى صغرى عبر وصفى بـ«الأبيض»

يذكر الكاتب والشاعر البريطانى ريموند أنتروباس، فى كتابه الجديد «الأذن الصامتة»، أن والده فى صغره كان يناديه بـ«الأبيض» عندما يكون ثملًا، ويناديه بـ«الأسود» فى أوقات الصحو، مشيرًا إلى أن والده كان يتعمد إهانته بكلمة «الأبيض» هذه!

«أنتروباس»، البالغ من العمر 39 عامًا، يتحدث عن الأمر بهدوء وتأمل. وكشخص أصم يعتمد على السماعات الطبية وقراءة الشفاه للتواصل، يقول: «طالما اضطررت إلى تفسير نفسى للآخرين»، حتى وصل إلى نقطة قال فيها: «ماذا لو لم أكن مضطرًا لفعل ذلك؟ كيف يبدو شكل الحرية بالنسبة لى؟».

العلاج بالإبداع

كتابة الشعر هى ما قاد ريموند أنتروباس إلى هذه المرحلة، مرحلة الحرية، وجلبت له تقديرًا نقديًا واسعًا، منذ مجموعته الأولى «المثابرة»، الصادرة عام ٢٠١٨، وحازت على جائزة «راثبونز فوليو»، المعروفة اليوم باسم «جائزة الكُتّاب»، إلى جانب جائزة «صنداى تايمز» لأفضل كاتب شاب هذا العام.

وحصد الكاتب والشاعر البريطانى أيضًا، عن مجموعته الأولى، جائزة «تيد هيوز»، التى تحمل مفارقة لافتة، وهى أن مجموعته الفائزة تضم نسخة منقحة من قصيدة «مدرسة الصم» لـ«هيوز»، إلى جانب تعليق كتبه «أنتروباس» عليها، ينتقد تصويرها الجارح للأطفال الصم.

فى قصيدته السالفة، يصوّر «هيوز» الطلاب الصم على أنهم يفتقرون إلى «الهالة المتذبذبة الدقيقة للصوت»، ويصفهم بأنهم «متنبهون وبسطاء». لكن «أنتروباس»، فى قصيدته «بعد قراءة مدرسة الصم عند نهر المسيسيبى»، يعكس المعنى، موجّهًا الوصف إلى تيد هيوز نفسه: «تيد متنبه وبسيط/ تيد يفتقر إلى الهالة المتذبذبة الدقيقة للصوت».

الدافع الذى يحرك «أنتروباس» هو الرغبة فى فهم الناس ودوافعهم. وهو يرى أن إهانة «الأبيض» من والده كانت انعكاسًا لانعدام أمانه تجاه هويته، فوالده، المولود فى ريف جامايكا، كان صاحب بشرة أغمق من إخوته السبعة، ما ولّد لديه شعور «البطة القبيحة السوداء» منذ الصغر، قبل أن يُرسل ليعيش مع عمته فى كينجستون، عندما كان فى الثالثة.

عندما أصبح شابًا، وبعد أن انتقل والده إلى إنجلترا، استُدعى للالتحاق به، فانتقل أولًا إلى وولفرهامبتون ثم لندن، حيث التقى والدة «أنتروباس» فى حفلة لأشخاص يعملون فى ترميم المبانى المهجورة. كانت علاقتهما تتسم بغياب والده المتكرر، لكنها استمرت بشكل أو بآخر، حتى كان «أنتروباس» فى الرابعة أو الخامسة. حينها، تدخلت جدته للمساعدة فى تربيته هو وأخته الكبرى.

وحتى فى طفولته، كان يشعر بعلاقة والده المعقدة مع وطنه، فخلال زيارة إلى جامايكا، بعد ١٥ عامًا من رحيله عنها، وجد أن المكان قد تغير كثيرًا، ولم يعد يستطيع التواصل مع الناس بنفس الطريقة، ثم بدأوا يلقبونه بـ«الأبيض» لأنه كان بعيدًا عنهم لفترة طويلة.

بالإضافة إلى كونه ابن مهاجر جامايكى من الجيل الثانى، فإن الكاتب من جهة والدته البيضاء مرتبط بالسير إدموند أنتروباس، مالك العبيد الذى كانت له مزارع فى جامايكا وجويانا البريطانية، ويقول عن ذلك: «يعطينى منظورًا عن وطنى ولغتى دائمًا كأن قدمى على اليابسة وقدمى الأخرى فى البحر».

بحث فى نسب عائلته، وزار قرية «أنتروباس» فى تشيشير، التى جاء منها الاسم. ويقول: «ثروة إدموند أنتروباس لم تصل إلى عائلتى، أو للأنتروباسيين الذين يعيشون هناك فى القرية. الثروة ذهبت لهؤلاء الأحفاد الموجودين فى جنوب إفريقيا، والذين أصبحوا أكثر ثراءً بفضل مناجم الماس»، ثم يتساءل: «هل ينبغى أن أشعر بأننى متواطئ فى ذلك؟».

الطريقة الوحيدة التى وجدها «أنتروباس» للتصالح مع هويته هى الإبداع. يقول: «لقد قاتلت من أجل الإبداع، شعرت به، وقادنى إلى التفكير فى كيفية إدخال الآخرين فى هذه التجربة». 

كان عمله فى التدريس هو الحل. إذ يعمل كمدرس حر للشعر، ومحرر وعضو فى مجلس إدارة «مدرسة الشعر»، ويعتبر ذلك أحد السبل لمساعدة الآخرين. لكنه يشعر بالذنب لأنه لم يعد قادرًا على تولى الكثير من هذا العمل مؤخرًا، ويضع على نفسه ضغطًا كبيرًا لـ«رد الجميل»، مضيفًا: «أحمل شعور ذنب الناجى».

ولد «أنتروباس» فى «هاكنى» شرق لندن عام ١٩٨٦، ونشأ متنقلًا بين مدارس للصم وأخرى للسامعين، وتلقى دعمًا متخصصًا مكّنه من تعلم الكلام والكتابة ولغة الإشارة وقراءة الشفاه بكفاءة. يقول: «زرت مدارس للصم على مدار عقد، وما زلت لم أرَ رعاية تضاهى ما تلقيته».

وبسبب إغلاق مدارس الصم وخفض الدعم المخصص لهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فإن الحصول على نفس المستوى من الدعم اليوم «يتطلب أن أكون ابن أرستقراطى»، ودون ذلك الدعم ربما لم أكن لأصبح كاتبًا.

وهذا الدعم لا يعنى أيضًا أن حياته كانت سهلة. لفترة طويلة كان يتجنب أى شىء قد يجعله يبدو أكثر صممًا. والداه، وكلاهما يسمع بشكل طبيعى، لم يتعلما لغة الإشارة، ولا تزال أمه تشعر بالذنب تجاه ذلك. لكنه يعلق: «لم يكن ذنبها وحدها، فقد كنت أرفض ذلك أيضًا».

ويشرح: «فى طفولتى كنت أحاول إخفاء صممى، كنت أزيل سماعاتى عند التقاط الصور، وأرفض استخدام لغة الإشارة البريطانية أمام الأطفال السامعين خجلًا. ولتفادى التنمر انضممت إلى فرق الصم والفرق السامعة فى كرة القدم وألعاب القوى والسباحة، هذا ما أنقذنى نوعًا ما، إذ منحنى تميزى الرياضى مكانة اجتماعية وفرت لى حماية من التنمر، الذى كان يتعرض له الأطفال الصم الأقل حظًا فى الرياضة».

بعد أن كتب ٣ مجموعات شعرية حازت الإشادة، وكتابين للأطفال كان أولهما: «هل تستطيع الدببة أن تتزلج؟»، وهو أول قصة قبل النوم على قناة «CBeebies» تُروى بلغة الإشارة على يد الممثلة الصماء روز آيلينج إليس- اتجه الآن إلى كتابة النثر للكبار، من خلال كتاب «الأذن الصامتة».

الأذن الصامتة

كتاب «الأذن الصامتة» يكرّم معلمى ريموند أنتروباس من مختصى تعليم الصم، ويسعى لإظهار سبب استحقاق الأطفال الصم لمزيد من الدعم. يصفه بأنه «مذكرات كنوع من المناصرة»، ويروى فيه أحداثًا من حياته ويمزجها بتاريخ الصم، مع دعوة للتحرك من أجل نيل حقوقهم.

يبدو الكتاب مناسبًا لهذه المرحلة، فى وقت يشهد فيه قطاع الصحة أزمة، وتتعرض تدابير التنوع والشمول للتهديد فى أنحاء العالم. لدى «أنتروباس» تجربة مباشرة مع ثقافة «مناهضة الصحوة» فى الولايات المتحدة، إذ عاش فى أوكلاهوما مع زوجته الأمريكية السابقة لـ٣ سنوات، وفى النهاية، كانت تكلفة الرعاية الصحية الخاصة السبب فى عودتهما إلى المملكة المتحدة.

فعندما كانا ينتظران مولودهما، تلقيا «فاتورة جنونية». كانا يخططان للعودة بعد الولادة، لكن مخاوفهما من نهج الولايات المتحدة فى «الرعاية الصحية وسياسات التنوع، وكل تلك الأمور التى تبدو كخيال علمى» جعلتهما يقرران البقاء فى بريطانيا. ورغم انفصالهما لاحقًا، يواصلان رعاية ابنهما معًا فى «مارجيت».

لكن المملكة المتحدة، وإن كانت أفضل فى بعض النواحى لتربية الأطفال، لا تزال «على مستوى الصف الابتدائى»، فيما يتعلق بالتفكير فى الإعاقة عمومًا، على حد قول «أنتروباس».

ورغم أنه سعيد برؤية بعض التطورات الإيجابية لحقوق الصم، مثل فوز آيلينج إليس فى برنامج «الرقص مع النجوم» عام ٢٠٢١، وتشريع قانون لغة الإشارة البريطانية عام ٢٠٢٢، الذى وضع اللغة على طريق الاعتراف الرسمى، يشعر فى المقابل بالإحباط من خطط الحكومة لخفض مدفوعات الاستقلال الشخصى لذوى الإعاقة، واستمرار إغلاق مدارس الصم.

«مارجيت»، حيث يعيش منذ عام، لها «تاريخ بارز مع الصم»، لكن المدرسة الملكية للأطفال الصم هناك أغلقت بدون بديل منذ عام ٢٠١٥، ونادى الصم هناك لم يعد قائمًا. يقول: «لم أستطع الوصول إلى مجتمع الصم هنا. لقد تلاشى. وأعتقد أن هذا مثال على ما يحدث فى جميع أنحاء البلاد، حيث هناك المزيد من الانعزال والانقسام والحواجز».

هذا الانعزال قد يكون قاتلًا، كما يوضح فى كتابه، حين يروى قصة زميله السابق «تايرون»، الذى كان يزين سماعات أذنه الزرقاء برسومات وملصقات، ما شجّع «أنتروباس» على تقبّل صممه. لكن بعد المدرسة فقد «تايرون» الاتصال بأصدقائه الصم، وعانى فى الاندماج مع عالم السامعين، وأدمن الكحول، واُعتقل بتهم عنف منزلى. وفى السجن لم يحصل على سماعات جديدة، بعد أن قرر المستشارون أن تواصله «جيد من دونها»، فانتهى به الأمر إلى الانتحار فى زنزانته!

لهذا يشعر «أنتروباس» بامتنان عميق لمعلميه ووالدته ومرشديه، لكل من أبقاه بعيدًا عن طريق مشابه. واليوم حين يقابل أشخاصًا لا يشعرون بأنهم «صم بحق»، يشجعهم على احتضان هويتهم وإيجاد مجتمعهم.

مؤخرًا اقترب من رجل يضع «قوقعة الأذن»، وحيّاه قائلًا: «أهلًا يا صديقى الأصم كيف حالك؟»، وبدأ الإشارة له. لكن الرجل ارتبك وشرح أنه لا يعرف لغة الإشارة، وأنه شعر بالاستبعاد من مجتمعات الصم بسبب مواقف إقصائية. وعندما طمأنه «أنتروباس» بأن عالم الصم أصبح أكثر انفتاحًا الآن، بدأ يبكى وقال: «شكرًا جزيلًا، كنت بحاجة إلى (إذن) لأكون شخصًا أصم!».

مدين للعالم

يأمل «أنتروباس» أن يمنح كتابه «الأذن الصامتة» هذا «الإذن» للمزيد من الأشخاص الصم، وأن يُثقَف السامعون حول احتياجات المجتمع. هو يرى أننا فى «مرحلة مثيرة وربما انتقالية» فيما يخص حقوق الصم وذوى الإعاقة، ويشعر بالتشجيع من تزايد الأصوات المعارضة للتغييرات المقترحة على أنظمة الإعاقة فى بريطانيا، ومن اهتمام الناس بعدالة ذوى الإعاقة، معتبرًا أن «هذا جيد، ويمنح الناس طاقة».

سيكون هناك جزء آخر من كتاب «الأذن الصامتة»، عن اللغة والصوت والطبقة الاجتماعية، ولكن ليس عن الصمم، كما يقول. وفى هذه الأثناء، يأمل فى العمل أكثر فى المجال الفنى، بعد أن تلقى تكليفات من متحف جوجنهايم ومركز بربكان، مُعقبًا: «هذا يأخذنى للتفكير فى بُعد جديد».

عندما تحدثنا كان على وشك السفر إلى إيطاليا للإقامة لمدة شهر فى مؤسسة «سيفيتيلا رانييرى للفنانين والكتاب»، وهو ما يعتبره «مدهشًا». لكنه يشعر أيضًا ببعض الحزن والقلق، فهذه أطول فترة سيقضيها بعيدًا عن ابنه.

من الواضح أن «أنتروباس» يحب الأبوة. فعند أى ذكر لابنه البالغ ٣ سنوات، يصبح أكثر دفئًا ولطفًا. لكنه يعترف «الأمر صعب، موازنة العمل مع الأبوة»، مضيفًا: «عندما أطلب من والدة ابنى الاعتناء به أثناء سفرى للعمل ألقى عليها عبئًا».

يحاول ألا يفرط فى القلق من أمور مثل تأثير وسائل التواصل الاجتماعى على هوية ابنه، أو كونه طفلًا أسود فى بلد شهد مؤخرًا أعمال شغب عنصرية. يقول: «لو انغمست كثيرًا فى ذلك، سأجن». لكنه يأمل أن يحظى ابنه «بقدر أكبر من اليقين بالجذور» مقارنة بما كان لديه هو كطفل.

ابنه يسمع لكنه يتعلم لغة الإشارة. يقول «أنتروباس»: «أراهن على أنه سيدرس لغة الإشارة البريطانية عندما يكبر». أما هو، فيتمكن الآن من التواصل أفضل من أى وقت مضى، مستخدمًا الإنجليزية المدعمة بالإشارة، ومعينات سمعية متطورة تتصل بهاتفه.

انتقل «أنتروباس» إلى عيادة سمعية خاصة بعد فوزه بجائزة «تيد هيوز»، ويعترف: «كمناصر لـهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، أشعر بالذنب». لكن حصوله على أحدث الأجهزة السمعية جعله «يسترخى أكثر»، فلم يعد مضطرًا للاعتماد على قراءة الشفاه كثيرًا.

«أنتروباس» مصمم على الاستفادة من كل ما مُنح له لإنتاج أعمال مثل «الأذن الصامتة»، ومواصلة الدفاع عن موارد أفضل للصم. يقول: «ربما مُنحت أكثر مما أعطيت. لذا، أنا مدين للعالم بالكثير».